يقدم المخرج يسري نصرالله على تجربة مختلفة في فيلمه الجديد «احكي يا شهرزاد». فهو إذ اختار موضوعاً أنثوياً بالكامل من باب الانتصار للأنثى في مواجهة «خيبات الذكورة الفجة»، فإنما ليؤكد أن خياره هذا موجود ومؤصل في أعماله كلها كما يقول، وربما اختار التأكيد أن تنازل الرجل والمرأة عن سلطاتهما في مواجهة بعضهما بعضاً يغدو أحياناً أمراً مريحاً للجميع، ويحمل في الوقت نفسه معاني سياسية. يسري نصرالله شارك أخيراً في مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي بصفته رئيساً للجنة تحكيم الأفلام القصيرة في دورته الثالثة (8 – 17 تشرين الاول (أكتوبر) 2009)، وهنا حوار معه دار بعد عرض فيلم «احكي يا شهرزاد»، في صالة قصر الإمارات ضمن عروض الاحتفاليات: تختار أسلوبية «ألف ليلة وليلة» في سرد الفيلم، وهي أسلوبية تصلح للتلفزيون عموماً! - أعتقد أن أسلوبية «ألف ليلة وليلة» موجودة في أفلامي كلها. يمكن القول إن «مرسيدس» فيه هذا الشغف، وكذلك ينطبق القول على «المدينة» و «باب الشمس» الذي تتداخل فيه الحكايات، وفيه شخصيات متعددة، وكل شخصية لها قصة. «احكي يا شهرزاد» لا يخرج عن هذا الإطار. لماذا تميل إلى هذا النوع من السرد الصعب والمكلف؟ - تقصد لماذا أميل إلى هذا الشغف. ربما يكمن الشغف لو أردت أن أجيبك في قيامي بعقلنته على طريقتي. الشغف موجود بهذه الطريقة أو تلك، وتوظيفه هكذا يتيح لي الخروج من أسر السرد الخطي الذي أجده في معظم الوقت متحكماً به من قبل الأيديولوجيا، التي تقوم بتسطيح هذا النوع من السرد. فلمرة واحدة، ستجد خيالك في مواجهة هيمنة الأيديولوجيات المجتمعية، لأنك ستجد في المقابل أن هذه الشخصيات التي تلتقيها ترمز الى أشياء أخرى بدل أن تكون لديها استقلالية تامة عن آرائك فيها. نحو الحرية هذا يعني أنك موجود على الدوام ضمن آلية السرد هذه؟ - هذا السرد يجعلني أبقى حراً في التعامل مع الشخصيات، لأنه يسمح لي بأخذ سكك جانبية. ومن خلال هذه المواربة يمكنني أن أكتشف مناظر لم يكن ممكناً الوصول إليها من قبل. ولكنك هنا تخلط بين آليتي سرد، واحدة تلفزيونية وأخرى سينمائية! - لا... جانب أساسي في السرد التلفزيوني هو أنك لا تتطرق من خلاله إلا الى المألوف، وتعطي المتفرج ما يريده، ولا أعتقد أن أفلامي صنعت بهذه الطريقة. ولكن لماذا تقل في القطع على بطلاتك، وكأنك في سياق الحكاية تحرص على ألا يقال كل شيء دفعة واحدة؟ - منذ اللقطات الأولى في فيلمي ستكتشف أن المذيعة التلفزيونية هبة يونس (منى زكي) تحاول أن تتكيف مع الجميع، ومع المنظومة الأخلاقية للمجتمع الذي تمثله، وهي متقدمة حتى على صعيد العلاقة الجنسية مع زوجها. وليست هناك مشاكل بينهما، بل بالعكس هناك توافق في كل شيء، وإنما تبرز حاجة مقلقة. الحياة الجنسية تبدأ لحظة بروز التناقض بينهما، فالزوج هنا يستعمل الجنس كوسيلة لإسكاتها، ولعدم إتاحة الفرصة أمامها كي تتكلم على المشاكل التي تحس بها في مجرى هذه العلاقة. وهناك بالطبع مشهد مهم جداً برأيي في بداية الفيلم، حيث يستخدم الطعام، وهو ممتع للغاية، لإسكاتها. الجنس يتحول في الفيلم إلى أداة قهر، وليس إلى أداة لاستمرار الحياة. وهو عندما يتحول بهذه الطريقة تصبح هناك أشياء مريضة. وهبة هنا تكتشف تدريجاً أنها لا تستطيع أن تعيش من خلال لقاءاتها مع الأخريات اللواتي يبدأن كشخصيات متكيفة مع المنظومة السائدة، ثم يكتشفن أولاً بأول أنها منظومة جد قاتلة. وهذا ما تكتشفه هبة أيضاً في النهاية. والذي ستكتشفه كمشاهد من خلال هذا السرد هو اكتشافها كيفية استحالة التعايش مع منظومة مبنية على الامتثال والسيطرة والتسلط وقمع المشاعر واستبدال الحب بصفقة تجارية. وفي نهاية الفيلم، هناك جملة تقولها طبيبة الأسنان: «فعلاً نحن كتبنا الكتاب، وأنا وجدت نفسي أستشير محامياً حتى أفهم معنى كتب الكتاب». هي تكتشف ببساطة شديدة أنها صفقة تجارية في اطار عقد زواج. هنا كأنك خالفت أسلوبيتك في تصوير هذا المشهد، وإن بدا طويلاً بعض الشيء! - ليس الأمر كذلك، ولكن أنا قررت أن هذا المشهد يجب أن يصور بأبسط طريقة، وهي أن أسلط الكاميرا على العقد كي يدرك المشاهد أنه عقد، فيما يستمع إلى صيغته من خلال المأذون. البعض مثلك يقول إنه مشهد طويل، وبخاصة أننا نعرف ماهية كتب الكتاب. هذا صحيح، ولكن يغيب عن الأذهان أن العقد هنا يتحول إلى صفقة تجارية، ولذلك اعتبرته شيئاً غير عادي، وهو جدير بالتأمل، فكل العلاقات في الفيلم من دون استثناء مبنية على فكرة كيفية تحويل هذه الصفقة من أحاسيس سامية ورائعة ونبيلة إلى أحاسيس مدمرة، لأن هذا بطبيعته معاد للصفقة، ومجرد دخول المشاعر في الصفقة يهدد بإخفاقها. كيف عملت على تجاوز متاهة السرد التقليدي، وبخاصة أن هناك نزوعاً نحو ميلودرامية واضحة في الفيلم؟ - لقد تعاملت مع الشخصيات في شكل جدي، وكان مدخلي إلى السيناريو الحوارات الكثيرة، بعكس أفلامي، فشخصيات «احكي يا شهرزاد» ذكية وحساسة وعندها روح، وهي تلجأ الى الحديث بهذه الطريقة التي ظهرت بها، لأن 99 في المئة من الكلام الذي يقوله معظم الناس، يقصدون من خلاله أشياء أخرى. وعندما تبدأ من فهم هذا السلوك الإنساني، ستتعامل مع الحوار بهذه الطريقة، وسرعان ما تكتشف أنه توجد هنا شخصيات حقيقية، وأنني لا أصورها وهي تتكلم، بل أصورها وهي تحس وتفكر الى درجة اكتشاف أن نص وحيد حامد ليس نصاً ثرثاراً، وإنما هو نص الشخصيات التي تستخدم اللغة لإخفاء مشاعرها. وأنا عملي كمخرج كان أن أظهر ذلك، وأظهر هذه المشاعر على حقيقتها، وهذا لا يمكنك التوصل إليه إذا لم تعط هذه الشخصيات استقلاليتها عنك، وعن المؤلف، وإذا تعاملت معها على أنها أبواق أيديولوجية لك أو للمؤلف. هذا في خصوص السرد الذي أردته مفارقاً، ولكن على صعيد تعاملك مع المشهد بميلودرامية واضحة لم تجبني عن سؤالي؟ - أنت أمام نص شئنا أم أبينا يجد مرجعيته في القصص الحقيقية التي استمد منها، وهي قصص صارخة في واقعيتها، وبالتالي لا تخلو من الميلودرامية، لأنه وبدلاً من كتمها ووأدها في النص اتخذت قراراً حاسماً بتعزيزها لسبب فني من ناحية، ولسبب سياسي من ناحية أخرى. السبب السياسي هو أنني أجد في الميلودراما الشكل السياسي، ولو شاهدت مثلاً أفلام هوليوود في خمسينات القرن الماضي التي تتحدث عن العنصرية، وعن المرأة، وعن الجنس، وفي السينما المصرية من خلال أفلام حسن الإمام على سبيل المثال، وعز الدين ذو الفقار، ويوسف شاهين (أفلام الخمسينات)، ستكتشف أنه من خلال هذه الميلودرامات، ومحورها أيضاً المرأة وجسد المرأة، هناك مفاهيم تغيرت من خلال هذه الأفلام، وبالتالي هي كانت سياسية جداً. وما أريد أن أركز عليه في ذهابي في هذا الاتجاه هو أنني أعمل في السينما المصرية، ومنذ ثلاثين سنة على الأقل قامت هذه السينما بتهميش المرأة، والبطولة النسائية التي كانت إحدى أكبر دعامات السينما المصرية من خلال سعاد حسني، فاتن حمامة، ناديا لطفي، ووصولاً الى ناديا الجندي، ونبيلة عبيد، ويسرا، تحولت فجأة إلى سينما بطلها الرجل، وتحولت المرأة إلى «سنيد» للرجل والدور الذي أصبح يناط بها هو الخطيبة العفيفة، أو الأم، أو الأخت أو الزميلة أو العاهرة، وبالتالي جردتها من أي استقلالية، وأصبحت منسوبة إليه، وهذه حالة شكلت انعكاساً للحالة الرجعية التي بدأت تستفحل في المجتمع. وأنت عندما تجيء وتختار شكلاً شعبياً من خلال الميلودراما، فإنما لأن هذا مستمد من تراثك السينمائي والوجداني، وأنت من خلاله تعيد تذكير هذا المجتمع بالمرأة، و «اللئيم» في الفيلم هو أنك تقلب الدور هنا دفعة واحدة، فالرجل هنا يصبح شبيهاً بالمرأة كما صورتها السينما والمسلسلات في العقود الثلاثة الماضية، ويصبح السؤال: من هي العاهرة هنا؟ من هو مصدر الغواية في الرواية كلها؟ من هو مصدر الفتنة؟ كل الحاجات التي تقولها السينما والفكر السائد عن المرأة تحولت لمجرد أنك تعاطيت مع المرأة بجدية إلى صفات تنطبق على الرجل. بالطبع هناك حاجات أخرى في النزوع الميلودرامي، هو ظهور النزعة الطبيعية بمعناها الفني في السينما العربية (الشعبية) منذ فترة طويلة، وأن الميلودراما هنا تتيح لك الإمساك بالواقع وأسلبته، لتعطيه شكلاً روائياً خالصاً. أهمية الجسد تحدثت عن أن نص وحيد حامد لم يعد نصاً ثرثاراً في الفيلم... إلى أي مدى تطابقت بعملك كمخرج مع النص، وإلى أي مدى افترقت عنه؟ - لقد تناقشنا مطولاً، ولم تكن هناك خلافات بيننا، وكانت عندي ملاحظات، وهو قام بمناقشتها، وأعاد كتابة بعض الأشياء، وعموماً وحيد حامد يكتب بطريقة غير وصفية. ثمة حوار وأشياء قليلة مثل وصفه للصورة في أضيق الحدود، وهذا نابع من احترامه للمخرج، فهو يترك له إمكانية إخراج المشهد كما يراه المخرج أقرب الى النص. أنا تعاملت مع نصه، كما لو أنه نص لشكسبير. احترمت الحوار فيه، وأما لجهة إخراج المشهد، فكان لي مطلق الحرية، وهو لم يتدخل بعملي أبداً. ولم نكن نحس، لا أنا، ولا هو أننا في صراع، أو أنه تنازل وخان نفسه. أنا فخور جداً به، وهو كذلك. هل كان المبدأ هو عدم القطع في مكان معين وانتظار التتمة، أم المبدأ الحكائي الذي يقوم على لقطات طويلة بصفته قصة مع تتمة؟ - لا أعتقد أن هذا حقيقي بالكامل. صحيح أن لقطات الفيلم طويلة، ولكن داخل اللقطة، ومن دون أن تلجأ الى القطع أنت تغير الحجم، ويتغير معه الإيقاع بالتالي، ويتغير اللون، ويتغير المكان، وهذا ليس بديلاً من المونتاج. عموماً، المونتاج وسيلة لتخلق من خلالها الإيقاع والتنوع، وأنت عندما تستطيع عمل هذا من خلال لقطة واحدة، فهذا بحد ذاته عمل ممتع وشائق، ويؤمن لي أشياء كنت حريصاً جداً عليها في الفيلم. مثل ماذا؟ - في فيلمي هناك أهمية كبيرة للجسد الإنساني. ويمكن القول إنه فيلم عنه، ولهذا تعاطيت معه بهذه الطريقة، وأحياناً كثيرة كنت أرى أن المونتاج يسبب «توتراً» وخطوط تشديد تحت المعنى قد تتحول إلى شيء مبتذل، ففي حين تحرك الجسد، وتغير الحجم بسلاسة من دون أن تقطع، فإن هذا من ناحية هو انتصار للجسد، ومن ناحية ثانية يعطي اللقطة، الانسيابية والبديهية المطلوبة. أين يمكن أن نجد هذا الانتصار في مثال من الفيلم نفسه؟ - في واحدة من أعقد اللقطات فيه، وهي لقطة تجمع سعيد إلى الأخت الصغرى على الكورنيش. المشهد هنا كان تقريباً من لقطة واحدة، وكان هو يحاول أن يتحسس أردافها، وأنا لو عملت هنا قطعاً في لقطة قريبة على يده، وهي تقوم بهذا الفعل لبدا هذا الشيء مبتذلاً، وفي حين أنني عملت عليها بطريقة لا تشعرك بالإهانة. هل ترى أن فيلمك ينتصر للأنثى، ويقلل في المقابل من حجم خيبات شهريار، وقد أنصت طويلاً الى ذكورته؟ - هو انتصار لكليهما. انتصار للرجل والمرأة لسبب بسيط جداً، فمن الذي ينتهي به الأمر متلفعاً بثوب الاستحمام، ويقعد أمام التلفزيون... الرجل. من الذي ينتهي به الأمر بقيام تظاهرة ضده... الرجل. وهو هنا يفشل تماماً على الصعيد العاطفي، وعلى الصعيد المهني. ونحن هنا أيضاً لدينا خيبة ثانية، وهي استمراؤنا لعب دور الضحية، وهنا بالمعنى المطلق يكون الرجل هو الضحية في الفيلم. ولكن هل هو ضحية المرأة؟ أم أن الرجل والمرأة هما ضحية العقلية التي تعتمد السيطرة، والصفقة التجارية، ويصبح التساؤل مشروعاً بالتالي عن الفرق بين الرجل والمرأة، وما الذي يجعل المرأة في الفيلم أكثر إثارة للتعاطف. هي تتنازل عن السلطة والتسلط بحكم وضعها الاجتماعي بأسرع من الرجل، وبالتالي تجد لانقاذها من ذلك معنى سياسياً، فأنت ستتجه بتفكيرك نحو أهل السلطة وهم يطبقون على صدور الناس ويصبحون مكروهين، ولا يهمهم أن يحبهم الناس أو لا، وما إذا كانوا يقومون بأعمالهم في شكل جيد أو سيئ. الفيلم يحمل في نصه الباطني رسالة تفيد بأن التخلي عن السلطة يمكن أن يكون شيئاً شديد الإيجابية.