يتردد ذكر القيسارية، أو القيصرية في المراجع التي تتحدث عن المدن العربية الاسلامية، تفرد لها مراجع أخرى متخصصة بتاريخ العمارة العربية الاسلامية صفحات، يبدو معها ان هذه المنشأة المعمارية - التجارية نسخة من قيساريات الغرب تتكرر في مشرق الوطن العربي ومغربه، على نحو يبترها عن مجرى تطور العمارة العربية الاسلامية وتطور نظم التجارة عند العرب المسلمين. ان ما يوحي نظرية "النسخ" هو الأصل اللغوي لاسم القيسارية أو القيصرية، إذ هو نسبة الى القيصر، وبذلك يصبح معنى القيصرية "سوق القيصر" و"السوق الامبراطورية" باعتبار ان الامبراطور هو القيصر أنظر مثلاً: د. صالح لمعي مصطفى: "التراث المعماري الاسلامي في مصر"، ص 61، ود. عاصم محمد مرزوق: معجم مصطلحات العمارة والفنون الاسلامية"، ص 245"، فإذا نحن أخذنا في الاعتبار حققة وجود الأسواق في الحاضرة والبادية العربيتين منذ ما قبل الاسلام، بدا لنا أن تطور السوق، برسوخ العمران كما يقول ابن خلدون، ونتيجة الاحتكاك الحضاري مع الأمم السابقة في الحضارة، احتاج الى اصطلاح يتفق مع سمات السوق العربية الاسلامية في مرحلة تاريخية معينة، فاقترض هذا المصطلح من "اليونانية أو اللاتينية"، وهذا "تغليب ظن" عند الدكتور عاصم محمد مرزوق الذي يحيل على مراجع هي: "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع" و"مجموعة المصطلحات العلمية والفنية" والرازي والمقري وخليل الجر. ولو أن مصطلح "القيسرية" أو "القيسارية" أو "القيصرية" كان شائعاً على نطاق واسع في المملكة العربية الاسلامية لعثرنا عليه في صحاح الجوهري و"لسان العرب" لابن منظور، وهذا المعجم الثاني أقرب الى أن يكون موسوعة انسكلوبيديا. فعند ابن منظور الذي عاش في القرنين السابع والثامن للهجرة 630 - 711 لا نجد المصطلح موضوع البحث في الجذرين "قسر" و"قصر"، ولذلك يلفت انتباهنا ان الدكتور مرزوق حاور البحث عنه في غير مظانه، إذ استهل حديثه عن "القيسارية" ب: "قاس الشيء بالشيء: قدره على مثاله"، و"قاس" هذا جذرُها "قيس" التي لا يحسنُ الانتقال منها الى الحديث عن القيسارية! إلا أننا - إذ نقرُّ بواقعة اقتراض المصطلح، بينما المنشأة المعمارية شأن آخر - نلاحظ أن تبادل السين والصاد مألوف في العربية، وقد أشار ابن منظور الى ذلك فقال: "قصرتُ نفسي على الشيء اذا حبستها عليه وألزمتها إياه، وقيل: أراد قهراً وغلبة، من القَسْر، فأبدل السين صاداً، وهما يتبادلان في كثير من الكلام" لسان العرب - قصر، فلا تثريب بعد ذلك على المتكلم والكاتب إن هما قالا "قيسارية" أو قالا "قيصرية"، اشارة الى هذه المنشأة التجارية المعمارية موضوع البحث. ونحن إنما ننبّه بما تقدم الى عدم شيوع المصطلح، على رغم ذكره قبل زمن ابن منظور، إذ "ظهرت الكلمة لأول مرة في النصوص التاريخية على المباني في نص بدسوق مؤرخ في عام 594 ه./ 1198م." د. صالح لمعي مصطفى، ص 62. ولكن القيسارية عرفت بأسماء أخرى كالوكالة والسوق مرزوق، ص 245 و246. كما ان المصطلح دلَّ أحياناً على غير "السوق" وهي الدلالة الغالبة، إذ أطلق مصطلح القيسارية على الميدان في الموصل واربيل وبغداد، وأطلق في الجزائر على الثكنة، وأطلق في حوران على القصور الرومانية والبيزنطية د. صالح لمعي مصطفى، ص 61، علاوة على الخلط في بعض المراجع ما بين "القيسارية" والخان، وهو ما نبهنا اليه سابقاً أنظر مقالتنا عن الخانات في "الحياة": 11/9/2001، و12/9/2001. إن الفرق ما بين القيسارية والخان فرق وظيفي في الدرجة الأولى، لا فرق معماري، ذلك ان القيسارية - كما تشرحها المراجع - سوق مسقوفة تقع في مركز أساسي من المدينة ولا تكون على طرق القوافل، وتكون الحوانيت فيها ومساكن التجار دائمة، بينما يقع الخان في المدن وعلى طرق القوافل ويكون محلاً لإقامة التجار ودوابهم وبضائعهم اقامة غير دائمة. وأما الجانب المعماري فلا يدل دائماً على تخالف، إذ ربما شابهت القيسارية الخان كما في حال خان الافرنج في صيدا وقيسارية الحرير في دير القمر، وربما كانت القيسارية في مكان مخالفة في عمارتها لقيسارية في مكان آخر، وهذا يتضح بمقارنة بعض صور القيساريات - الوكالات في القاهرة بقيسارية الحرير في دير القمر على سبيل المثال أيضاً... وبكلمة: إن القيسارية أقرب الى السوق، بل هي سوق في الواقع، فيما الخان أقرب الى الفندق. هكذا نعود مرة أخرى الى موضوعة "النسخ" المعبر عنها عند بعض الباحثين ب"الانتقال"، وهو تعبير نخشى أن يُوقع في الالتباس، حتى عند غير القصد، وأن يسقط من الحساب ما نعتقده تطوراً في تاريخ السوق العربية عمارة ونظام تجارة، كان طبيعياً أن يتأثر، بالاحتكاك الحضاري، بالسوق الغربية من حيث العمارة والنظام التجاري، ولكن ذلك ليس انتقالاً، حتى وهو يرتد في الاتجاه المعاكس، أي الى اوروبا الاندلس أنظر حديث الدكتور عاصم مرزوق عن حركة الانتقال هذه، ص 245، وبذلك لا يجوز - في رأينا - اختصار المسألة كلها بعملية اقتراض لغوي تحل مشكلة اصطلاحية، كما هو الأمر الى أيامنا هذه والى يوم الدين، ولا تعبر بدقة عن واقع الحال دائماً. والقيسارية في الاصطلاح الأثري المعماري عند الدكتور مرزوق "نمط من أنماط الأبنية التجارية في العمارة الاسلامية عموماً يغلب على الظن انه مأخوذ من القيصرية اليونانية بمعنى سوق القيصر أو السوق الامبراطورية التي استخدمت خلال العصر اليوناني كمخازن ومساكن تحت اشراف ملكي" "معجم مصطلحات العمارة"، ص 245، هذا من حيث النشأة. أما القيسارية "في العصر الاسلامي" فقد "غلب عليها الطابع الخاص" د. لمعي مصطفى، ص 61، الأمر الذي يُفسَّر بإضافة الكثير من قيسارية القاهرة أو وكالاتها الى اسماء أشخاص غير ملكيين، وهو ما نجده في لبنان أيضاً، حيث تضاف القيساريات الى الأمراء وغير الامراء، كما تضاف الى نوع السلعة التي تشيع فيها، وربما عُرفت، ابتداء من المماليك، بالوكالات د. عصام شبارو: "تاريخ بيروت"، ص 109. ومن القيساريات التي أنشأها الأفراد والتجار في بيروت: القيسارية العتيقة التي بنتها زوجة الأمير احمد ابن الأمير ملحم الشهابي بعد العام 1749م. وقيسارية البارود التي بناها الأمير سليمان اللمعي سنة 1729م، وقيسارية الأمير منصور بن حيدر الشهابي بين 1762 و1770م. شبارو، ص 132 - 133، وقيسارية الشيخ شاهين تلحوق، وقيسارية الحرير، وقيسارية الأمير سلمان الشهابي، وقيسارية الصاغة، وقيسارية العطارين التي بناها الأمير عبدالسلام العماد د. حسان حلاق: "بيروت المحروسة"، ص 98-99، وانظر: القس حنانيا المنير: "الدر الموصوف في تاريخ الشوف"، ص 51-52. ويبدو ان القيساريات كانت، كالخانات، عرضة للتخريب أو مسرحاً للاغتيالات والحرب، ومن ذلك ما يذكره الأب لويس شيخو في مبحثه "لمحة في تاريخ لبنان" عن لبنان في عهد الصليبيين نقلاً عن صالح بن يحيى ولا سيما المشايخ التلاحقة الذين "نزلوا بيروت سنة 539 ه./1144م فسكنوا بيروت برهة وكان في المدينة قوم من أمراء بني الحمراء فجرت بين الفريقين مشاجرة قتل فيها أحد بني الحمراء فخاف التلاحقة وهربوا الى مقاطعة الغرب. ثم حضر منهم الى بيروت الشيخ شاهين وكان له فيها قيسارية باسمه فبلغ خبر قدومه أصحاب بني الحمراء، فاغتالوه وقتلوه" لبنان: مباحث علمية واجتماعية": 1/304، وانظر أيضاً: نفسه: 1/311. والطريف أن يحسب باحث قيصرية في صيدا قلعة، وهو عبدالرحمن حجازي في حديثه عن قيصرية تقابل مسجد البحر من جهة الشرق "يقال انها سميت بالقيصرية لأن قنصل القيصر كان يقيم فيها" مستنداً في ذلك الى "حديث مع الحاج ابراهيم السبني"! "دليل معالم صيدا الاسلامية"، ص 108، وهو يقدم وصفاً سريعاً لها يقربها من الخان، فيقول: "ونعتقد ان تاريخ بنائها يعود الى عهد الأمير فخر الدين، لأن التصميم الهندسي لمدخلها يشبه تصميم مدخل خان الرز. و يصعد الى القيصرية بواسطة سلم حجري، هو عبارة عن دهليز، وتتألف القيصرية من غرف عدة" نفسه. وفي دمشق مثل ذلك، فقد نسبوا القيساريات الى الباشوات، كقيسارية درويش باشا التي صارت "خان الحرير في أيامنا" ملاحظة صلاح الدين المنجد على "الباشات والقضاة في دمشق" لمحمد جمعة المقّار: "ولاة دمشق"، ص 6 و17، وعلى العموم كانت في دمشق قيساريات عدة يخبرنا القس حنانيا المنير انها تعرضت للحريق في سنة 1792م. الدر الموصوف، ص 104، كما نعلم ان حريقاً آخر أيام الوالي خرّم باشا جعل قيساريتين طعمة للنار سنة 930 للهجرة ولاة دمشق، ص 8، وقد مرَّ في مبحثنا عن الخانات، المنشور في "الحياة" عدم تفرقة صلاح الدين المنجد بين الخان والقيسارية، في حاشيته عند الحديث عن "قيسارية أسعد باشا في دمشق" ولاة دمشق، ص 69، الأمر الذي يرجح أن المصطلح كان يقع على كلا المنشأتين. * كاتب لبناني