الكتاب: لوركا: حلم حياة المؤلف: لسلي ستينتون الناشر: بلومسبري - لندن يعتبر كتاب لسلي ستينتون "لوركا: حلم حياة" الصادر مطلع هذا العام اول كتاب في الانكليزية يحتوي على معالجة شاملة لسيرة حياة لوركا التي تناولها من قبل كتاب كثيرون. وربما يُجيء هذا الكتاب تتويجاً لكل ما كتب عن لوركا من مقالات وبحوث ادبية مختلفة خلال الاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاده العام الماضي. لم يكن الشاعر والكاتب المسرحي فيدريكو غارثيا لوركا يتجاوز الثامنة والثلاثين عندما اغتيل على يد زمرة من الفاشيست في ضواحي مدينة غرناطة وبعد شهر واحد من اندلاع الحرب الاهلية الاسبانية. ويبدو ان لتعاطفه المعلن وولاءه الصريح للجمهوريين، اضافة الى ارتباط الطبيعة التجريبية لمسرحياته الطليعية وحياته الخاصة، كل هذا ادى الى ان يكون هدفاً واضحاً لاعدامه. عندما اندلعت الحرب الاهلية صيف 1936 كان لوركا انتهى من كتابة مسرحيته "بيت برنارد البا" فعاد من مدريد الى بيت والديه معتقداً انه أصبح في مكان يوفر له اماناً افضل. كما لو انها نُذُر شؤوم، أعلنت الصحف المحلية خبر عودته في مانشيتات ومقالات بارزة، منبهة الاعداء الى ذلك الشخص الذي يرمز الى كل شيء يكرهونه اشد الكره في ما يتعلق بحاضر اسبانيا. على اثر ذلك اتخذ لوركا جانب الحيطة والحذر فانتقل مرة اخرى من بيت والديه الى بيت صديق في غرناطة علّه يكون في مأمن بين عائلة معروفة بصلاتها مع الاجنحة اليمينية. لكنه على رغم احترازه هذا اقتيد من ذلك البيت واعتقل اثناء الليل في قرية تبعد ستة أميال عن المدينة ثم اطلق عليه الرصاص صباح اليوم التالي. قال رايز الونسو، الفاشستي الذي اقتاده الى موقع الاعدام: "لقد أحدث بقلمه دماراً يفوق الدمار الذي احدثه غيره بواسطة السلاح"، كان معه ثلاثة رجال تم اعدامهم ايضاً وجميعهم معروف مثله بالولاء للجمهورية. لم يتم التعرف الى قبر لوركا على رغم الاعتقاد السائد بأنه دفن على مقربة من الموقع الذي قتل فيه. ظل والده العجوز يتمنى ان تكون تقارير موت ابنه غير صحيحة، لكن اصدقاء لوركا ورفاقه علموا في الحال حقيقة ما حدث. عندما وصل خبر مصرع لوركا الى الممثلة مارغريت كسينغرو وهي تؤدي دورها في مسرحيته "يرما" في احد مسارح هافانا، لم تستطع ان تتمالك نفسها وأخذت تهذي "لقد قتلتُ ولدي" ثم وفي بكاء مرّ "لقد قتلوا ولدي". اما بابلو نيرودا، فكتب بعد عام "لو ان احداً اراد ان يجد له رمزاً ولم يستطع ان يجده في اي شخص او اي شيء، لوجده في هذا الرجل الذي اختير لأن يكون روح اسبانيا وحيويتها وعمقها وعزّز هذا الرأي بشكل رسمي العام 1986 عندما اعلنت الحكومة الاسبانية الاشتراكية اقامة نُصب تذكاري في الموقع الذي تمت فيه عمليات الاعدام: "في ذكرى فيدريكو غارثيا لوركا وكل ضحايا الحرب الأهلية". ارتبط لوركا مع الناس البسطاء، وقدم اشكالاً من الكتابة الحديثة فيها شخصيات مأسوية - مثل العانسات في مسرحية "بيت برناردا البا" - ممن حطمت نفوسهم وأحلامهم قسوة السلطة الكهنوتية الاسبانية القديمة. ان الصفحات الاخيرة من كتاب لسلي ستينتون تبدو "محزنة وقاتمة حقاً" الى حد يكرس الفكرة العامة حول لوركا باعتباره شهيداً سياسياً. ولد لوركا في فيجا، احد سهول غرناطة في حزيران يونيو 1898 وهو الشهر الذي حلّت فيه أسوأ النكبات باسبانيا: فقدت مستعمراتها في كوبا وبورتوريكو والفيليبين. لكن هذا الشهر من ناحية اخرى جاء بالفائدة والنفع على والد لوركا، المزارع حين ازداد الطلب على سُكر البنجر الذي يتاجر فيه وأمدّ لوركا بالمال. كان لوركا معروفاً بكسله اثناء مراحل دراسته الأولى لكنه كان عازفاً ماهراً على آلة البيانو التي يقول عنها "انها امرأة نائمة على الدوام ولايقاظها يجب على المرء ان يملأها بالالحان والاحزان". طيلة حياته القصيرة هذه، كان لوركا مسكوناً بهاجس الموت ورعبه، لا تغيب صورته عن مداركه ووعيه، وكأن للموت لديه وظيفة مزدوجة، مصدرة للرعب والالهام معاً الى حد ان لوركا كثيراً ما كان يجد نفسه مرغماً على تمثيل مشاهد الموت مرة بعد اخرى. في احدى صور الكتاب التي تعود الى 1918 يظهر لوركا في زيّ عربي وهو يمثل دور جثّة في فيلم قصير له ولبعض اصدقائه. اما الحزن فكان عنصراً اساسياً من تشكيلة لوركا الروحية. فموت شقيقه الاصغر قبل اكمال عامه الثاني والانفلونزا القاتلة التي اجتاحت البلاد عام 1968 اصبح الموت بالنسبة اليه موضوعاً مكرراً. وعندما توهم باصابته بسرطان المعدة عام 1930 قال بدهشة "تصوروا، حين يكون الموت بالسرطان! يا له من مرض جميل. انه يحمل اسماً فلكياً" وكان تأثر جداً بپ"الاغاني الحزينة" التي تتحدث عن أصل الغجر، وليس في ذلك ما يدعو الى الدهشة اذا علمنا انها مثل شعره، تأمل حزين في الموت والخيانة. في احدى المرات وصف هذه الاغاني بپ"الروح الخفية لألم القلب الموجع" اما مجموعة اشعاره الغجرية فيعدها النقاد ارق ما كتب من شعر. في 1918 هاجم لوركا بعنف المجتمع البورجوازي، متهماً اياه بقتل المسيح "الذي ملأ العالم بالشعر" وأشار الى الاسبان في هذا الصدد لأنهم "خانوا المسيح مثلما خانوا دون كيشوت فاعتقلوا سرفانتس" كان في روسيا الثورة، ايامذاك، الشاعر ماياكوفسكي الذي وصف المسيح بأنه انسان اشتراكي، فتحسس آلامه وألبسه بدلة عامل في مصنع. وفي الطرف الآخر من أوروبا كان هناك لوركا الذي تغنى ايضاً براديكالية المسيح لكنه اصرّ على ان يجعله ينزف دماً. من هنا نجد ان لوركا كان دائماً يرى في الشاعر فماً ناحباً - صوتاً جريحاً. كان يقول، حتى الماء الذي يتدفق من ينابيع حرائق غرناطة العامة "يعاني ويبكي، مزدحماً بالكمانات الصغيرة البيضاء". كان لوركا، مثل رفيقه دالي، يرى انه أُرسل الى الأرض منقذاً لاسبانيا الممزقة. كانا يعتقدان بأنهما كقديسين مزقت جسديهما انصال النقد والرصاص ومثالهما في ذلك القديس سيباستيان الذي ظل صامداً، رابط الجأش والسهام تخترق جسده. كان رد فعل دالي، حبيب لوركا احياناً، بعد نبأ مقتل صاحبه صاح "أوليه" وفسّر ذلك بقوله انها الصرخة التي يحيي بها الجمهور المصارع المنتصر "التوريرو" في حلبة مصارعة الثيران بعد عرض منهك وخطر. لكن نيرودا ندب لوركا بشكل اكثر لباقة عندما شبهه مرة اخرى بالمسيح، مشيراً الى ان الكتائب فتشوا في كل مكان عن شخص مناسب لأن يكون ضحية: "في هذا الرجل الذي اختير ليكون ضحية ذبحوا روح اسبانيا". اعتمدت لسلي ستينتون في كتابها هذا على كثير من المواد الارشيفية وقامت بتوثيق جوانب مهمة من حياة لوركا الشخصية.. حماساته واندفاعاته بتفصيل دقيق مدعم بالنقد الادبي لكل هذه التفاصيل وأولت اهمية كبيرة للحقائق المتعلقة بحياته وأعماله ايضاً. الى جانب كل هذا يمكن اعتبار هذا الكتاب ذاكرة للحالة المرعبة التي يصبح فيها الشاعر او الفنان رمزاً لقضايا وأهداف كبرى تستدعي ان يدفع حياته ثمناً من اجلها لأنه لا يستطيع ان يصمت ويأبى ان يقول الا الحقيقة.