عرفنا أن الخان في الأقطار العربية والإسلامية وجد في المدن وعلى طرق القوافل. والثابت أن ذلك راجع الى العامل الوظيفي في الخان، بما هو منشأة تجارية حرفية" الأمر الذي يفسر وجوده في المدن قريباً من المرافئ والأسواق، وعلى مسافات، احتسبت بالأيام، على طرق القوافل، تمكيناً للتجار من الاستراحة ليلاً، بعد مسير النهار" فالخان "كان عبارة عن نزل للاستراحة على طرق القوافل المختلفة بين المدن أو عند مداخل أسوارها، وكانت المسافات في ما بين خانات الطرق مسيرة يوم أو ما يقرب من ثلاثين كيلومتراً" عاصم محمد مرزوق، ص 91. وفيما وجدت الفنادق في المدن أحياناً الى جانب الخانات، استرعى انتباه الرحالة الأوروبيين، في القرون الماضية، عدم وجود أمثال هذه الفنادق على الطرق، فكان الواحد منهم يجد مكاناً للمبيت في "خانات خارج الأسواق، بعيداً عن المنازل" انطوان عبدالنور: "تجارة صيدا مع الغرب..."، ص 117، خصوصاً "على مفترقات الطرق في الصحراء وعلى مشارف المدن" مي مكارم، "الحياة": 24/5/1991، ولم يكن غريباً ان يكون موقع الخان مقفراً كالخان الذي يصفه جون كارن ص 238، فهو يقع في طريق "مقفرة متفاوتة" بين عكا وصور، حيث "يتقدم المسافر ثلاث ساعات في سهل عكا البديع فيمر - وقد أدركه المساء - على خان منفرد في الشاطئ"، إلاَّ ان جون كارن لا يعدم وجو خانات في أماكن غير موحشة، قد تكون أحياناً "رومنطيقية" كالخان الذي ينشر صورته في الصفحة 115 من كتابه، بعد وصف لموقعه" إذ "يقع هذا المشهد الرومنطيقي في الطريق بين بيروت وبيت الدين على بعد ساعة من قصر الأمير بشير" ص 113، ويبدو - استناداً الى هذا الوصف - ان الخانات الواقعة قريباً من الأنهار كانت - على العموم - غير موحشة، ومن ذلك أيضاً "البناء على الهضبة"، الى يمين ضفة نهر الليطاني "فهو خان كبير، يغص عادة بالوافدين، لأن حركة الانتقال على هذه الطريق بين اقليم الدروز ودمشق حركة ناشطة على استمرار" ص 262، ومنه خان ثالث على ضفة نهر ابراهيم "بين مياه النهر والصخر"، حيث "تنبت فيه الأشجار والأعشاب" وفي موضع ما ينشأ خان على نقطة في الصخر فوق حافة الماء" ص 20. إلا أنَّ وجود الخان بالقرب من النهر ربما كان وبالاً عليه" ففي العام 1791، "حدث مطر عظيم في أراضي دمشق في آخر شهر أيلول سبتمبر. فطاف نهر بردى، وهدم جانباً عظيماً من المدينة، وهدم خان الدالاتية" حنانيا المنير: الدر الموصوف، ص 99، وربما كان بعده عن النهر وبالاً عليه أيضاً. ففي حين كان وجود الحظائر والخانات في القرن السادس الهجري في بغداد، قريباً من النهر، وجوداً ضرورياً "من حيث اطفاء الحريق ان شبت النار فيها" د. مصطفى جواد، ج1، ص70، نجد ان خاناً في بغداد نفسها بعيداً عن النهر كان طعمة للنار في العام 1912. ففي يوم الجمعة، في الثاني عشر من شهر تموز يوليو، شبت النار "في حجرة الملا حسين صاحب خان الدجاج الواقع في سوق العطارين، وكان سببها بقايا لفيفة تبغ ألقيت هناك، فسرت نارها الى ما يقرب منها من الكاغد، فاحترق الخان وما فيه" لغة العرب، السنة الثانية، العدد 1، تموز 1912، ص 78. كذلك ربما كانت مواقع الخانات على الطرق، بعيداً عن مراكز قوة السلطات، مسرحاً للمعارك، وكانت الخانات نفسها مسرحاً للاغتيالات، وان ذكرت المصادر ان الطرق بين الخانات كانت مخفورة أحياناً، ومن ذلك حديث الخوري اسطفان ضو حديقة الجنان في تاريخ لبنان: 2/132 عن أن الأمير بشيراً الشهابي أبطل الخفارة والخفراء في العام 1812 "من كل طرقات البلاد وكانت قائمة بحسب العادة القديمة على خان الحصين وخان المديرج في طريق الشام، وعلى خان الناعمة"، ولكن كانت القوى توجه الى الخانات عند اشتداد الاضطرابات، كما فعلت الدولة العلية العثمانية في مواجهة حوادث الجبل في القرن التاسع عشر، إذ فوضت الى شكيب أفندي "مسألة ضبط الحوادث وتحقيقها..."، و"اصحبته بقوة عسكرية جسيمة فوضعت الفصائل في عبيه والحازمية والكحالة وخان الحصين" حسين غضبان أبو شقرا: "الحركات"، ص 62 - 63. والوقائع الحربية في الخانات أو في محيطها مذكورة بكثرة في المراجع" ومنها ان عسكر الدولة العثمانية سار يوم الاثنين في 9/9/1800، مع الأمير عباس ومشايخ آل عماد، ومعهم عسكر وادي التيم، يطلبون حمانا، وانهم انتهوا الى خان مراد وعسكروا فيه الدر الموصوف، ص 134. ومنها أيضاً أن حرباً وقعت في الخان نفسه، سنة 1801، بين الأمير بشير الشهابي وخصومه حلفاء أحمد باشا الجزار الخوري اسطفان ضو: "حديقة الجنان...": 2/88، وأمثال ذلك كثير. التخطيط الهندسي للخان ان تمركز القوى العسكرية المتحاربة في الخانات إنما يُفسر بأنَّ بعض هذه الخانات كان أشبه بالقلاع الحصينة المقفلة، بخلاف القيساريات المفتوحة على الأسواق كما تقدم. غير أنَّ التخطيط الهندسي للخان كان يخضع للمقتضيات التجارية والحرفية والأمنية، من حيث وجود المخزن وأحياناً المحترف والمسكن في مكان واحد، مع ضمان أمن التاجر وأمن بضاعته. وأما مواد بناء الخان فكانت غالباً تستدرك من مصادرها القريبة" ولذلك كانت الحجارة رملية، في الغالب، في المدن الساحلية، صخرية في المناطق الجبلية، وربما استعمل في بناء الخان اللبن والآجر والحجارة" عاصم مرزوق، ص 91. ويستفاد من اجراءات ترميم خان الخياطين في طرابلس أنَّ من الخانات الضخمة ما كان يلقى عناية خاصة. فمن حديث أدلى به البروفسور الألماني المصري الأصل محمد الشرابي الى اعتدال سلامة الحياة: 10/7/1993، ان مواد البناء التي استخدمت في ترميم خان الخياطين "كانت متوافرة في الطبيعة وفي ردم وحطام البناء نفسه. والخشب المستعمل للأسقف كان خشب القطران القديم المعروف بتحمله لعوامل الطبيعة اضافة الى جودته لأنه من الأنواع التي تعمر قروناً طويلة. أما الشبابيك فكانت من الخشب العادي". وهو، وان "لم ينجح في خلط المونة بشعر الماعز"، يخبرنا ان هذه "طريقة قديمة جداً اعتمدها القدماء في البناء"، وقريب من هذا ما قاله لنا الدكتور صالح لمعي مصطفى، الذي أشرف على ترميم خان الافرنج في صيدا، في حديث تلفزيوني، من ان المونة التي استعملت في الترميم كانت تحتوي على الكلس الطبيعي، وعلى تراب مخصوص وعلى رماد، تماماً كما فعل البنّاء القديم. ومن حديث الدكتور لمعي مصطفى نعرف أنَّ البناء راعى بدقة عالية قدرة الأرض المختارة للبناء على تحمل الأثقال، كما راعى توزيع الأثقال في ما بناه من ركائز الأقواس والعقود والجدران. ويتشابه الى حدٍ بعيد التخطيط الهندسي للخانات" فهو عموماً "يتكون من فناء أوسط تحيط به من الجهات الأربع أبنية ذات طابقين، خصص الأرضي منها لإيواء الدواب الناقلة للمسافرين وتجاراتهم، بينما خصص العلوي، الذي كان يشتمل على رواق يدور حول الصحن به مجموعة من الطباق السكنية الصغيرة، لإيواء التجار والمسافرين" مرزوق، ص92 - 93. ونحن نجد هذا التخطيط النموذجي في خان الافرنج في صيدا، وقد أسهبت المراجع في وصفه، ووقف له عبدالرحمن حجازي صفحات في كتابه عن "معالم صيدا الإسلامية" ص 102 - 107. ويختصر انطوان عبدالنور وصف خان الافرنج بأنه "بناء مستطيل الشكل، مغلق على الخارج ومفتوح حول فناء داخلي، وهو مؤلف من طابقين الأول كناية عن دكاكين وزرائب ومستودعات للبضائع، والثاني منازل معدة لسكن التجارة" تجارة صيدا مع الغرب، ص 146. ومثل ذلك خانات طرابلس، ويستفاد من وصفها ان الفناء الداخلي في الخان العربي الإسلامي كان يتوسطه غالباً حوض ماء خاص بالدواب انظر: سميح الزين: "تاريخ طرابلس"، ص 437، على سبيل المثال، وربما كانت في الخان بئر ماء كالتي لا تزال في خان الافرنج في صيدا، وهي من مكونات الخانات التي ازدهرت عمارتها "في عصر المماليك تبعاً لازدهار طرق التجارة العالمية بين الشرق والغرب، وكان أبرزها ما أنشئ منها بين حلب والقاهرة، وكانت عمارته عبارة عن مسقط مستطيل بغير نوافذ خارجية، يتوسطه فناء داخلي به بئر للمياه، يحيط به - من جهاته الأربع - رواق تفتح عليه غرف معقودة بقبوات نصف دائرية أو بأقبية متقاطعة، وبه مصلَّى وحمام واسطبل وحوض لشرب الدواب وفرن، وله مدخل تذكاري بارز" مرزوق، ص 92، وهو وصف يطلعنا على وجود وحدات معمارية اضافية كالمصلى والحمام لم تكن موجودة في الخانات كلها. ولكننا نعرف ان الخانات في أسواق كانت موصولة بحمامات مكارم: الحياة: 24/5/1991، وأن خان الظاهر في القدسالمحتلة كان فيه "مسجد مصعب بن عمير" صحيفة القدس الصادرة يوم 19/1/1994 في فلسطين، وعنها نقلت "فلسطين الثورة": 26/5/1994. وقد تقدمت اشارتنا الى أنَّ الخان خلا - عموماً - من التحلية الزخرفية، إلا في النادر، ومن ذلك أبيات شعرية وجدت في الخان الذي بناه في بيروت سيف الدين تنكز توفي سنة 741ه - 1341م، وقد أمر بأن تعلق على بابه أبيات شعر تتغنى به وبالسلطان" عصام شبارو: "تاريخ بيروت"، ص 103، والمعروف ان الكتابات الشعرية كانت عنصراً زخرفياً الى جانب كونها عنصرَ تأريخ. ومن ذلك أيضاً ان خان الشاويش في طرابلس له باب "بقنطرة مقرنصة عليها كتابة قديمة محاها الزمن" سميح الزين، ص442. مستويات الخانات تقدم الحديث عن تفاوت بين مستوى الخان في المدينة ومستوى الخان على طرق القوافل من حيث العمارة والتخطيط الهندسي والحجم. وأما التفاوت من حيث الفخامة والوضاعة، ومن حيث الخدمات، فترجح فيه كفة خانات المدن. وان أبلغ تعبير عن خشونة الخانات البعيدة عن هذه المدن مثل شعبي لا زلنا نسمعه، هو قولهم: "هي ليلة يا مكاري"" ومعناه ان عليك احتمال الاقامة في الخان ليلة ولو كانت صعبة. وقريب من بلاغة هذا المثل اشارات المبشر الانكليزي جون كارن، في كتابه "رحلة في لبنان في الثلث الأول من القرن التاسع عشر"، الى ما كان يلقاه من مشقة في خانات لبنان، بغض النظر عن سخريته من اللبنانيين جميعاً ومن كل شيء في لبنان. فها هو يفاضل بين المغاور والخانات، فترجح لديه كفة الأولى" يقول: "وقد وجدت في الآكام، داخل آسيا الصغرى، ان الصخور كثيراً ما نحتت فيها أنواع من حجرات قديمة أشبه بالأضرحة، ولكنها اليوم مأهولة، يسكن فيها الفلاحون والرعاة، وتوفر على المسافر ملجأً أعظم دفئاً من أيما خان خرب" ص 33، ثم يفاضل بين الخانات والمنازل، فيصف نزوله ببيت شيخ من إهدن، حيث "النظافة في داخل هذا المنزل وانطلاق الهواء فيه ليطيبان جداً للمسافر بعد الخانات القذرة" ص 47. ويشير كارن الى رخص الاقامة في المنازل والأديرة، "وأرخص منها الخانات التي قد يضطر السائح الى اللبث فيها أياماً لرداءة الطقس أو لمواقعها الشاذة" ص 178" والمواقع الشاذة منها موقع خان السعديات الذي "يقوم منعزلاً على بقعة رملية تجتازها الطريق الى المدينة. ويستحيل الفوز في هذا الخان بفنجان القهوة المرغوب فيه. فالعربي البائس المعدم لا يقف بباب هذا الخان يدفع بالفنجان الى شفتي المسافر أو الحاج، كما يفعل على باب الفندق الموحش بين صيدا وصور" ص 202" ومن اختباراته اقامتة ليلة في أحد الخانات "وكان من نتيجة اختباري هذه الليلة أن عزمت - حيثما ذهبت في المستقبل - على أن ألتمس بيوت الأهلين، فقراء كانوا أو أغنياء، مؤثراً جدران هذه البيوت على جدران الخانات، وحتى الأديرة في بعض الأحيان" ص 203. وربما كانت الشكوى بسبب عدم تأثيث الخان، وفي ذلك مشقة على المسافر الذي يلجأ الى خان يكتفي حارسه بأن يؤجره "غرفة فيه بلا أثاث ولا طعام، فيرغم المسافر على حمل طعامه وشرابه في أثناء سفره" انطوان عبدالنور، ص 117. ويقدم هنري غيز قنصل فرنسا في لبنان وصفاً للخان ومستوى الخدمة فيه، فيقول: "وفي بيروت عدة خانات ينزل فيها الدلالون والسياح والمواطنون. انهم يحلون في غرف صغيرة، وهذا كل ما يرغبون فيه، إذ ان من المصيبة أن يجدوا غرفاً مؤثثة! "ولما كان كل شخص يصطحب معه الأمتعة التي يحتاج اليها، فإنه يتمركز حالاً من دون أن يلجأ الى بائع المفروشات والسجادات. "يبسط المسافر سجادته على الأرض، ثم يرتب أمتعته، ويبدل ثيابه بسرعة وجرأة لأنه تعود ذلك، ثم ينزع من أجربته الحوائج التي تزود بها، فإذا به قد استقرَّ على أحسن ما يرام. "ان السجادة والعباءة والأجربة هي أشد ما يحتاج اليه المسافر. فالأولى تقوم مقام السرير، والثانية يجعلها لحافاً، والثالثة تُحشى بثياب التبديل، فتقوم مقام المخدة. أما الخرج فينوب عن الصندوق أو الحقيبة، فتجعل فيه أدوات المطبخ والمؤن البسيطة. وهذه الأمتعة، التي يصطحبها المسافر، توفر الكثير من النفقة، فلا يدفع المسافر إلا بدل الزرابة" "بيروتولبنان منذ قرن ونصف القرن": 1/32 - 33. ولكننا نعثر على اشارات سريعة الى خانات وصفت بالفخامة، ومن ذلك ما نقله صلاح الدين المنجد عن المحبي، في هامش كتاب "ولاة دمشق" ص 39، من انه "اتفق ان استشهد نائب الشام الوزير مصطفى باشا القيللي فوجه صالح باشا الموستاري مكانه، وأرسل متسلماً من قبله وأقام هو في السفر السلطاني. وأمر بعمارة خان حسية... ثم أمر بعمارة خان النبك فعمروه عمارة لطيفة، وقلدوا في بنيانه بنيان عمارة القطيفة من السوق والجامع والحمام والعمارة"، والوزير صالح هذا تولى سنة 1075ه. كذلك يشير فيليب حتي الى مستوى خان الافرنج الرفيع، وان نسب عمارته خطأً الى فخر الدين المعني الثاني" يقول: "وفي سنة 1616 أصبحت صيدا، لأول مرة، مركزاً لقنصلية فرنسية... وقد وضع فخر الدين الخان الفخم الذي كان قد بناه تحت تصرف القنصلية والتجار الفرنسيين والمرسلين" لبنان في التاريخ، ص 483. * باحث لبناني في شؤون التراث الشعبي.