نعيش، في الوقت الحاضر، أزمة عالمية ذات أبعاد خطيرة للغاية. والملاحظ أن الجميع يعي أبعاد هذه الأزمة من الملوك والرؤساء حتى المواطنين العاديين. فما هي مواصفاتها؟ إنها تتجلى في انتشار العنف وفقدان الأمن، في اللجوء الغظ إلى القوة العسكرية، في المجازر ضد المدنيين في بيت لحم أو كابول، في فرار الملايين من اللاجئين من بلادهم، وفي تعرض ملايين مضاعفة للمجاعة. هناك شعور عام بأن النظام العالمي قد انهار، وان انعدام القانون هو السائد، وقد اضيف إلى الخوف من البنادق والقنابل الذعر من كابوس الإرهاب البيولوجي. وتمركزت هذه الأزمة في الحادي عشر من شهر أيلول سبتمبر في مدينة نيويورك، ولكنها انتقلت الآن إلى أفغانستان وإلى إسرائيل - فلسطين، على رغم تخوف الولاياتالمتحدة من احتمال تعرضها لهجمات جديدة. هنا يتركز العنف الآن، هنا يُقتل الناس يومياً: من هذه "المناطق الساخنة" تنتشر موجات الموت والخراب إلى مناطق أخرى. فقد قتل مصلون في كنيسة في باكستان، واطلق النار على مواطن كندي في الكويت، ومات عدد من عمال البريد في الولاياتالمتحدة بعد اصابتهم ب"الجمرة الخبيثة". وهنا عدد آخر يقع فريسة المرض الخبيث بعدما بدأ الوباء يزحف على العاصمة الأميركية. وابان هذا كله يُحتجز آلاف "المشكوك فيهم" في بلد اثر آخر، ويتم استجوابهم وزجهم في السجون، وتستباح الحريات في كل مكان، ويُنكل بالمواطنين حتى في أعرق البلدان الديموقراطية. إن إقدام الولاياتالمتحدة على قصف أفغانستان بكل هذه القوة، ولا مبالاتها بمقتل المئات من المدنيين الأبرياء، يثيرا الغضب والتذمر في العالم أجمع، ولم تتوافر القناعة عند أحد بأن العدو تم تشخيصه على وجه الدقة، ولا أن الوسائل المستخدمة هذه هي أنجع الوسائل وأحسنها. وهناك تحرك معاد للحرب يتبلور حتى داخل الولاياتالمتحدة، وبدأ أقرب أصدقاء أميركا يتساءلون بصوت مرتفع عما إذا لم تكن قد اختارت الطريق الخاطئ في معالجة الأزمة التي تتعرض لها. ومن جهة أخرى، بدأ الرأي العام العالمي يضيق ذرعاً بممارسات إسرائيل من قتل وتدمير ضد الفلسطينيين، واستمرارها في التوغل في المدن الفلسطينية، واحتلالها لمواقع جديدة. لقد قُتل ما لا يقل عن 60 فلسطينياً خلال الأسبوعين المنصرمين، كما تم تدمير عدد كبير من البيوت والدكاكين والمرافق العامة الفلسطينية. جوهر الأزمة ما زال الناس في ارتباك وحيرة من أمرهم، على رغم التغطية الإعلامية الواسعة التي حظيت بها الأحداث الجارية. ومهما يكن من أمر، فقد بادر عدد من "الخبراء" إلى تفسير تفجر العنف الإسلامي أخيراً: اختار البعض أن يفسر هذا العنف، خصوصاً حركة أسامة بن لادن الذي تعتبره الولاياتالمتحدة رأس الأفعى - بأنه دليل على اخفاق العالم الإسلامي في تقبل الحداثة، أو علمانية الغرب. وذهب البعض الآخر إلى الزعم بأن هذا العنف هو رد فعل على العولمة، ويرى بعض المعلقين الأميركيين أنه لا بد من الاعتراف بمسؤولية مصر والمملكة العربية السعودية في خلق الظروف التي تسهل تطور ونمو التعصب الإسلامي، في حين كان يتوجب عليهم أن يعترفوا بمسؤولية الولاياتالمتحدة في تفاقم ظاهرة التعصب الإسلامي. وهناك آخرون يجدون الملاذ فيما يُسمى ب"صراع الحضارات" بين الإسلام والغرب، ولعل هذا الملاذ هو الأكثر شيوعاً في الوقت الحاضر، وهناك آخر الأمر، من يرى في "الحرب ضد الإرهاب" معركة مبسطة بين الخير والشر كالرئيس بوش بالذات. وقد يكون من الأفضل أن تُفهم هذه الأزمة على أنها "تمرد سياسي" تقوم به بعض القوى المتجذرة ضد مراكز القوى المسيطرة. على أي حال، هناك امتحان عسير للقوى المتصارعة يجري على امتداد الكرة الأرضية. ومن الواضح ان هدف التمرد السياسي هذا هو التحرر من هيمنة الولاياتالمتحدة وإسرائيل، انه تمرد ضد هيمنة الولاياتالمتحدة على العالم، وتمرد ضد هيمنة إسرائيل الاقليمية على الشرق الأوسط. على أن هذا التحدي المزدوج لا تشهره الدول أو المؤسسات الحكومية، فهذه، أو معظمها، تميل إلى التحالف مع الولاياتالمتحدة، ولو على مضض، وإنما هو تحد تعلنه جماعات صغيرة من المناضلين أو المقاتلين المهتمين، يتمتعون على الأرجح، بتأييد أكثرية صامتة، وقد لا تكون صامتة تماماً، في العالمين العربي والإسلامي، وبتأييد رأي عام في بلدان أخرى يزداد أهمية يوماً بعد يوم. إن مظاهرات الشارع الغاضبة في باكستان وأندونيسيا، والهيجان الشعبي في المدن العربية، والشجاعة الفائقة التي يواجه بها الأفغان والفلسطينيون العدوان المسلح ضدهم، وتصاعد التململ الدولي من العدوانية الإسرائيلية وحرب الولاياتالمتحدة في أفغانستان، على حد سواء، دلائل تؤكد صحة ما نذهب إليه. إن القيادة الفلسطينية - وموقفها مفهوم تماماً - لا تريد ان تقرن بن لادن. إنها تخشى - لو اربتطت به حتى ولو بشكل غير مباشر - أن تخسر رصيدها عند الرأي العام الغربي، ثم أنها ترفض الحاح شارون على تشبيه عرفات ببن لادن، ذلك أن نضال الفلسطينيين من أجل تحررهم الوطني - وهو نضال مشروع من كل الوجوه - لا علاقة له بحوادث أيلول في الولاياتالمتحدة. غير أن تحدي "طالبان" - بن لادن للولايات المتحدة والانتفاضة الفلسطينية ضد إسرائيل هما وجهان لعملة واحدة، كلاهما تحديان لهيمنتين مسيطرتين، هيمنتين تثبت الأيام ترابطهما وتلازمهما المستمر. ومن حيث شئنا أم أبينا فإن الرأي العام الدولي يرى أن هناك ترابطاً بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل يشابه التصاق "توأم سيام" المعروف. إن شراكتهما الاستراتيجية المستمرة منذ ثلاثة عقود ازدادت التحاماً، حاملة إلى الآخرين الموت والدمار. لم تكتف الولاياتالمتحدة بتزويد إسرائيل بمعدات لم يسبق أن قدمتها لأية دولة أخرى، وتوفير دعم سياسي لها لا حدود له، بل إنها غضت الطرف عن اضطهادها للفلسطينيين واستمرارها في مصادرة أملاكهم، كما غضت الطرف عن اعتداءاتها المتكررة على لبنان، واحتلالها المستمر للأراضي العربية. لقد اختارت الولاياتالمتحدة أن تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط بعيون الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، وكان بوسع إسرائيل، بالمقابل، أن ترسم وتسيطر على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط بسبب اختراقها للمؤسسات الحاكمة في الولاياتالمتحدة، بما فيها السلطتين التشريعية والتنفيذية. ونجحت إسرائيل، بمساعدة أصدقائها الأميركيين، تحريض الولاياتالمتحدة ضد العراق وإيران وسورية، كما أملت عليها اسماء حركات المقاومة العربية التي تنطبق عليها مواصفات "الإرهاب"، وحددت لها الدول العربية التي يتوجب معاقبتها ك"دول راعية للإرهاب". ثم ان هذا الأسبوع، الذي يصادف الذكرى العاشرة لمؤتمر مدريد حول سلام الشرق الأوسط، يذكرنا بعشر سنوات من عملية سلام فاشلة بسبب اذعان الولاياتالمتحدة لإسرائيل. وسعت الولاياتالمتحدة وإسرائيل بالاعتماد على تنسيق تام بينهما، إلى فرض ارادتهما على العرب، ضاربين عرض الحائط بتصاعد الغضب الشعبي، وتفاقم الاحباط في الشارع العربي، وما عليهما اليوم إلا أن يواجها هذه الثورة العارمة التي أفرزها مزيج الغضب والاحباط، إذ لا بد من الإقرار بأن فلسطين مغروسة في قلب "الجهاد" ضد الولاياتالمتحدة، وبأن هناك تشابهاً مثيراً بين موقف كل من إسرائيل والولاياتالمتحدة ازاء التحديات التي يواجهونها: كلاهما يحاول أن يسرد تفوقه بالاعتماد على القوة العسكرية، والنتيجة المستخلصة أن العنف والمأساة الإنسانية في أفغانستان مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بالعنف والمأساة في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة. لقد اغتالت إسرائيل، في حملتها ضد "الأهداف المحددة بعناية" ما يقارب ال50 ناشطاً فلسطينياً خلال السنة المنصرمة، ويتحدث سياسيوها علناً ومن دون خجل الآن عما إذا كان "ينبغي تصفية عرفات أم لا"، ويقال بأن وكالة الاستخبارات الأميركية، بدورها، قررت القيام بحملة لتصفية "أهداف محددة بعناية" ضد "أعداء" الولاياتالمتحدة المفترضين. وقد علم أخيراً بأنه تم تشكيل فريق من الوحدات الخاصة الأميركية والإسرائيلية، حسب تقرير نشرته مجلة "نيوزويك" الأميركية هذا الأسبوع، يتدرب حالياً على التسلل سراً إلى باكستان لمصادرة أسلحتها النووية في حال نجاح انقلاب يطيح بالجنرال برويز مشرف، خوفاً من احتمال وقوع هذه الأسلحة النووية في أيدي الجماعات الإسلامية المتطرفة. هل هناك مخرج آخر؟ يبدو لي أن الولاياتالمتحدة وإسرائيل على مفترق طرق تاريخي، وسيكون للطريق، الذي يختارانه نتائج عميقة وحاسمة على مستقبلهما، ومستقبل العالم أيضاً. فهل سيصران على استخدام القوة أم أنهما سيسلكان طريق المفاوضات؟ الخيار السياسي في غاية الوضوح، ولكن لا توجد في الوقت الحاضر دلائل محسوسة لا في واشنطن ولا في القدسالمحتلة تشير إلى أن الأفضلية ستكون إلى جانب الحل السياسي! يقال لنا بأن حملة القصف في أفغانستان ستستمر إلى أن يتحقق التدمير الكامل ل"طالبان"، ولأسامة بن لادن. كما يقال ان صقور الولاياتالمتحدة عازمون على توسيع رقعة الحرب لتشمل العراق و"حزب الله" و"حماس" و"الجهاد الإسلامي"، بل لتشمل أيضاً سورية ولبنان. فهل ستقضي هذه السياسة على "الجهاد الإسلامي" المنتشر في طول العالم وعرضه؟ وهل يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل المخاطر الكارثية لمثل هذه الحملة؟ أليس من الأفضل والأرجح للولايات المتحدة أن توقف قصفها لأفغانستان خلال شهر رمضان، كما تطالبها المؤسسات الإنسانية، كي تستغل فترة التوقف للقيام بمسعى سياسي، تاركة لمبعوث الأممالمتحدة الأخضر الإبراهيمي فرصة للنجاح في مهمته الصعبة؟ ثم لماذا لا يُصار إلى الكشف عن البراهين الدامغة التي ثُبت تورط أسامة بن لادن، فإذا ما تأكد بأنها مقنعة فقد يقبل عرض "طالبان" بتقديمه للمحاكمة أمام قضاة يختارون من ثلاث دول عربية؟ تؤكد التقارير من الولاياتالمتحدة هذا الأسبوع ان هناك اتصالات منتظمة ومستمرة بين الإدارة الأميركية و"طالبان" قبل الحادي عشر من أيلول، فإذا كان هذا صحيحاً، فلماذا لا يستمر هذا الحوار للتفتيش عن حل ينقذ ماء الوجه، ويوفر على شعب أفغانستان الكثير من الآلام والعذاب؟ وتواجه إسرائيل خياراً مماثلاً، ان القوة العسكرية لن تقضي على تطلعات الشعب الفلسطيني للاستقلال ورفض الاحتلال. ومن المؤكد أنه كلما أسرع الإسرائيليون إلى الرجوع إلى جادة الصواب أو تخلصوا من ارييل شارون، وعادوا إلى طاولة المفاوضات، على أساس مقترحات طابا الأخيرة، كلما كان وصولهم إلى العيش بأمان وسلام أسرع وأضمن. كلما أسرعت الولاياتالمتحدة في الضغط عليهم لقبول هذا الخيار، كلما ازدادت فرص نجاحها في استعادة مصداقيتها وهيبتها! تخطط الولاياتالمتحدة لانفاق 200 مليون دولار لتصنيع طائرة حربية مقاتلة جديدة "الجوينت ستراك فايتر". مثل هذا المبلغ الكبير يمكن انفاقه للتوصل إلى السلام في الولاياتالمتحدة، لإعادة إعمار العراق ولاسكان اللاجئين الفلسطينيين ولتوفير أمن للولايات المتحدة وللعالم أجمع، لا يمكن أن توفره كل أسلحة الحرب الفتاكة! * كاتب بريطاني متخصص في شؤون الشرق الاوسط.