ظل السؤال الأكثر إلحاحاً في رحلة "الأفغان العرب" وتحولاتهم الفقهية والسياسية يدور حول الأسباب التي جعلتهم يتحولون عن استهداف أنظمة الحكم في بلادهم إلى توجيه الضربات إلى الولاياتالمتحدة. وبغض النظر عما يقوله الإعلام الاميركي الذي يفرغ القضية من مضمونها ويكتفي بأن "الإرهابيين" يحقدون على الشعب الاميركي بسبب مستوى الرفاهية التي يتمتع بها، وأنهم مستاؤون من طريقة العيش في الغرب ويسعون إلى تغييرها، فإن استعادة الذاكرة لما جرى في أفغانستان خلال سنوات تشابكت فيها مصالح الطرفين لدحر الاحتلال السوفياتي يحمل بعض الاجوبة عن السؤال. اقنع الاميركيون وربما أجبروا حكاماً للتعاطي مع القضية الأفغانية بطريقة بدا فيها هؤلاء أمام شعوبهم حريصين على مصالح الإسلام والمسلمين، ولعب الإعلام الرسمي في تلك الدول ادواراً مهمة لتهيئة المناخ وتحفيز الشباب على الجهاد لرفع راية الإسلام وجُمعت التبرعات من المساجد لتصب في حسابات المجاهدين الأفغان والعرب وسُهلت إجراءات السفر إلى بيشاور ومنها إلى الأراضي الأفغانية حيث جبهة القتال، ونُصبت معسكرات خضع فيها أصوليون من جنسيات عربية مختلفة لتدريبات على ايدي خبراء عسكريين في حرب العصابات واستخدام الأسلحة والمفرقعات. واستشهد مئات ممن وهبوا حياتهم للجهاد من أجل الإسلام، كل ذلك تم برعاية اميركية ولكن في النهاية حين انتهى الغرض الذي من أجله "صُنع الأفغان العرب" تخلت أميركا عنهم فلم تمنحهم أي مكافأة وتبدد حلم بعض قادتهم وانهارت طموحاتهم التي وصلت إلى حد الاعتقاد بأن أميركا ستسلمهم مقاليد الحكم في أكثر من بلد تقديراً للأدوار التي لعبوها على الجبهة الأفغانية. هكذا امتزج الثأر الشخصي لدى "الأفغان العرب" بما كان يعتقدونه من افكار دينية، كلها تصب في اتجاه تكفير الاميركيين وتحريم التعاون معهم، فتحول "المجاهدون" إلى "مطاردين"، صحيح أن أميركا لم تبادر إلى المشاركة في مطاردتهم وربما غضت الطرف عن لجوء عدد من رموزهم إلى دول أوروبية وحصولهم على اللجوء السياسي، إلا أن ذلك لم يكن ليرضي من طمحوا في مكافأة أكبر، ويبدو أنهم لم يستبدعوا الخيانة الأميركية ونكران الجميل فرتبوا للانتقام. ولم تقدر أميركا كعادتها حجم اخطائها فحين بدأت عمليات الاصوليين ضد الأنظمة لم يقلق الاميركيون كثيراً، وبعد تفجير "مركز التجارة العالمية" في نيويورك في شباط فبراير 1993 وادانة زعيم "الجماعة الإسلامية" في مصر الدكتور عمر عبد الرحمن وأتباع له بالضلوع فيه اعتبر الاميركيون أن الحدث جاء من الداخل. والحقيقة انه لم يقع أي عمل عدائي ضد أهداف أميركية طوال النصف الأول من التسعينات بتدبير من الخارج، فالأوضاع لم تكن لتساعد الاصوليين على تبرير مثل تلك الأعمال، فالصراع في الشرق الأوسط كان في سبيله إلى الحل تحت رعاية أميركية بعد مدريد وأوسلو وخُدرت الشعوب العربية والإسلامية وعاشت وهم السلام المقبل، وعلى رغم أن الاصوليين المتشددين يرفضون من الأساس أي حلول تفاوضية مع إسرائيل إلا أن المناخ السائد في تلك السنوات لم يكن ليساعدهم على تغليف عملياتهم ضد اميركا بغطاء سياسي. وما أن أيقن قادة "الأفغان العرب" أن اميركا نفضت أيديها تماماً منهم بل وبدأت في المشاركة في مطاردتهم، وتزامن ذلك مع بدء انهيار عملية السلام، تحولت المصالح الاميركية في العالم أهدافاً لهم وبدأت حوادث التفجير، وجاء بعد الرياض وبعده الخُبر ثم أتت حادثة سفارتي اميركا في افريقيا وقبل أن يفيق الاميركيون فوجئوا بتفجير المدمرة "كول" في ميناء عدن، وأخيراً جاءهم الخطر داخل بلادهم ومن السماء حيث الطائرات الانتحارية الرهيبة. وحتى الآن ما زال الغموض يلف بعض المفاهيم التي تتعلق بفكر "الجهاد" و"العمليات الاستشهادية" "ونظرة الاصوليين إلى الغرب"، واللافت أن أول عملية انتحارية وقعت بدافع ديني في العصر الحديث كان وراءها أفغاني حين اغتال أحد تلاميذ جمال الدين الافغاني في آذار مارس 1896 امبراطور إيران ناصر الدين شاه، كما أن نظرة الاصوليين إلى الغرب استمدت من بعض أفكار الأفغاني نفسه الذي كان يعتقد ب"ضرورة إثارة مشاعر الحكام المسلمين ورعاياهم من المسلمين وتعبئتهم من أجل محاربة الدول الأوروبية" وعلى رغم أنه كان مُصلحاً دينياً إلا أنه ايضاً كان مناضلاً من أجل الإسلام واداة مناهضة للاستعمار فتعرّض للملاحقة والقهر والاعتقال. لكن أفكار سيد قطب ظلت الأكثر تأثيراً في الاصوليين المتشددين، وفي كتابه "معالم على الطريق" الذي كتبه داخل السجن في الخمسينات من القرن الماضي قسم قطب الأنظمة الاجتماعية إلى فئتين: نظام الإسلام ونظام الجاهلية، واعتبر أن حكومة عبدالناصر عبارة عن شكل جديد من أشكال الجاهلية التي كانت موجودة قبل ظهور الإسلام. وقال: "إن الإسلام لا يقبل أنصاف الحلول مع الجاهلية لا من ناحية التصور ولا من ناحية الأوضاع المنبثقة من هذا التصور، فإما إسلام وإما جاهلية وليس هناك وضع آخر نصفه إسلام ونصفه جاهلية، يقبله الإسلام ويرضاه...، ونحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية ومراجع إسلامية وفلسفة إسلامية وتفكيراً إسلامياً هو كذلك من صنع هذه الجاهلية". وأثناء محاكمته لم يجادل في الاتهام الموجه إليه بأنه حرض على الفتنة والعصيان. وراح يشرح موقفه من الناحية الايديولوجية: "إن روابط الايديولوجية والإيمان هي أقوى من روابط المشاعر الوطنية الحماسية التي ترتكز على الاقليم أو المنطقة. وهذا التمييز الزائف بين المسلمين الذي يتم على أسس اقليمية ليس سوى تعبير عن الحملات ضد المشرق وتعبير عن الامبريالية الصهيونية، التي ينبغي القضاء عليها". و"الوطن ليس هو الأرض وإنما هو مجموعة المؤمنين أو الأمة الإسلامية كلها". و"ما أن يعلن الإخوان عن شخص ما أنه جاهلي يكون لهم الحق في الهجوم على شخصه أو ممتلكاته"، و"اذا حدث أثناء تأدية الواجب المقدس وشن الجهاد ضد الكفار أن وجد أخ مسلم نفسه قائماً بأعمال التحريض على الفتنة والعصيان فإنه لا غرابة في ذلك ولا مسؤولية عليه". لكن المهندس محمد عبدالسلام فرج الذي أعدم عقب اغتيال السادات كان اكثر منظري "الجهاد" تأثيراً في عقول الاصوليين المتشددين، وهو ألف كتابين احدهما في عنوان "الجهاد: الفريضة الغائبة" والثاني عنوانه "الالتزام الغائب"، وفي الكتابين اوضح نظريته وخطة العمل الخاصة به، وأفكاره الرئيسية تتلخص في: "كل مسلم صادق مضطر من خلال ايمانه أن يكافح من أجل إحياء الامة الاسلامية، وأن التنظيمات الاسلامية أو القادة والزعماء الاسلاميين الذين ابتعدوا عن الشريعة اصبحوا مرتدين عن الدين الاسلامي، ولذلك فإن المسلم الحقيقي الصادق يكون آثماً إذا تعاون مع أي حاكم كافر، وأولئك الذين يرغبون في القضاء على نظام الجاهلية وإحياء الأمة الاسلامية سيضطرون الى اعلان الجهاد ضد الدولة الكافرة. والشكل الوحيد المقبول للجهاد هو الكفاح المسلح وأي شيء أقل من ذلك ينطوي على الجبن والخوف أو الحمق والتفاهة، فالمسلم الصادق ينبغي عليه أن يواجه أولاً الكفر الداخلي العدو القريب وبعدئذ يواجه الكفر الخارجي العدو البعيد على أساس أن الابتعاد عن تطبيق الجهاد أدى الى تلك الحالة المؤسفة المتردية التي يعيشها حالياً العالم الاسلامي، من حيث الانقسام والانحطاط والازدراء، الا ان هذه الحالة المتردية من المقرر لها ان تنتهي على النحو الذي أقره الله لتاريخ الاسلام، واخيراً تتم اطاحة الديكتاتوريين لكي يحل محلهم نظام مماثل لذلك النظام الذي كان سائداً في ايام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقيادة الامة الاسلامية ينبغي أن تُعطى لأقوى المؤمنين الراسخين في الإيمان والذين يخشون الله في الوقت نفسه، وينبغي أن يتم اختياره اختياراً جماعياً وبعدئذ يجب أن يطاع". إلا أن ذروة التحول الكبير في موقف الاصوليين المتشددين تجاه اميركا جاء مع تشكيل "الجبهة الاسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين"، التي أسسها اسامة بن لادن وأيمن الظواهري مع آخرين، ومن فتاواها أن "حكم قتل الاميركيين وحلفائهم مدنيين وعسكريين فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد يعيش فيه". وتزامن الاعلان عن تشكيل الجبهة مع قصف اميركي لمدن عراقية ولذلك فإضافة الى مبررات طرحت في بيان الجبهة تتعلق بالوجود الاميركي في منطقة الخليج لعب البيان على وتر الشعور الشعبي المعادي للاميركيين في شأن قضيتي العراقوفلسطين. وجاء في البيان التأسيسي: "على رغم الدمار الكبير الذي حل بالشعب العراقي على يد التحالف الصليبي اليهودي وعلى رغم العدد الفظيع من القتلى الذي جاوز المليون يحاول الاميركيون مرة أخرى معاودة هذه المجزرة المروعة وكأنهم لم يكتفوا بالحصار الطويل بعد الحرب العنيفة ولا بالتمزيق والتدمير فها هم يأتون اليوم ليبيدوا بقية هذا الشعب ويذلوا جيرانه من المسلمين"، و"اذا كانت اهداف الاميركان من هذه الحروب دينية واقتصادية فإنها كذلك تأتي لخدمة دويلة اليهود، بصرف النظر عن احتلالها لبيت المقدس وقتلها للمسلمين"، معتبراً أن "كل تلك الجرائم والبوائق هي من الاميركان اعلان صريح للحرب على الله ورسوله وعلى المسلمين"، مذكراً بأن العلماء "أجمعوا عبر جميع العصور على أن الجهاد فرض عين اذا دهم العدو بلاد المسلمين". وفي 17 آيار مايو من العام نفسه اصدرت الجبهة بياناً حمل عنوان "جراح المسجد الأقصى" تحدث عن ذكرى نكبة فلسطين، وقال: "ان معالم التحالف اليهودي الاميركي الصليبي الذي تقوده اميركا واسرائيل بشكل صارخ واضح ومن مظاهر هذا التحالف، حرص اميركا من خلال نائب رئيسها على حضور الاحتفالات التي اقامها اليهود في مناسبة مرور خمسين عاماً على احتلالهم الظالم للبلاد المقدسة"، معتبراً أن تأسيس الجبهة "خطوة في طريق الاستجابة الشديدة المطلوبة الذي تشهده الأمة منذ عقود"، واجاب بن لادن والظواهري في بيان حمل توقيع "المكتب الاعلامي للجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" صدر بعد يومين من تفجير سفارتي اميركا في افريقيا عن السؤال: لماذا يتم استهداف المصالح الاميركية؟، وقال البيان "ان السبب الوحيد الذي يدفع شباب الاسلام الأطهار لتعريض انفسهم الزكية للقتل وهم يسعون لضرب الاهداف الاميركية ليس سوى الظلم الذي مارسته الحكومة الاميركية على شعوب الاسلام ومكّنت اليهود على احتلال بيت المقدس ....". ولكن اللافت أن تنظيم "الجماعة الاسلامية" المصري نأى بنفسه دائماً عن أي مواجهة مع اميركا، على رغم أنه تضرر أكثر من باقي التنظيمات الاخرى جراء السياسات الاميركية فقادته وعناصره خرجوا من الحرب الافغانية من دون مكاسب. وزعيم التنظيم ومفتيه الشيخ عبدالرحمن يقبع في سجن اميركي منذ قبض عليه بعد تفجير مركز التجارة العالمية عام 1993، وعلى رغم إدانة عبدالرحمن في تلك القضية لكن "الجماعة الاسلامية" لم تُحمل المسؤولية عنها، فلم تثبت التحقيقات الأميركية ان أي من منفذي التفجير أو الذين شاركوا في التآمر مع الشيخ الضرير كانوا اعضاءً في "الجماعة الاسلامية"، بل اقدموا على ذلك التصرف من تلقاء انفسهم استجابة لآراء واحكام عامة كان الشيخ طرحها عليهم. واللافت أيضاً ان اسم رفاعي احمد طه الذي كان يتولى حتى 1999 موقع مسؤول مجلس شورى "الجماعة الاسلامية" وورد اسمه بين الموقعين على البيان التأسيسي ل"الجبهة الاسلامية لجهاد اليهود والصليبيين" عاد وأعلن قبل حوالي عشرة أيام من تفجير السفارتين أن تنظيمه ليس طرفاً في تلك الجبهة، ونفى أن يكون وقّع على المشاركة في عمل يستهدف المصالح الاميركية. ولم يتوقف حديث "الجماعة الاسلامية" ورموزها منذ القبض على عبدالرحمن عن اساءة معاملته والمطالبة بإطلاقه، وحين تم القبض على الناطق بلسان التنظيم طلعت فؤاد قاسم في كرواتيا ثم اختفاؤه بعدها شنت "الجماعة" حملة اعلامية ضد اميركا تضمنت تأكيداً على انه اوقف بواسطة عملاء للاستخبارات الاميركية "سي آي اي" وأنه سلم الى مصر ولم تخل الحملات من تهديدات لكنها ظلت دائماً مجرد تهديدات مزجت احياناً بقليل أو كثير من التحريض ولم يثبت أن "الجماعة" سعت يوماً الى تطوير عملياتها لتشمل اهدافاً اميركية، بل إن اللافت ان التطوير جاء في اتجاه اخر تماماً وذلك باعتماد سياسة سلمية، اذ اصدر مجلس شؤون الجماعة بياناً في اذار مارس 1996 اعلن قراره وقف العمليات العسكرية داخل مصر وخارجها. لكن ذلك لا ينفي ان المفردات التي استخدمتها الجماعة الاسلامية في نشراتها وبياناتها لفترة أتاحت مناخاً معادياً لاميركا نجح بن لادن والظواهري في استثماره بالايحاء بأن ما يقدمان عليه من أعمال ضد اميركا استجابة لرغبات يعجز الاخرون عن تحقيقها، أما لظروف خاصة أو لمواءمات سياسية. في 27 حزيران يونيو 1993 علقت "الجماعة الاسلامية" عبر بيان حمل عنوان "أما آن لهذا الهراء أن ينتهي" على اتهام الشيخ عبدالرحمن في قضية التفجير. وناقشت الامر من وجهة نظر قانونية وجاء في البيان: "إن هنالك اعتراضات شكلية وموضوعية على هذه القضية: أما الاعتراض الشكلي فيتوجه لحجم العمليات المنسوبة لهذه المجموعة، والتي إن صحت تحتاج الى إمكانات دولة بل دول وليست بضعة أفراد، ثبت بتصريح المسؤولين الأميركيين عدم ارتباطهم بدول خارجية. كما يتوجه أيضاً الاعتراض الشكلي على التخبط المعلن في هذه القضية، ففي البداية أعلنوا أن هذه المجموعة مكونة من مصريين وفلسطينيين، ثم عادوا وأعلنوا أنهم جميعاً سودانيون! ولعل نسبتهم الى السودان، في هذا الوقت بالذات تحمل ما تحمل من معانٍ. أما الاعتراض الموضوعي فعلى رغم أننا سبق وأن أعلنا عدم صلتنا بحادث تفجير "مركز التجارة" بنيويورك إذ أننا قوم لا نحب أن نُحمد أو نُذم بما لا نفعل، وعلى رغم هذا الاعلان إلا أن السلطات الاميركية دأبت على محاولة ربط اسم الدكتور عبدالرحمن بهذا الحادث". وورد في البيان: "لو كان الأمر مجرد تمثيلية بالتلفيق والبهتان فإننا نقول: إن الولاياتالمتحدة بهذا تكون قد أخطأت خطأً كبيراً وفتحت على نفسها باباً كانت في غنى عنه"، وتساءلت الجماعة: "أما آن لهذا الهراء أن ينتهي؟ أما آن لهذه اليد الشيطانية التي تضرب المسلمين في الصومال وغيرها ثم تحمي القتلة المجرمين في البوسنة وغيرها، أما آن لهذه اليد أن تُشل؟". واضاف: "ان الأمر الآن لا يخص الشيخ فهو كما عرفناه كسلفه الصالح ابن حنبل وابن تيمية وغيرهما، لكن الأمر الآن في عنق كل مسلم غيور على دينه واسلامه". وعادت "الجماعة" الى التساؤل: "إلى متى تستباح حرمات المسلمين وهم بعد ساكتون؟ الى متى يستمر هذا الظلم والقهر والطغيان؟ الى متى تستمر هذه السياسة الاميركية الشيطانية المراهقة المعربدة؟". وعندما صدر الحكم بإدانة عبدالرحمن اصدرت "الجماعة" بياناً في 19 كانون الثاني يناير 1996 حمل عبارات اكثر سخونة الى حد الاعلان صراحة أن عمليات ضد اهداف اميركية في الطريق: "أما وقد اختارت الحكومة الاميركية أن تقود المعركة بنفسها بعدما أيقنت أن حلفاءها غير قادرين على المواصلة والاستمرار، واختارت المواجهة السافرة مع الحركة الاسلامية، والتيارات الجهادية، والرموز الاسلامية. فإن الجماعة الاسلامية تعلنها بيعة لله لا رجعة فيها: ضربة بضربة، وإن المصالح والشخصيات الاميركية هي أهداف مشروعة لجهادنا المشروع حتى يتم الافراج عن الشيخ المجاهد الدكتور عمر عبدالرحمن وبقية إخوانه في السجون الاميركية". وناشد البيان "كل المسلمين في كل انحاء الأرض أن يثأروا لحرماتهم ويمرغوا الأنف الاميركي في التراب"، و"آن الأوان أن تعلم الولاياتالمتحدة أنه لا طاقة لها بمواجهة مئات الملايين من المسلمين في كل مكان". ولأن شيئاً عملياً من هذا لم يحدث ترسخ الاعتقاد لدى المراقبين أن التهديدات غير جدية، وأن الأمر لا يعدو محاولات لإثبات الوجود والحؤول دون تفرد الظواهري وبن لادن بساحة العداء لأميركا، هكذا كان الحال أيضاً عندما قصفت اميركا السودان وافغانستان بعد تفجير سفارتيها، إذ اصدرت الجماعة بياناً وصفت فيه الغارات بأنها "عمل بربري جبان لم يأبه بأي قواعد وتخطى كل الحدود، وجاءت لتستر سوءة البيت الابيض الاميركي بعدما تمرغ في وحل الجريمة والعار، ولتغطي عجز القوات الاميركية عن قدرتها على مواجهة المجاهدين في ميدان القتال، فذهبت تلقي بالقنابل على المدنيين والأطفال"، داعياً "الحركات الاسلامية والجهادية منها على وجه الخصوص للقيام بدورها في مواجهة هذه الغطرسة ومخاطبة الولاياتالمتحدة باللغة التي تفهمها"، واعتبر أنه "آن الأوان لإنهاء سياسة ذبح المسلمين وتقديمهم قرابين على اعتاب البيت الابيض لتغطية نزوات حكامه وفضائحهم واخفاقاتهم الداخلية". ووجه البيان الكلام إلى الشعب الاميركي: "إن بليون مسلم قادرون على أن يجعلوا أجسادهم قنابل تعادل في قوتها التدميرية ما يمتلكه الاميركيون من اسلحة الفتك والدمار". أما "جماعة الجهاد" وزعيمها الظواهري، فظلا على نهجهما الأكثر معاداة لأميركا، على رغم أن موقفه كان يقوم على ضرورة تركيز الاصوليين عملياتهم في بلادهم أي الى "العدو القريب" وهو التزام ظل ينفذه بالفعل حتى غيّر توجهاته ليبدأ في استهداف أميركا العدو البعيد كما أوضح ذلك في مقال له ظهر في العدد التاسع عشر من نشرة "المجاهدون" الصادرة في 26 نيسان ابريل 1995 عندما تحدث عن العلمانيين "انهم في الزمن الغابر كانوا يدّعون محاربة الاستعمار الغربي تحت غطاء التحالف مع الروس الشيوعيين وتحت هذا الغطاء تم ضرب الحركة الاسلامية لمصلحة الغرب ولمصلحة الروس الشيوعيين ثم مرت الأيام وسقطت الأقنعة وظهر الحلف المتين بين المناضلين العلمانيين وبين الغرب الاستعماري واسرائيل ضد مجاهدي الاسلام، وأسفرت الحقيقة عن وجهها واتضح أن هؤلاء المناضلين كانوا وما زالوا دائما على استعداد للتحالف مع العدو الخارجي أياً كان ضد الحركة الاسلامية واتضح أن ما كانوا يرددونه عن تحرير فلسطين وإلقاء اليهود في البحر لم يكن الا شعارات للاستهلاك المحلي في حقبة التحالف مع الروس الشيوعيين. أما الآن فإن المناضلين العلمانيين تحولوا الى أشد المدافعين عن اسرائيل ضد الحركة الاسلامية، وهكذا تتضح معالم المعركة بين طوائف الكفر الغربية والروسية والصهيونية والوطنية وبين المجاهدين طليعة الأمة الاسلامية. لذلك أمرنا المولى سبحانه وتعالى أن ندرك هذه الحقيقة: ان المعركة في فلسطين والجزائر والبوسنة والشيشان معركة واحدة تدور على جبهات مختلفة وإن المعركة في فلسطين - بميزان الأسباب - لن تحسم ولن تفتح القدس الا اذا حسمت المعركة في بلادنا". وأختلفت اللهجة وتغيرت اللغة بعد سنتين وقبل أقل من اربعة شهور على الاعلان عن تأسيس "الجبهة" وتحديداً في تشرين الثاني نوفمبر 1997 فتضمن العدد الرابع والأربعين من نشرة "المجاهدون" مقالاً في عنوان "اميركا ووهم القوة" في تحدٍ لاميركا رداً على ما جاء في لائحة الخارجية عن الحركات الإرهابية في العالم وفيها "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد" المصريتان، إضافة بالطبع إلى تنظيم "القاعدة". ذكرّت "المجاهدون" الاميركيين ب "الدرس المؤلم الذي أخذته اميركا في فيتنام"، و"انسحاب اميركا من لبنان بعد تفجير مقر جنود المارينز" و"الحشد الهائل الذي ساقته اميركا امامها قبل ان تحارب العراق"، و"الانسحاب المهين لاميركا من الصومال"، واضافت النشرة: "تناست اميركا كل هذا وهي تتحرش بالأمة المسلمة في البوسنة والجزائر ومصر وفلسطين والجزيرة العربية وكشمير والسودان واليمن ولبنان وإمارات الخليج. ففي كل موقع لها جريمة مارستها بأيديها أو بأيدي عملائها. واندفعت في هذا الطريق يسوقها الحقد اليهودي الأعمى ضد الاسلام ويسوقها ميراثها الصليبي الحاقد على المسلمين، فأميركا الآن في قبضة اليهود تماما إعلامها وانتخاباتها واقتصادها وسياستها، والمعلن للكثير من التصرفات الاميركية يجد أن الأمر قد خرج عن حد التحالف السياسي مع اسرائيل الى درجة خدمة المصالح الاسرائيلية حتى ولو تضررت مصالح اميركا"، ونبهت "المجاهدون" إلى أن اساليب اميركا "ظاهرة معروفة دنيئة فهي تستخدم اسرائيل لضرب الدول المجاورة لها ولذبح الآمنين فيها وتستخدمها كمخزن مكدس بالأسلحة المتفوقة كماً ونوعاً وخصوصاً القنابل الذرية حتى تردع أياً من جيرانها المرتعشين اذا ما فكروا في معارضة السياسة الاميركية - اليهودية، كما ان لإسرائيل دوراً مهماً آخر في كبت المقاومة الاسلامية المتنامية في فلسطين". واضافت: "اميركا تدرك أكثر من غيرها أنها تجلب بذلك الخراب على نفسها، فالأميركان بأنفسهم اعترفوا بنصف الحقيقة حينما قالوا إن عدو اميركا الأول هو التطرف الاسلامي، ولكنهم اخفوا النصف الآخر وهو أن دمار اميركا سيكون - إن شاء الله تعالى - على يد المسلمين، فهذا هو حكم السنن الربانية وذلك هو قانون العقوبات الإلهية". وتابعت النشرة: "نحن نعرف جيداً نقاط الضعف عند اميركا: إن مقتل اميركا واليهود هو ارسال جثثهم اليهم، واذا كانوا يقصفوننا بأطنان المتفجرات ويفتتون بالقنابل العنقودية لحم أطفالنا ويشوون بالقذائف الفسفورية أجساد ابنائنا فيجب علينا أن نقذف في وجوههم بلحم ابنائهم مفروماً مشوياً، يجب أن تدفع اميركا الثمن ويجب أن تدفعه غالياً. واذا كنا أمة الشهادة - كما ندعي - فكل الذي نحتاجه هو شجاعة القلب وارادة القتال والصدق فيما ندعيه من حب الموت في سبيل الله، هذا هو مفتاح نصرنا وبداية هزيمتهم، اذا أردتم أن تعيشوا أحراراً وتموتوا كراماً وتبعثوا شهداء فأمامكم الطريق واضح لا لبس فيه، فأين رجاله؟". ولا يبدو الخلاف بين تنظيمي "الجماعة الإسلامية" و"جماعة الجهاد" فقط في الموقف من اميركا بل في الأساليب التي يعتمدها كلاهما لتحقيق أهدافه وطوال سنوات العنف الديني في عقد التسعينات في مصر لم تلجأ "الجماعة الإسلامية"، ابداً إلى استخدام اسلوب العمليات الانتحارية، وحافظ عناصرها على اسلوب المواجهة المباشرة بينهم وبين الهدف المطلوب تصفيته. هكذا اغتالت "الجماعة" رئيس مجلس الشعب البرلمان السابق الدكتور رفعت المحجوب والمفكر الدكتور فرج فودة وحاولت مع نجيب محفوظ ووزير الإعلام صفوت الشريف في القاهرة وفعلت الشيء نفسه في أديس أبابا حينما حاول عناصرها اغتيال الرئيس حسني مبارك، واعتمد الاسلوب نفسه مع حوادث ضرب السياحة والبنوك والهجمات ضد رجال الأمن وحين قُتل كل منفذي حادثة الأقصر ثارت شكوك في المعلومات التي أفادت أنهم قتلوا بعضهم بعضاً، أو أن يكونوا انتحروا قبل أن تتمكن الشرطة من القبض عليهم حتى يموت سرهم معهم، فالمعروف عن "الجماعة الإسلامية" أنها لا تبيح هذا الأمر. وكانت "الحياة" نشرت في 1993 خبراً عن انتحار عنصر من التنظيم أثناء التحقيق معه في إحدى مدن الصعيد حيث قفز من نافذة البناية في الطابق السادس فلقي حتفه، فاتصل الناطق بلسان التنظيم وقتها طلعت فؤاد قاسم بمراسل "الحياة" في القاهرة ونفى الواقعة، وأكد أن "الجماعة لا تبيح الانتحار أياً كانت الأسباب، موضحاً أن عناصر التنظيم يمكن أن يقاتلوا حتى الموت ولا يمكن أبداً أن يقدموا من تلقاء أنفسهم على الانتحار أياً كانت الأسباب". وفي المقابل فإن "جماعة الجهاد" والتنظيمات الجهادية الأخرى التي تحمل أفكاراً متشابهة وأساليبها تكاد تكون مماثلة لتنظيم "القاعدة" اعتمدت منذ سنوات اسلوب العمليات الانتحارية، وكانت أول تلك العمليات عام 1993 محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق حسن الألفي حين فجر عضو التنظيم ضياء الدين محمود حافظ نفسه أثناء مرور موكب الألفي قرب مقر الوزارة، ووزع الظواهري لاحقاً شريط كاسيت بصوت حافظ تحدث فيه عن اسباب إقدامه على التضحية بنفسه. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1997 نفذ اثنان من عناصر التنظيم عملية انتحارية استهدفت تفجير السفارة المصرية في باكستان وأصدرت جماعة "الجهاد" بياناً تبنت فيه العملية وأعلنت أنها نُفذت لعقاب الحكومة الباكستانية لإقدامها على تسليم جهاديين إلى الحكومة المصرية. وأعلن البيان عن "إعداد مجاهدين آخرين لتنفيذ عمليات أخرى في المستقبل". وشرح البيان تفاصيل عن طريقة تنفيذ العملية. من الصعوبة الاعتقاد بأن "الأفغان العرب" خلال رحلتهم الطويلة والدامية تصرفوا من دون أن يبرروا تصرفاتهم وعملياتهم فهم وضعوا أسساً فقهية ساروا عليها واقتنعوا بها حتى لو كانت تلك الأسس خاطئة من وجهة نظر الآخرين. ف"جماعة الجهاد" مثلاً وضعت بحثاً في عنوان "العمليات الاستشهادية من المنظور الشرعي"، نشرت جزءاً منه في العدد الرابع والأربعين من نشرة "المجاهدون" انتهت فيه إلى اباحة تلك العمليات وأقرت "جواز إتلاف النفس لمصلحة إظهار الدين"، و"إجماع العلماء على جواز اقتحام المهالك في الجهاد" و"جواز حمل الواحد على العدو الكبير في الجهاد" و"خروج من قتل نفسه لمصلحة الدين عن النهي الوارد في قوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إنه كان بكم رحيماً"، و"خروج من عرّض نفسه للقتل في سبيل الله عن النهي في قوله تعالى: ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة"، و"فضل الصبر لمن أيقن الأسر والقتال حتى الموت"، و"فضل الصبر عن القتل وعدم النطق بالكفر" و"فضل الصبر عن القتل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" و"جواز اتلاف النفس للمصلحة العامة" و"جواز قتل النفس لعدم إفشاء الأسرار تحت التعذيب".