سينضم يوم الحادي عشر من أيلول سبتمبر الى الأيام العلامات في التاريخ المعاصر للبشرية. سيحصل ذلك بسبب معنى الحدث البشع. الحدث الذي، الى ذلك، هزّ أمن الدولة العظمى الوحيدة في العالم. وسيحصل أيضاً لأنه سيكون مناسبة لتغييرات كبيرة تترتب عليه: ستُقصف على الأرجح بلدان يُشتبه بصلة لها ب"الارهاب"، فيكون الحدث المشؤوم غطاءً أو مبرراً لارتكاب جرائم جديدة تذهب ضحيتها، بلا رحمة، الشعوب. وستتغير العلاقات السياسية الدولية باتجاه مزيد من القدرة الأميركية على ضبط اعتراضات أو تحفظات أو حتى استدراكات كانت ترد على سياساتها من دول عدة، كروسيا والصين وبعض أوروبا. وسينفتح الباب أمام الحق الأميركي في التدخل في أوضاع بلدان كثيرة من العالم الثالث، يمكن اتهامها بالعجز عن ممارسة ضبط كاف لأوضاعها الداخلية. وسيطاول حق التدخل هذا الاشتراك من دون أدنى تحفظ في الاستقصاءات الأمنية والتحقيقات القضائية الجارية حول أحداث باتت صغرى مقارنة بحدث اليوم، كمثل تفجير المدمرة "كول" في خليج عدن، في العام الفائت. وسيطاول حق التدخل "التفتيش" على الحياة السياسية والفكرية تحت ذرائع تعقب بؤر سياسية معادية للولايات المتحدة، يمكن اعتبارها حاضنات طبيعية لمثل هذا الذي جرى في الحادي عشر من أيلول. ستندفع الادارة الاميركية، محمية بحق عشرات ألوف الأرواح التي أزهقت قبل ان يرتد اليها طرفها، الى استباحة العالم استباحة "مشروعة"، طالما تحقق "تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة". هذه الجملة التي اطلقت تهويلاً مرات عدة في ما مضى، ثم تشابهت قصتها مع قصة الراعي الصغير والذئب، مع ان الولاياتالمتحدة لم تكن في أي يوم راعياً صغيراً يلهو... طالما تجسد على هذا النحو المباشر الصريح تهديد الأمن القومي للولايات المتحدة، فزالت "وول ستريت" عن وجه الأرض بلمح البصر، وتعطّل البنتاغون، وتوارى لساعات الرئيس الأميركي في مكان آمن! لا يستند التوجس من اندفاع الادارة الاميركية باتجاه مزيد من العنف، مزيد من القسوة، مزيد من التحكم، الى تصريحات المسؤولين الاميركيين في الأيام الماضية فحسب، بل الى التاريخ الدموي الطويل الملتصق بالولاياتالمتحدة. مَنْ لم يتذكر في هذه المناسبة هيروشيما وناغازاكي؟ لم يمض بعد عليهما الا سنوات قليلة، وما زال شهودهما أحياء. كانت الحرب الثانية قد حُسمت وقتها لمصلحة الحلفاء، وكانت المانيا النازية انهارت وكان يمكن بالتأكيد اخضاع اليابان من دون قنابل نووية أوقعت ملايين الضحايا الأبرياء وما زالت آثارها المدمرة تفعل فعلها حتى الآن. استحضر الهجوم على نيويورك بيرل هاربور وصَمَت صمتاً كذوباً نسّاء. لم تُراجع الولاياتالمتحدة يوماً قصفها اليابان بالقنابل النووية ولم تعتذر عن هذه الجريمة، كما عن حرب الفيتنام التي أعطت النابالم الحارق شهرته، كما عن تدمير العراق الذي ما زال مستمراً كما عن أقوال أولبرايت وزيرة الخارجية الاميركية السابقة، من أنها تخشى ان يكون قتل الأطفال العراقيين "ضرورياً" من اجل كسب الحرب، كما عن تسليم الفلسطينيين للذبح الذي ما زال مستمراً وما كان له ان يستفحل لولا الغطاء الأميركي. لم تعتذر الولاياتالمتحدة عن استعباد السود وما زال مؤتمر ديربان، حيث قامت الممانعة ضد الاعتذار، قريباً طرياً في الأذهان. قد يتحقق اعتذار عن ابادة الهنود الحمر، لأنهم أبيدوا ولم يعد أمرهم يعني سوى ملفات التاريخ. لذا، فآية اليأس الخروج المبتهج لبعض المسحوقين من الفلسطينيين، أبناء مخيمات اللجوء في لبنان او أبناء المدن والقرى الفلسطينية المحاصرة، المجوَّعة، المقصوفة باستمرار. تلك بهجة حزينة وهي بالتأكيد جزء من المأساة الواقعة في نيويورك، أحد وجوهها، وليست في مواجهتها. وأما شعور التشفي الذي خالج سراً، ولو كومضة سارع أصحابها الى مطاردتها وخنقها، مات الملايين من الناس على امتداد الكرة الأرضية، فكان احساساً بالنيل من الجبروت والتعالي والغطرسة الأميركية، اذ لحق الدمار برموزها وثبت ان التخطيطات المعقدة لتحالف المال والتكنولوجيا والسطوة لا توفر الحماية، وإن الدرع الصاروخي، على سبيل المثال، لا يحتاط ضد كل اشكال الأذى والدمار الممكنين، وان اميركا، حتى اميركا، ضعيفة هشة إزاء العنف إذا ما قرر التخلص من الروادع الاخلاقية وانفلت مجنوناً أعمى. احساس التشفي ذاك راح الى التجريد، بينما يطاول الحدث عشرات آلاف الارواح. تلك الصورة التي لا تُنسى للمستغيث الذي لوح طويلاً من على نافذة في أقصى طرف البرج، بقطعة قماش بيضاء. وتلك الصور التي يمكن رسمها للمخطوفين في الطائرات المدنية الذين تحولوا رغماً عنهم الى قنابل بشرية، وهؤلاء الذين نجوا لتأخرهم لدقائق عن موعد العمل... مصائر فردية وكارثة بشرية ونتائج سياسية ستتولد عنها نتائج. أصاب العالم الذهول، فكأنما توقف الزمن لهنيهة. وفي اليوم التالي، استفاقت المدن الكبرى وقد تغير شيء ما على وجه الأرض. ينظر سكانها الى حركتهم في الطرقات، الى مبانيهم المعتادة، الى معالمهم، نظرة لم يألفوها. يتغير الايقاع للشك في قيمة الاستعجال والتنافس والتطاحن. نيويورك، المدينة الأكثر صخباً وسرعة في العالم، الأشد توتراً، كأنها تسمَّرت في مكانها. سيسيل حبر كثير في وصف أوجه الشبه بين الحدث ومقاطع من أفلام شهيرة. وسيعيد البشر اكتشاف حقيقة ان الواقع يفوق دوماً الخيال. وسيعودون الى التشديد على المسؤولية الأميركية في تحويل الموت الى لعبة فيديو الكترونية. مئات آلاف اقراص الألعاب على الكومبيوتر التي تُشرك مستخدميها، من المراهقين على الأغلب، في استراتيجيات الهجوم على مدن وهمية تشبه مدناً نعرفها، وفي معارك إبادة، حياة أو موت، كأنما لا خيارات أخرى. قُصفت بغداد منذ احد عشر عاماً كأنما في شريط سينمائي مما تنتجه هوليوود. قامت CNN يومها بالإخراج، موفرة كل العناية بالتفاصيل، شريط موسيقى البداية الذي يوضع حتى يخص مسلسلاً بعينه وحتى لا يُنسى، والاضاءة، تلك الاضاءة المتقنة. من لا يعرف، من لم يخبر ذلك الشعور الذي ينتاب المرء عقب فاجعة تخصه، حين يستفيق في الصباح، فتلتبس للحظة خاطفة الحدود بين الحقيقة والوهم، ترد خاطرة أن ذلك حلم مزعج ستبدده اليقظة. ثم تستقر المرارة في الحلق.