عن الأدب والأخلاق زاد مبيع كتب كارلوس فوينتس بعدما طرد وزير التربية في المكسيك معلمة في مدرسة ابنته لتدريسها روايته "هالة". تفسد اخلاق الشباب، قال الوزير الحمش، لكن بعض زملائه كان اول من وجد رأيه سخيفاً. في الرواية عاشقان يتحابان في سرير تحت الصليب، لكن الصليب يعلو السرير غالباً في المكسيك بحسب اكبر كتابها. ولئن حنق مع صديقه الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يعيش في المكسيك، لطرد المعلمة، فهو شمت بالوزير وامتنّ له في آن. "انه افضل وكيل ادبي لي" قال في لوس انجليس التي زارها لاحياء امسية. في بريطانيا صدرت الترجمة الانكليزية لرواية "السنوات مع لورا دياز" عن دار بلومزبري، ويتناول فيها موت فنان شاب وسط خلفية لتاريخ بلاده وأميركا اللاتينية في "القرن العشرين الرهيب". كتبها ليواجه مرض ابنه الوحيد كارلوس المصاب بمرض النزف الشديد الذي توفي في الخامسة والعشرين. عرف ان حياته قصيرة، قال الوالد المفجوع، فملأها ليل نهار بكتابة الشعر والرسم والتصوير. "عندما اكتب احسه قريباً مني، تقريباً داخلي، كأن كلينا يكتب ويعيش معاً في تلك اللحظات المبدعة". لكنه تطهر في الرواية من حزنه على عمه ايضاً. كان شاعراً وتوفي بالتيفوئىد في الحادية والعشرين من عمره ف"حفظه" والد الكاتب عندما سمى ابنه باسمه ودفعه نحو القراءة والكتابة. في "السنوات مع لورا دياز" يوازن فوينتس عمله الباكر "موت ارتيميو كروز" ويجعل بطلته امرأة. اتهمته النسويات بالخضوع للثقافة اللاتينية التي ترى المرأة واحدة من اثنتين: مريم العذراء او عاهرة، فأخذ يمدح الكاتبات وجدتيه اللتين كانتا "ارملتين شابتين شجاعتين". جدته لأبيه الاسبانية الاصل أقامت نزلاً وأدارته في مدينة مكسيكو، وجدته لأمه الالمانية الاصل كانت مفتشة تربوية ناضلت لمحو الأمية. كان يتناول الطعام قرب البحيرة في زوريخ عندما رأى توماس مان على طاولة قريبة وقرر ان يصبح كاتباً. كان في الحادية والعشرين، يدرس القانون الدولي، ورفض وظيفة في منظمة العمل الدولية لم يلبث من قبلها، ميغيل دو لا مدريد، ان اصبح رئىساً للمكسيك. عرف انه سينتهي بحياة لم يردها، اذ رأى الكتابة حياته. منذ روايته الاولى "حيث الهواء نقي" في 1958 ساهم، او تزعم، في ازدهار الادب اللاتيني. سمّي "بلزاك المكسيك" واعتبر وريثاً للمجددين الاوروبيين، جيمس جويس وفرجينيا وولف ومارسيل بروست. في "موت ارتيميو كروز" استخدم تيار الوعي للمرة الاولى في الادب اللاتيني ليصور استرجاع رجل يحتضر صعوده مع الثورة الى السلطة والثروة اللتين افسدتا المبادئ وبررتا خيانتها. ولد فوينتس في 1928، ويرى نفسه ابن ثورة 1910-1920 التي فشلت في تكريس الديموقراطية وحقوق الانسان لكنها فضحت حقيقة البلاد. لم تكن المكسيك واجهة فرنسية بجيش بروسي الطراز بل ارضاً شاسعة امية فقيرة ركض ابناؤها الى الأدب والفن يجددونها بعدما رأوا حقيقتهم في المرآة. الماضي الهندي الأحمر موّه بالغزو الاسباني ثم بالقناع الاوروبي ثم بذلك الاميركي الشمالي "الذي لا نزال نضعه ... ربما كان ذلك وجه المكسيك الحقيقي: اقنعة عدة احدها فوق الآخر". رفض استغلال الذكرى الخمسمئة لاكتشاف اميركا لادانة اسبانيا، وعزا الى خورخي لويس بورخيس "فضل تذكيرنا بأن اسبانيا كانت ايضاً مخزن التقاليد اليهودية والاسلامية الكبيرة في العصور الوسطى". كان والده سفيراً وعاش بعض طفولته في اميركا التي سهُل عليه فيها ان يصبح يسارياً. مطاعم تكساس علّقت لافتات تقول: "ممنوع دخول المكسيكيين والكلاب" ووصفت الاسبانية ب"اللغة القذرة". كبر احساسه بمكسيكيته وحقوق الانسان، وكان في الخامسة عشرة عندما رفض الذهاب الى مدرسة في بيونس ايرس لأن المنهج التربوي كان يومها لاسامياً مؤيداً للنازية. "كانت اروع سنة اذ اكتشفت فيها بورخيس والتانغو والنساء". عيّن سفيراً في فرنسا في السبعينات، لكنه استقال بعد ثلاث سنوات احتجاجاً على تعيين رئىس مكسيكي سابق متورط في قتل مئات الطلاب المتظاهرين في 1968 سفيراً في اسبانيا. يحاضر شهراً كل سنة في جامعة براون، الولاياتالمتحدة الاميركية، وكلما زار كاليفورنيا وتحدث بالاسبانية الى مكسيكيي الاصل فيها يحس انه "استعادها" من الاميركيين الذين احتلوها في القرن التاسع عشر. كان زواجه الاول ينهار عندما التقى الممثلة جين سيبرغ "اللامعة، الذكية، الجميلة" في اواخر الستينات وجمعتهما علاقة قصيرة جارفة. "اختطفت من الوسط الاميركي الغربي اللوثري من دون ان تستعد للتعامل مع الشهرة. ضايقتها هذه عاطفياً، لكنني لا استطيع الا ان اكون ممتناً لذينك الشهرين". روايته "ديانا الآلهة التي تصطاد وحدها" تميل الى السيرة الذاتية وتتناول سيبرغ التي انتحرت في 1979. يتهم بتكرار نفسه وفقدان الصلة مع ما تلا الستينات والسبعينات، وفي الثانية والسبعين يرتدي الجينز والكنزة مثل كل المثقفين الذين يعتقدون انهم لا يشيخون. آخر الحياة مسرحيتان في لندن حتى اوائل حزيران يونيو للكاتب الاميركي ادوارد آلبي لا تجدان الصدى الايجابي نفسه لأعماله الثلاثة التي شاهدتها العاصمة في التسعينات. "العثور على الشمس" عن امرأتين من الطبقة الوسطى تزوجتا شابين ثريين جمعتهما علاقة مثلية في الماضي. يطمس الشابان ميولهما الحقيقية ويقعان سجينين للضغط الاجتماعي الذي يحدد الصحيح والخطأ بصرف النظر عن الافراد. وفي مسرحية "زواج" يتشاجر زوجان بطريقة مستمرة ليس لأن احدهما علق مع الآخر بل لأنهما "يدركان ان العلاقة الاخيرة في حياة المرء هي نوع من الموت". آلبي الذي يبدو اصغر من سنواته الثلاث والسبعين يعيش مع صديقه النحات منذ اثنين وثلاثين عاماً ويقول انه "لا يوافق على الموت". نخاف من بلوغ عمر معين لأنه سينقطع فجأة ويمنعنا من "انهاء الحياة" يقول. يحب المشاركة، ويرى ان لا شيء أسوأ من الوصول الى آخر الحياة والادراك اننا لم نشارك فيها بكل طاقتنا. لكنه ينفر من القول انه يكتب سيرته كما لو كان ذلك تهمة بلا ذوق او اساس. يكتب عن الزواج وحصاره المر من دون ان يدفع ابطاله الى الهرب بطريقة ما وإن تعرضوا للخيانة. في "من يخاف فرجينيا وولف" التي عرضت للمرة الاولى في نيويورك في اوائل الستينات اختار لبطليه اسمي جورج ومارتا الرئىس الاميركي الاول وزوجته فدفع نقاداً الى الحديث عن انهيار البيت الاميركي. لكنه لا يحتمل البعد السياسي وقد لا يرغب فيه، وهمته تكرار الزواج البورجوازي كما كرر أيدي مارهول الصورة نفسها. يهجس بالعلاقات التي تبقى على رغم متاهاتها وضعفها المزعوم ومحاولات كل طرف تدمير الآخر. كأن مجرد القدرة على البقاء مع الآخر يكفي وإن بدا هذا بغيضاً وهداماً الى درجة لا تحتمل. يكتب ادوارد آلبي عن الطبقة الوسطى العليا التي انتمى اليها عندما تبناه زوجان منها وهو طفل. كانت الأم الزوجة الثالثة للأب، اصغر منه بثلاثة وعشرين عاماً وأطول منه بثلاثين سنتيمتراً. "عمري ما شعرت انني انتمي الى الناس في تلك البيئة. كانوا متحاملين بشدة ورجعيين". ترك البيت عندما كان في الثامنة عشرة وحرم وراثة اهله. لا، لم تكن مثليته سبب الخلاف، بل تخييره بين تغيير سلوكه والرحيل. "ثلاث نساء طويلات" من افضل مسرحياته، ويقر انها عن امه المتسلطة والمصالحة معها ومع الموت بعد موتها. لا تتمتع شخصياته بالجاذبية، فالرجال اثرياء الى درجة لا تطاق، والنساء مخلوقات لا يدخل العمل في قاموسهن. وعلى رغم كراهية آلبي لها يمنحها فرصة المساواة معنا، ويقول انها تواجه مسؤوليات العيش والسلوك بانسجام مع النفس. أنثى وذكر كل ربع ساعة تذاع معزوفة "بوليرو" الشهيرة في مكان ما من العالم من دون ان يحصل متحف مؤلفها المتصدع على فرنك واحد من حقوق بثها واعتمادها. كتب موريس رافيل اكثر المقطوعات شعبية في بيت صغير فوق قرية مونفور - لاموري في فرنسا، وبعد وفاته في 1937 خلال جراحة في الدماغ تعقّد ارثه وحرم البيت - المتحف حقه في الصيانة والحفظ. ورث شقيق رافيل تركته فأورثها هذا لممرضته وزوجها الذي ابرم اتفاقاً مع وكيل موسيقي نعم معه بريع الارباح السنوية التي تقدر بمليون ونصف مليون جنيه استرليني سنوياً في الاعوام الثلاثين الماضية. ولا شيء يشير الى ان قضية الارث المتشابكة ستسهل قليلاً او كثيراً، فاذاعة اعمال الموسيقي ستصبح مجانية في 2015، والمستفيدون من الرجل الميت الذي يدر الملايين يحكمون قبضتهم قدر استطاعتهم قبل حلول النهاية. هل تكمن الرغبة المكبوتة خلف بوليرو او خرف الشيخوخة الباكر؟ ايفا سايبولسكا قالت في التسعينات ان رافيل يكرر الجملة نفسها ثماني عشرة مرة من دون ان يغيرها او يطورها كما يحدث في الموسيقى الكلاسيكية. بدأت اعراض المرض العقلي تظهر عليه في 1927 قبل ان يؤلف بوليرو على عجل تلبية لرغبة راقص صديق بعد ذلك بعام. بدا ضائعاً اثناء تأدية عمل له واقترف الاخطاء وهو يكتب الموسيقى. تعافى تماماً ثم انتكس بحدة بعد تعرضه لحادث سيارة تركه عاجزاً عن النطق والقراءة والكتابة والسيطرة على حركاته. احتفظ بادراكه وذاكرته وحسه الجمالي، لكن قدرته على التعبير تعطلت فبات سجين جسده الخائن. الاميركي بنجامين ايفري كاتب سيرة رافيل يقول ان بوليرو قد تعبر عن حب مثلي كُبت بارادة حديد. في فيلم "10" الشهير يمارس رجل وامرأة الحب على انغام الموسيقى المتصاعدة المتكررة، لكن رافيل كان مثلياً هجس بمظهره ونفر من اظهار العاطفة وفق ايفري. التوتر الجنسي المغناطيسي في بوليرو كشف عذابه من رغبته المرفوضة، قال، لكن كتاباً آخرين لسيرة رافيل ذكروا انه عاشر المومسات وحدهن وإن بدا مثلياً. وفي 1996 ذكر جيرالد لارنر ان الذكر والانثى تساويا في الموسيقى حتى ألغى احدهما الآخر، وان بوليرو مزيج من الدقة والحسية والرجولة والانوثة. سأم العيش استعد ابو العلاء المعري للموت لأنه عاش "ثمانين حولاً" وسئم "تكاليف الحياة". براموديا انانتا تور في السادسة والسبعين ويعيش حالاً مماثلة: "اذا كان علي ان اموت الآن سأموت. سئمت العيش خائفاً". في خريف 1965 قصد جمهور غير مرغوب فيه أفضل كتاب جنوب شرقي آسيا اليساري الميول ورموا بيته بالحجارة وكسروا نوافذه وبابه. عندما وصل الجنود لم يوفروا له الحماية بل قيدوه ووضعوا حبل مشنقة حول رقبته وضربوا وجهه بأعقاب البنادق ثم احرقوا مكتبته وأوراقه. تعرض للتعذيب في السجن الذي امضى فيه اربعة عشر عاماً ومورست عليه الرقابة، ومع ذلك انتج افضل ما كتب في منطقته. بقي الكاتب الاندونيسي قيد الاقامة الجبرية ومنع من السفر والنشر حتى 1998 عندما اجبرت تظاهرات الطلاب الرئىس سوهارتو على الاستقالة. فجأة بات تور بطلاً محلياً وعالمياً وعادت كتبه، ولا سيما منها "رباعية بورو"، الى صدارة الاكثر مبيعاً، ورشح لجائزة نوبل. لكن تور عاد الى لعب ضحية صيد السحرة رغماً عنه. لم يكن شيوعياً يوماً لكن "حركة الشبيبة الاسلامية" و"الحلف المضاد للشيوعية" احرقا الكتب التي لا تلائم ذوقهما، والأحد الماضي "مشّطا" المكتبات لانقاذ الوطن من خطر حرية الرأي في ما سمّي "يوم الصحوة الوطني". تور الذي سجن ايام الاستعمار الهولندي ايضاً لا يرغب في لعب الدور نفسه بعد ثلاثة اعوام من العيش بين الأمل والتوجس. لكنه قد يحصل على اشهر جائزة ادبية اذا بقي حياً حتى آخر الصيف، فالاكاديمية السويدية تحب مكافأة السائرين عكس التيار، خصوصاً اذا كانوا في العمر الملائم مثله.