الجرح هذا الصيف احتفلت برشلونةوغرناطة بفيديريكو غارثيا لوركا، "الأندلسي المحترف" كما سماه خورخي لوي بورخيس، رقصاً ومسرحاً وشعراً ورسماً. مع "أغانٍ" الذي نشره في 1927 صرخ النقاد: "طليعي" وبدأ الشعر الاسباني الناعس يتغير ويصحو من هذيان القرن التاسع عشر العاطفي. واكبت بداية حياته القصيرة الحرب الاسبانية - الاميركية، التي أنهت اسبانيا كقوة كبيرة، ونهايتها بداية الحرب الأهلية في بلاده التي شاء أن يخلصها من ماضيها الاقطاعي المتخلف. عندما وقف أمام جنود فرانكو وأعدم رمياً بالرصاص هل حقّق الموت الذي اشتهاه أم ان الحقيقة اختلفت عن اللعبة؟ هجس الشاعر بالناصري "المتطرف" ولام المجتمع البورجوازي لقتله. اسبانيا سخرت من دون كيشوت الشبيه بالناصري وسجنت ثرفانتس، ولوركا وصديقه سلفادور دالي اعتبرا نفسيهما قديسين مثخنين بسهام النقاد تيمناً بالقديس سيباستيان الذي ربط الى شجرة وقتل رمياً بالسهام. قبل موته بسنوات خيل اليه انه سيصاب بسرطان المعدة من "مسلخ" مانهاتن، نيويورك، وقال: "ان أموت بالسرطان. ستكون ميتة جميلة!". عندما قتل في 1936 عن ثمانية وثلاثين عاماً صاح دالي: "أوليه"، كأنه يحيي مصارع ثيران شجاع، واعتقد ان لوركا تمتع بموته، لكن بابلو نيرودا ميّز الشهادة وشبه الشاعر بالمسيح. لم يهتم هذا بالسياسة، قال نيرودا، لكن كتائب فرانكو القومية استهدفت رمزاً وقتلت في لوركا "جوهر اسبانيا". كانت الكلمة حربه، ورأى الشاعر جرحاً صوتياً والماء في نوافير حديقة الخينيراليف في غرناطة "يتعذب ويبكي مليئاً بكمانات بيضاء صغيرة". شاء مع دالي العصرنة بعيدة عن الشخصانية فالتقى مع ت. س اليوت وفنانين المان التزموا "الموضوعية الجديدة" وسموا سان سيباستيان الذي لقي موته بهدوء "قديس الموضوعية". رأى الرجلان ان العصرنة ستغير أدب البلاد والبلاد نفسها، وارتبطا بعلاقة مثلية عندما التقيا في مدريد. دالي الذي عشق لفت الانظار غار أولاً من الشاعر المعروف الذي كان أيضاً رساماً وعازف بيانو جيداً، لكنه ما لبث أن رسم وجهه ووجه الكاتب متجاورين متلاحمين. كان في نيويورك عندما أخرج صديقهما الاسباني المشترك لويس بونويل "كلب اندلسي" في باريس فحزن إذ ظن الرجل المخنث في الفيلم يمثله. بين نهاية العشرينات ونهايته كتب "الشاعر في نيويورك" الذي ضم أفضل أشعاره وكانت مخطوطته موضع نزاع بين ورثته والناشر العام الماضي. اختفت المخطوطة ستين عاماً الى أن ظهرت في دار كريستيز للمزاد، لندن، وكتبها الشاعر بفعل الصدمة التي أحدثتها نيويورك، غابة الاسمنت، في وجدانه، وحزنه على فراق صديقه النحات اميليو آلادرين الذي هجره ليتزوج امرأة انكليزية. لم يكن غادر اسبانيا قبل ذلك، وسرعان ما حل اعجابه بسود هارلم محل افتتانه بغجر الأندلس. تحدى الكبت الكاثوليكي بمسرحيتيه "يرما" و"بيت برناردا ألبا" وتفوق "الشاعر الثانوي" وفق بورخيس على شعراء من معدن رفيع كألبرتي وغيلن وساليناس. ألطف الرجال والجوائز في الحادية والثمانين تصدر دوريس ليسينغ رواية "أحلى الأحلام"، وتتعلم الروسية لكي تقرأ الكسندر بوشكين بلغته الأصلية، وتستلم جائزة استورياز التي تدعوها "جائزة كبيرة في اسبانيا". ليست أكثر من جدة نشيطة ممتلئة الجسم لمن لا يعرفها، لكن هذه الرائدة النسوية غصباً عنها هزت العصا أخيراً في وجه النسويات وقالت ان الرجال يتعرضون باستمرار للتحقير والاذلال على أيديهن، وان الفتيان الصغار ينكمشون وهم يعتذرون عن وجودهم عندما تعزو المعلمة الحروب الى طبيعة الرجال العنيفة. أخطأت عندما قالت ان النساء نلن المساواة في الفرص والراتب، وأصابت عندما رأت ان "أكثر النساء غباء ورداءة طبع يستطعن أن يذللن ألطف الرجال وأذكاهم من دون أن يعترض أحد". الانتقاد يعرّض المرء للاتهام بخيانة القضية الكبيرة "وأنا لست خائنة". لكنها تقول مرة ان النسوية هي التي حققت المساواة، ومرة ثانية ان النساء نلن الحرية بفضل حبة منع الحمل والأدوات الكهربائية. يعني؟ العلم لا النسوية. ارتكبت النسويات الخطأ تلو الخطأ، وكلما تركت امرأة زوجها هلّلوا لها وأرسلوها الى جماعة السحاقيات، الأمر الذي ألحق الضرر بالجميع ولا سيما منهم الأطفال. فضّلت والدتها شقيقها عليها فتركت المدرسة في الرابعة عشرة وعملت في وظائف يدوية عدة. في الرابعة والعشرين كانت زوجة وأماً لطفلين، على انها تركت اسرتها لتتزوج وتنجب وتطلق ثانية، ولا يزال ابنها من زواجها الثاني يعيش معها في لندن. ولدت في ايران ونشأت في روديسيا، زيمبابوي اليوم، وفي أول الخمسينات حملت روايتها الأولى "العشب يغني" الى لندن في الوقت الذي كانت صحافتها تنعي الرواية. أسهم نجاحها في انعاش هذا الصنف الأدبي وتبعتها الرواية الثانية التي جعلتها رائدة نسوية، "المذكرة الذهبية". "باتت حياتي صرخة حرب للنساء لكنني لا أدعو أحداً الى القيام بما فعلته. لم ىأت بالخير لأحد إلا لي". أصدرت جزءين من سيرتها الذاتية وتوقفت في 1962 لأن بعض المعنيين معروف ولا يزال حياً. روايتها الأخيرة "أحلى الأحلام" الصادرة عن دار فلامنغو تلقي نظرة دافئة وان ناقدة على الستينات التي فتحت خلالها بيتها لأصدقاء ابنها المراهق. طاف الشباب يومها العالم مثل "سرب من السنونو"، أما المخدرات فليست أكيدة من موقفها تجاهها. قرأت ان بعضها يؤذي الدماغ، لكنها تكره منع أي شيء في الوقت نفسه. انضمت الى الحزب الشيوعي عندما كانت في العشرين لكنها تركته في 1956 عندما غزا الاتحاد السوفياتي المجر وقمع انتفاضتها. "كانت الشيوعية في الغرب مرضاً نفسياً جماعياً. وقام النظام الاجتماعي كله على تسخير السجناء". روايتها الأخيرة عن الرفيق جوني الذي يؤمن مثل لينين ان لا أهمية للأمور الخاصة، ويمضي حياته في الذهاب الى الاتحاد السوفياتي مع الوفود. في الربيع نالت جائزة ديفيد كوهن عن انتاجها طوال الحياة وأفرحتها "أفضل وألطف" الجوائز البريطانية البالغة ثلاثين ألف جنيه استرليني. لكن فيما ينظر من يكرمونها الى الوراء تجلس أمام ورقة وقلم وتحلم ربما بجائزة لطيفة أخرى. بين العين والروح في شباط فبراير 2002 تكمل اليزابيث الثانية عامها الخمسين ملكة على بريطانيا، وسمحت للمناسبة بعرض عشرة رسوم من مجموعة ليوناردو دافنشي التي تملكها في انحاء البلاد. تغطي الرسوم معرفة الايطالي بالهندسة والتشريح والنبات والبصريات وطبقات الأرض، وكانت حبيسة الظلمة ضمن المجموعة البالغة ستمئة رسم خشية تعرضها للتلف في النور اذا عرضت بشكل دائم. وكانت منظمة "آرت ووتش" في المملكة المتحدة هددت بمقاضاة متحف اوفيزي في فلورنسا، ايطاليا، إذا حاول ترميم لوحة "عبادة المجوس" لدافنشي خشية أن تدمر المواد الكيماوية المستخدمة رائعة معلم النهضة. وفي آب اغسطس الماضي بيع في لندن رسم "الحصان والفارس" الصغير بأكثر من ثمانية ملايين جنيه استرليني، وأكد جاذبية الفنان الثابتة لدى من يملكون القدرة على التعبير عن اعجابهم عملياً. ينتمي دافنشي 1452-1519 الى العصر الذهبي في الفن، ولا نزال حتى اليوم نحار في تفسير ابتسامة الموناليزا ونعزوها الى هذا المرض أو ذاك أو الصداع الأليم المصحوب بصريف الأسنان. يتجمع السياح امام هذه اللوحة في متحف اللوفر في باريس كما لو كانوا في تظاهرة، ولا تزال تلهم الفن الحديث كما خاطبت خيال الفنانين القدامى بمن فيهم رافاييل الذي نسخها في اسكتشات عدة. راجت المعرفة الشاملة في عصر النهضة، لكن شمولية دافنشي، الطفل غير الشرعي، صاحبتها قوة روحية دافعة وسمت تفكيره وسلوكه. جعل البصر أهم الحواس، وكل ما يُرى دافعاً الى المعرفة، وكانت "معرفة الابصار" جوهر دراسته الانسان والطبيعة. برهنت عينه انها الشريكة الكاملة لعبقريته فظهر ابداعه منذ جعله والده تلميذاً لاندريا دل فيروكيو وهو في الخامسة عشرة. ترك الفنان والعالم سبع عشرة لوحة فقط يثق الخبراء في تحقيقه لها، ولم ينجز بعضها بما في ذلك "عبادة المجوس". كان همه الأساسي الحقيقة والجمال، وأجاد الرسم والتلوين ولعبة النور والظل فأسر العين والروح في الناظر.