كانت قرطبة داراً للامارة في عصر الولادة، وارتقت في ولاية السمح بن مالك الخولاني 100 - 102ه/ 719-721م الى مصاف الحواضر الكبرى. ولما اتخذها عبدالرحمن الداخل حاضرة له ولأبنائه، صارت قرطبة "قبة الاسلام، وأم القرى، ووطن أولي العلم" ومركزاً للحضارة. وبلغت أوج مجدها السياسي والثقافي في القرن العاشر، في زمن الخليفة عبدالرحمن الثالث وابنه الحكم الثاني المستنصر. فكانت منارة الدنيا، وأكثر مدن أوروبا سكاناً - بلغ عددهم نصف مليون نسمة - واكتسبت شهرة عالمية. وادهشت مدينة الزهراء البعثات الديبلوماسية الاسبانية والغربية التي كانت تحمل الرسائل والهدايا الى أمير المؤمنين. أوكل الناصر لدين الله بناء هذه المدينة، في عام 325ه، 936م لابنه الحكم. وقام بتشييدها على جبل العروس، على بعد خمسة كيلومترات من العاصمة، العريف - أي المهندس - الأندلسي مسلمة بن عبدالله، بمساعدة مهندسين من الشرق، أحدهم من الاسكندرية، واسمه علي بن جعفر. وقد جر مسلمة المياه الى القصور والمدينة والحدائق من أعلى جبال قرطبة، بواسطة أنابيب من الرصاص والآجر. ومثل المسجد الجامع، كانت مدينة الزهراء آية في الجمال والروعة، وعجيبة من عجائب فن العمارة. وتميزت بغابة من أعمدة - يذكر ابن عذارى انه كان فيها 4313 عموداً - وبتحف قصرها وثراء زخارفه. إذ كان في أحد ابهائه لؤلؤة عجيبة، وتماثيل لحيوانات معدنية ومذهبة. وكانت ابوابه من خشب وعاج وحديد مصقول، وبرونز أملس. اختلفت آراء الباحثين في اسباب بناء هذه المدينة. فمنهم من قال ان الامويين لم يكونوا يطيقون البقاء طويلاً في قصورهم، ويتخذون لأنفسهم المينات أو الفيلات خارج المدينة. فيذكر ان عبدالرحمن الداخل بنى في القرن التاسع قصر الرصافة، وجعله مكاناً لنزهته واقامته" وبنى الحكم الأول "مينة عجب" التي حملت اسم احدى زوجاته" وكان للناصر قصر على بعد كيلومترين شرق قرطبة يقع على ضفة نهر الوادي الكبير وسط مزارع وبساتين، وسمّاه "مينة الناعورة"، وما زال المكان يحمل اسمه العربي مترجماً الى الاسبانية: "لاتوريا". وذكر باحثون آخرون ان قرطبة ضاقت بأهلها في القرن العاشر، واتسعت ارباضاً، وان الاستقبالات الرسمية لضيوف الخليفة في مواكبهم وسط المدينة، كانت تؤدي الى الزحمة، فيضطر الأهالي الى اقفال متاجرهم، وتتعطل الأعمال في تلك المناسبات، فارتأى الناصر ان يشيد مدينة الزهراء، وينتقل اليها ليستقبل في ابهائها ضيوفه. ولكن يبدو من بين الآراء الكثيرة، ان رأي الباحث الدكتور ميغيل كروز آرنانديز هو الأقرب الى المنطق. يقول الباحث ان المدن الامبراطورية السابقة للزهراء كانت تعبيراً عن نفوذ وسلطة، ويُضاف الى هذا المعنى المفهوم الجليل للوحدة، والحماية العسكرية الأفضل، والمراقبة للبلاط. ويعتقد آرنانديز ان كل هذه الأمور كان هدف عبدالرحمن الثالث، الأموي الأندلسي الأول الذي تلقب بالخليفة. وظلت المدينة التي استغرق بناؤها خمسة عشر عاماً، مركزاً للنفوذ السياسي، والمجد الأموي طوال أربعين سنة 325-366ه في زمن الناصر وابنه الحكم. وكانت مدينة الزهراء التي تقع بين ذراعي نهر سان خيرونيمو، بوتقة رائعة انصهر فيها تأثير ثقافة الشرق والغرب. وبنيت المدينة على ثلاثة مستويات، بطول كيلومتر ونصف، من الشرق الى الغرب، وعلى نصف هذه المسافة امتداداً من الشمال الى الجنوب. وقد أحاط بهذا المستطيل المتناسق سور مزدوج من الحجارة الكبيرة، كثير الأبواب، أكبرها باب "العقبة" الذي ينفتح على الطريق المؤدية الى قرطبة. ويُقال انه زين بزهرة كبيرة. أما "باب السدة" الذي كان يُعبر من خلاله الى قصر الخلافة، فكان ينفتح على ممر طويل مسقوف بالقرميد، في نهايته سلم يصعد من سفح الجبل ليصل الى المقر الخليفي. وفي أعلى الجبل بني قصر الناصر، وفي وسط المنحدر زرعت حدائق، ربما لتفصل المقر الخليفي عن مساكن الجند - وابهاء الاستقبالات العامة والمسجد. وفي الأسفل كانت الأبنية والأسواق، والحي الارستقراطي الذي تسكنه اربعمئة عائلة من أهل البلاط، ومن موظفين مدنيين وعسكريين كانوا يرافقون الخليفة في انتقاله الى العاصمة. وأكثر المهندسون من الأعمدة الرخامية في بناء مدينة الزهراء. واستوردوا الرخام من روما واليونان، وجلبوه أبيض من المرية، ووردياً وأخضر من قرطاجة وتونس، واستوردوا للقصر الفسيفساء المزجج من بيزنطية. ولعل وصف الباحث الفرنسي جيرول دوبيرنجه للقصر والحدائق هو من أفضل ما كُتب في تصوير جمال الفن القرطبي في القرن العاشر: القصر مزدان بأربعة آلاف وثلاثمئة عمود من الرخام، وردهاته مبلطة بالرخام المنقوش على ألف شكل، وحواجزها مغطاة بالمرمر، ومزخرفة بالأفاريز ذي الألوان الباهرة، وسقوفها ذات نقوش لازوردية متشابكة، وجسورها وترابيعها الارزية متقنة. كانت في بعض الردهات عيون تصب مياهها في صهاريج رخامية انيقة ومتنوعة الأشكال. وأجمل تلك العيون هي التي كانت في ردهة الخليفة، صُنعت من اليصب، وزينت بإوزة عجيبة أهداها قيصر الروم الى عبدالرحمن الثالث. أما سقف الردهة فكان مثل الجدران مذهباً ومؤلفاً من قطع رخامية وملونة. وفي كل جانب من المكان كانت "الأبواب معقودة على حنايا من العاج والأبنوس، ومزينة بالذهب والحجارة الثمينة وقائمة على أعمدة من الرخام". ولم تكن الحدائق في المقر الخليفي، أقل روعة من القصر. كانت أشجارها مثمرة وتملأها رياحين، وظهرت في مكان مشرف في وسطها قبة الناصر المرفوعة على أعمدة رخامية بيض عليها تيجان مذهبة. وفي وسط القبة حوض رخامي مملوء بالزئبق المتحرك في شكل عجيب. ونُصب هناك اثنا عشر تمثالاً لحيوانات من الذهب والحجارة مصنوعة في المعمل الملكي في قرطبة، وتتدفق المياه من أفواهها باستمرار. وفي هذه الحدائق بني، عام 941م، مسجد صغير متجه من الجنوب الشرقي الى الشمال الغربي، انسجاماً مع الموقع الصحيح للقبلة. ولم تكن مساحته تتجاوز 44م طولاً و25 عرضاً. وبلغ ارتفاع مئذنته 19 متراً، ورُصف صحنه بالرخام الأحمر، وتوسطته نافورة. وفي هذا المكان الذي تميز بجمال فني فريد، ولم يغب عنه ذكر الله، كان الناصر يستقبل، منذ عام 333ه، السفراء والبعثات الديبلوماسية، وهو يجلس على عرشه تحت العقد الأوسط بين ثلاثة عقود في قاعة كبرى، وعن يمينه ويساره الأمراء والوزراء. أما كبار رجال الدولة، فكانوا يجلسون على مقاعد في الجانبين، تصل على صفوفها الى الباب، وخلف العقود الجانبية التي تشبه عقود المسجد الجامع، كان يقف رجال الحرس، وتمتد صفوفهم الى خارج القاعة وصولاً الى الأسفل، من حيث يمر الضيوف بين فرسان ومشاة، ثيابهم بيض، وعلى رؤوسهم العمامة، وفي أيديهم السيوف. وكان "البروتوكول" البيزنطي الذي اتبعه الأمويون ممزوجاً بالتقليد الشرقي. فكان الضيوف يحيّون الخليفة، وهم في الباب، ثم يتقدمون ويحيّونه مرة ثانية، ثم يتقدمون ويحيّونه ثالثة عندما يصبحون أمامه، فيشير اليهم بالجلوس حيث يشاء. ظلت قبة العرش شاهدة على المجد الأموي حتى عام 366ه، التاريخ الذي توفي فيه الحكم الثاني المستنصر، بفالج أصابه. فحجر إذذاك الوزير محمد بن أبي عامر على ابنه هشام، البالغ من العمر عشر سنوات، وسجنه في قصر الزهراء واستولى على السلطة. وأنشأ الديكتاتور العامري في شرق قرطبة، مدينة الزاهرة 368ه التي كانت تقع على الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير. وجعلها مركزاً لاقامته، وللادارة التابعة له. فضمت خزائن المال ودواوين الحكم والسلاح. فقدت مدينة الزهراء مركزها السياسي، الفكري والاجتماعي المميز، وأضحت سجناً للخليفة الصغير. ثم توالت عليها النكبات. فدمرها في عصر الفتنة بربر الخليفة سليمان عام 399ه/ 1010م. وتعرضت للحرائق والسلب، وحاول ترميمها المستكفي بالله أبو عبدالرحمن محمد. لكن الزهراء اقتصرت على كونها مقلعاً للحجارة، منذ القرن الحادي عشر وحتى مطلع القرن العشرين، عندما بدأت أعمال الحفريات الاسبانية. وعلى مدى قرن، تقريباً، اكتشفت تدريجاً أجزاء مهمة من مدينة المجد الأموي وأتاحت للدارسين أن يضعوا تخطيطاً للمدينة ونظالمها، وكانت الخرائب باقية فسمحت بترميم بعض الأماكن، وأظهرت بعض الصالات الزخرف الرائع الذي كانت عليه. ففي عام 1910 اعتقد المنقب امبروزيو دي موراليس ان الزهراء هي قرطبة الرومانية. ثم اكتشف بالسكيز بوسكو، عام 1912، مواقع القصر الخليفي والمقام الخاص، والفناءين المتصلين بالمنحدر، ويضم كل منهما بهواً. وتشير الدراسات الى أنهما كانا خاصين بمساكن البطانة والجند. وتابع بوسكو الحفريات فاكتشف عام 1914 فناء صغيراً شرق القصر الخليفي. وأبعد منه قليلاً، بنحو ستة عشر متراً نحو الأسفل، ظهر بهو ضخم مبلط بالرخام، مساحته 460 متراً، ويحيط به رواق ضخم الأعمدة، وله بابان متعاقبان، وبدت خمس درجات سلم من أحد بابيه. ويُعتقد أن هذا الفناء وأبنيته كان مقراً للدواوين العامة. لكن أهم الاكتشافات، في النصف الأول من القرن العشرين، كان بهواً عظيماً ذا فناءات ثلاثة، وأربعة أبهاء متلاصقة، وقواعد رخامية مزخرفة رؤوس العقود. ووجدت منها بين الأنقاض مئات القطع، اضافة الى بعض الأواني الخزفية. وكلها تظهر ما بلغته عظمة الفن في أيام الناصر. وأكد الدارسون ان هذا البهو الذي يمتاز بتناسقه الجميل، وعقوده القوية وزخارفه الجميلة، كان من تحف مدينة الزهراء. وقد اطلقوا عليه اسم "بهو عبدالرحمن الناصر"، لأن نقشاً كوفياً جميلاً وجد على رؤوس اعمدته، ويختصر اشادة بالناصر، وتاريخه يعود الى عام 342ه/953م. وحمل تاجان صغيران من الطراز الكورنثي اسم "الناصر امير المؤمنين". ويُستنتج من مجموعة التيجان المتشابهة التي وجدت في المكان انه كان هناك مصنع قائم على التقاليد المحلية. وأتاحت حفريات العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، التعرف الى مواقع جديدة في مدينة الزهراء. فاكتشفت غرفة الخليفة الخاصة، والمسجد، و"السطيحة" الرئيسة والسطيحة الكبرى الوسطى وحدائقها ، وأقنيتها وبركها، وطابق البهو المسمى "دار الرخام"، حيث يستقبل الضيوف المرموقون قبل أن يدخلوا للقاء الخليفة، ويشاركوا في شعائر البلاط، ويستمعوا الى أمسيات شعرية، ويتلقوا هدايا من بينها أحصنة ومجوهرات وأسلحة، وثياب الشرف المصنوعة في المصانع الملكية الخاصة. وكان من بين هؤلاء الضيوف المرموقين جنرالات وملوك، وفلاسفة وشعراء ورجال علم مثل ابن حزم وابن شهيد، والطبيب المشهور أبو القاسم المسمى "أبا الجراحة" والملقب بالزهراوي لأنه ولد في قصر الزهراء. وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، انتهى ترميم بعض اجنحة قصر الزهراء، وبعض أقسام المدينة. وافتتح الملك دون خوان كارلوس، في حضور الرئيس السوري بشار الأسد، معرض الأمويين القرطبيين في مدينة مجدهم. وكان ذلك في الثالث من أيار مايو الماضي، والمعرض مستمر حتى نهاية أيلول سبتمبر. وعُرضت في دار الوزارة المواد المعمارية الأكثر تمثيلاً للحقبة الخليفية. وعُرضت في صالون عبدالرحمن الثالث الفنون الترفيهية، ومصنوعات من الذهب والفضة والبرونز، الخشب والعاج، السيراميك والرخام، والأقمشة. ومن المعروضات في هذا الجناح الوعل البرونزي وبحث في الجراحة لأبي القاسم الزهراوي. * باحثة لبنانية في الحضارة الاسبانية.