ضربة أميركا التي أصابتها بالدوار، أضرت بالعرب، لكنها لم تُصبهم بأي دوار، أو أنهم لا يرون ذلك ولا يحسّون به، حتى الآن على الأقل. كان للغارة القاصمة على بيرل هاربور، ولحرب فيتنام مثل أهمية ما جرى في حياة الاميركيين طوال المئة عام الماضية... وكان للاستقلال عن تركيا وتنفيذ اتفاقات الانتداب الأوروبي، ولحرب احتلال فلسطين، ووحدة 1958، وحرب 1967، وحرب الخليج، "مثل" اهمية ما جرى على حياة العرب خلال المئة عام الماضية أيضاً. ولم يستفد الاميركيون، ولم يستفد العرب من التجربة. فهل يعود الاميركيون الى الانتماء الى العالم، والعرب أيضاً؟! في مسألة فيتنام على الأقل، يُشبه الأميركيون العرب. حين لم يستمروا بإبقاء الدرس نصب أعينهم، أو أبقوا منه فقط ما يتعلّق بضرورة التمحور على المصالح الذاتية والأنانية. ذلك من دون الاهتمام أن الظلم الذي يصيب شعوب الأرض خاطئ وخطر ويُمكن أن يصل ردّ فعله اليهم، أو الى أمّ رأسهم. يحدث ذلك على طريقة الظلم ذاتها، التي لا تبالي بالآخر، وتحتقر انسانية الانسان فيه، الى حد المجزرة الوحشية. مثل بعضنا، مارس الاميركيون "التكفير". وأيضاً مارسوا تعالي المثقف العارف وحده بما يجري، الذي لا يرى إلا نفسه في الحياة، وفي المرآة. هنالك خطأ واحد على الأقل في نشأة اميركا، ولو خالفنا الفكر التربوي الذي يقلل من دور العوامل الوراثية. خطأ في عقلية "الكاوبوي" وصياد الجواميس وقاتل الهنود الحمر ومُزارع القطن مالك العبيد. لا ينتقص هذا من حيوية غير مسبوقة في التاريخ، من الابداع في التأسيس واستصلاح الأرض والعلوم والتكنولوجيا والدستور وتقديس الحرية، الى الروح الوثابة وطريقة تايلور في العمل والانتاج والحلم الاميركي. هنالك خطأ لم تتجاوزه حركة الحقوق المدنية ولا عقابيل حرب فيتنام. وربما كان هذا الخطأ في اعتماد المبنى السياسي - الاجتماعي - الاقتصادي على ثنائية القيم والمصالح من دون مكيال ومعيار، وغلبة المصلحة عند كل مفترق، سواء في السياسة الداخلية وضمن كل خلية اجتماعية، أم في السياسة الخارجية... التي نعاني منها خصوصاً. أزمة الناحية الانسانية في العولمة الآن عنوانها الرئيس اميركا. هي الكاوبوي العنيد في مسألة الفقر والبيئة واسرائيل، من ديون الجنوب الى بروتوكول كيوتو الى تهميش الأممالمتحدة ورفض الجهود والأنظمة الجماعية والوقوف في وجه العرب الى حد الاذلال. حتى طرقات ديترويت محفرة لا يقوم أحد بإصلاحها بقدر غيرها، لأن صانعي السيارات يريدون بيع المزيد، والأقربون أولى بالمعروف. فيتساءل المرء مع أورهان باموق الروائي التركي "هل العشق يجعل الانسان غبياً؟ أم ان الأغبياء وحدهم يعشقون؟!". والعشق هنا يشمل الكره ويحتويه معه في سلة واحدة. كما يتساءل عن مقدار صمود الاعتماد على المصالح وحدها حتى جفاف أوردة الدم، أو يصبح بارداً ميتاً يستعمل الحب والكراهية كمجرد أدوات لتحقيق المصلحة. عندئذ وفي أية لحظة، قد ينقلبان عليه انقلاب الاصولية حين يصبح بعضها ارهاباً. حين تحالفت اميركا مع بعض الأصولية الاسلامية سلاحاً ضد السوفيات، وسياسياً ضد أوروبا، قضت بأن تتحول حصتها من الأصولية الى ارهاب، ما يرتدّ عاجلاً أم آجلاً على صاحبه. وحين تكون اميركا بخيلة أمام بيئة الأرض، وأهل الجنوب، وتسترخص التحالف مع الذين تتعارض سياستهم مع قيمها... ستخرج بعض الآهات في شكل قنابل بشرية. لأن المعادلة يستحيل حصرها في صفحات دفتر أو كتاب أو على طاولة مختبر. والكراهية والعشق امران من طبيعة الانسان، يمكن أن يتحوّلا الى قدرة على التفجير والانتحار مع بعض الايديولوجيا وكثير من الاحتقان أو حال الحصار. ما بين المصالح والقيم، حالتنا نحن العرب أكثر صعوبة. بعض سلطاتنا يعيش وحده على النمط الاميركي، فينطلق في سياساته من مصلحته الضيقة في الاستمرار في الحكم. ولا يتعامل مع الشعوب إلا بالترغيب بالفتات عند توافر المقدرة على ذلك، وبالترهيب غالباً. بالنتيجة لا توجد تنمية متوازنة ومتزّنة، ولا توصّل الى حل لأي مشكلة عالقة بذاتها، ونحن عالقون فيها.... والمشكلة ليست مشكلة سلطات فقط، بل هي أهم وأكبر بين الناس العرب، في النخب والشارع العريض. لأنه يبدو أننا نحن العرب نتعامل مع المسائل الملحة وغير الملحة على أساس العشق أو الكراهية، ونشتق رؤيتنا العقلانية منهما، كلما واجهتنا مسألة أو واجهناها. نتعامل عشقاً مع العروبة والتاريخ القديم والأرض والذات، وكرهاً مع الغرب واسرائيل والواقع المعيوش. وربما تكون ادارة الظهر أو إغماض العينين طريقة ثالثة أمام القضايا الأكثر تعقيداً. المواقف من الكارثة في أميركا لا تخرج من هذا السياق. لا بد أنه من الصعب استنهاض الهمة في النفس، سواء كانت حبيسة فيها أم تتجسد في عمل وتضحية، من دون بلوغ الأمر تخوم العشق والكراهية. إلا أنه من الأصعب مواجهة المشكلات الفكرية والسياسية ما لم يتمّ تبريد حال العشق ومنعها من بلوغ الهيام، والتحكم في الكراهية بإبقائها ضمن حدود المصلحة. يصح هذا في النظر الى مسألتي الهوية والعولمة، القومية والقطرية، فلسطين واسرائيل، السلطة والمعارضة. خصوصاً لأن أيام حركة التحرر الوطني وتضامن القارات الثلاث والمنظومة الاشتراكية وما كان على رأسها، مع غيفارا وكارلوس، قد مضت للأسف الشديد. لا يعني هذا انعدام امكان "النضال" كما يبدو للوهلة الأولى، بل اكتسابه شكلاً جديداً وحلّة معاصرة، تحتاج الى زخم لا يتوصل احد الى وسيلة استنهاضه في ظروف الخوف والفقر حتى الآن، إلا بالوقوع في إسار حالتي العشق والكراهية المتصاعدتين الى حيث مجنون ليلى وباكونين، أو ابن لادن. الدروس من الأزمة الحالية باللغة العربية لن تنتهي قريباً. مثلها في ذلك مثل الدروس باللغة الانكليزية، حين تخرج من إسار اللهجة الأميركية المتعجلة. هنالك أخطار جديدة تحلّق في أفق المنطقة: على فلسطينوالأردنولبنان وسورية ومصر بالطبع. الأكثر مباشرة هو ما يُمكن ان تشهده فلسطينولبنان وسورية. فعلى رغم ان المتهمين بتفجيرات الولاياتالمتحدة ليسوا من هذه الدول الأخيرة أو من المقيمين فيها، إلا ان العين الاسرائيلية حمراء عليها أساساً، والعين الاميركية الزرقاء المتورمة يخالط الغضب الأهوج فيها مشاعر الألم والمهانة، ولا يُضمن العقل وراءها. فعلى رغم الحديث عن البحث عن جذور ظاهرة الارهاب في الظلم والفقر والتهميش والاحتلال والاستبداد، يبقى قوياً احتمال انسياق الاميركيين وراء فكرة اجتثاثه من طرق اجتثاث الفلسطينيين وقضيتهم، وهذا يصبّ في التوجهات الاسرائيلية المتطرفة السائدة حالياً. في مثل هذا الاتجاه سوف يأتي العنف المتوحش تحضيراً للترانسفير، وبداية ذلك في إضعاف وإنهاء السلطة الوطنية الفلسطينية. هذا خطر على الأردن أيضاً، وخطر على المنطقة عموماً. تصل الحرارة من هنا الى لبنان ايضاً، يدعمها أفكار عن اختباء متطرفين في المخيمات. ويدعمها أيضاً ذلك التطرف في الموقف من السوريين والفلسطينيين، وانخفاض مستوى الاحساس بالمسؤولية لدى أطراف تقتات على الالتحاق بالغير. في الجهتين ضعف في مستوى الوطنية. الأزمة المنذرة للاقتصاد الوطني، ولاحتمالات الحوار الوطني، والحوار ما بين الشقيقين على أساس كونهما "وطنين"، جميعها تسقي الخوف والقلق على لبنان. وسورية على القائمة الأميركية للدول الراعية للارهاب، وهي تعبر اساساً مرحلة انتقالية كان مقدراً لها أن تجعلها أكثر مقدرة على بناء علاقة قوية مع العالم، لولا التردد في الخطى الاصلاحية وفسح المجال أمام عوامل التعويق والكبح والمحافظة لتفعل فعلها. هذه الحال تخفض من امكان الوضع السوري على مواجهة هذه المرحلة واستحقاقاتها. فدعم السلطة الفلسطينية، والحوار اللبناني مع النفس ومع سورية، ودخول السوريين من دون تأخير في التأسيس للتحديث بدءاً بإنهاء الحال الاستثنائية وإعادة الثقة الى الشعب، هي ما يُسهم في تحسين مقاومة الفعل السلبي للخارج، ويُحوّله الى فعل ايجابي. هذه ايضاً أرضياً لعمل عربي مشترك، ومستعجل. فالأزمة الوطنية الخاصة بكل بلد عربي، والسمات العامة فيها، صورة عن أزمة العالم العربي مجتمعاً، وصورة أيضاً عن أزمة العالم. تحميض صورة الأزمة وتظهيرها خطوة مهمة على جميع المستويات، وربما كان هذا يحتاج الى صدمة كالتي حدثت. اذا كان ما حدث مناسبة للاميركيين للخروج من إرهاب رعاة البقر في تغليب المصالح على القيم، ولنا للخروج من إرهاب رعاة من نوع آخر في تغليب العشق والكراهية على المصالح، وهذا في أساس ارهابنا... يكون للكارثة الرهيبة منافع. * كاتب سوري.