سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    المملكة تستضيف اجتماع وزراء الأمن السيبراني العرب.. اليوم    تباطؤ النمو الصيني يثقل كاهل توقعات الطلب العالمي على النفط    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    الجيش الأميركي يقصف أهدافاً حوثيةً في اليمن    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    «سلمان للإغاثة»: تقديم العلاج ل 10,815 لاجئاً سورياً في عرسال    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وثائق التاريخ المديني من خلال الرحلات
نشر في الحياة يوم 17 - 04 - 2010

ترك الرحالة الأجانب فيضاً من المعلومات الوثائقية التي وقفوا عليها من خلال تجوالهم في بلاد الشام، إذ أمكن لهم أثناء تنقلهم في الديار الشامية أن يسجلوا العديد من الانطباعات عما شاهدوه في شتى الميادين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية. ومما يستوقفنا في هذا المجال ما كتبه الدكتور لويس لورتيه أحد العلماء الفرنسيين المشهورين الذين أمّوا بلاد الشام، ووضع كتاباً ضخماً مزيّناً بالصور دعاه باسم سورية اليوم. نظم لورتيه رحلتين إلى لبنان وسورية وفلسطين، أحداهما في عام 1875 والثانية في عام 1880، حمل معه منهما على حدّ قوله مجموعات علمية خطيرة وحصاداً غنياً من التذكارات.
حطّ لورتيه رحاله في مدينة طرابلس ما بين رحلته الأولى في عام 1875 ورحلته الثانية عام 1880، وشاهد كثيراً من الأمور التي تغيّرت. هذه المدينة التي سمّاها أهالي سورية طرابلس يشطرها شطرين نهر قاديشا الذي اسمه الحقيقي نهر أبو علي. يصف لورتيه داخل المدينة فيشير إلى أنه من أفتن ما تقع عليه النواظر، فليس ثمة إلا شوارع صغيرة معتّمة تسترها القناطر، وبيوت مبنيّة بالحجارة المنحوتة، وشرفات ذات مرام ونوافذ في شكل قوطي وسطوح بشرفات.
أما من حيث أماكن العبادة فيها فيذكر لورتيه أن الطوائف المسيحية شيّدت ثماني عشرة كنيسة، خمس منها أرثوذكسية وسبع كاثوليكية وثلاث مارونية وواحدة ملكية وواحدة بروتستانتية، والمدارس التي تخص هذه الطوائف كثيرة جداً، ولكن لا واحدة منها للأرثوذكس، وللمسلمين عشرون جامعاً تحتوي مكاتب غنية تستحق أن يدرسها السائح العالم درساً دقيقاً.
أما ما يربط طرابلس بالميناء فهي طريق واسعة ولكنها رديئة التعبيد، هكذا كانت حالة الأمكنة في عام 1875 ولكن الأمور تغيّرت في رحلته الثانية عام 1880، فليس ثمة حمير تنهق ولا جحاش بطرة ولا فرسان أنيقون، ويظهر أن هناك تغييراً محسوساً طرأ على حالة طرابلس، عهد رحلة مؤلفنا الثانية.
صحيح أن وضع طرقات المدينة بقي على ما هو عليه إلا أن ما شاهده يدلّ على أنّ المدينة كانت على أبواب قفزة على صعيد المواصلات التي تربط طرابلس بمدينة الميناء. ففي هذه الرحلة شاهد لورتيه قطاراً «ترامواي»، كما يخبرنا بأنّ هناك شركة ترغب في مواصلة هذا العمل التمدني بأن تنشئ بدلاً من هذا القطار سكة حديد تسير عليها شاحنات يمكنها أن تنقل البضائع المعدّة للإصدار والتصدير. وقد أبدى لورتيه شكه بإمكان إنجاز هذا المشروع على رغم أنه رأى زهاء خمسين امرأة من مسكينات النساء، شاحبات، هزيلات، حاملات قففاً ملأى بالتراب، يشتغلن بشق الأرض التي ستبنى فيها المحطة. أما سكان مدينة الميناء فأكثرهم بحارة ونجّارون لأن صنع القوارب لا يزال يشغل عدداً كبيراً من العمال، وفي هذه الضاحية خان ومنازل جميلة ومخازن ووكالات لمختلف شركات الملاحة.
يعطي لورتيه صورة عن حالة طرابلس الاقتصادية فيذكر أن الحرير بالتأكيد هو أهم ما تنتجه طرابلس وتصدّره إلى البيوت التجارية في ليون، ولكنه يأخذ على هذا الحرير خشونته وإعداده الرديء وهذا ما جعله يفقد في السنوات الأخيرة كثيراً من قيمته القديمة. غير أنه يشيد بجودة الإسفنج الذي يصاد على الشاطئ الطرابلسي، فهو من نوع ممتاز وأكثره يصدّر إلى مدينة مرسيليا ويشتريه تجّار فرنسيّون، ويراوح ثمن الألف غرام منه ما بين الخمس والعشرين أو الأربعين قرشاً. وتصنع طرابلس كثيراً من الصابون يصدّر إلى عدد كبير من مدن البحر المتوسط وجزر الأرخبيل الرومي، كما تصدّر طرابلس أيضاً جوز العفص الذي يأتيها من سواحل سورية ولبنان ومن مناطق أبعد من وادي العاصي ومن لبنان الشرقي، ويرسل التبغ الذي ينتجه السهل إلى مصر خصوصاً.
ينتقل لورتيه من طرابلس إلى بيروت ويرى أن هذه المدينة مثّلت دوراً عظيماً في يقظة الشرق. وبيروت اليوم تختلف عمّا كانت عليه منذ سنوات، وعلى رغم أنّ النقليات في بيروت كانت تتم على ظهور الحمير والبغال والجمال، فإن لورتيه يسجّل وجود عربات ذات مقاعد وعجلات خفيفة ذات دواليب أربعة مكشوفة في الضواحي الجديدة للمدينة. أما أسواق بيروت فهي كجميع أسواق مدن الشرق صغيرة متداخلة على جوانبها حوانيت، ومن هذه الحوانيت يمكن أن يشتري المرء أبدع الأشياء المصنوعة في بيروت، قطع الحرير المنسوجة بذوق، قطعاً مطرّزة بفن جميل، آنية القهوة والفناجين المعمولة من الفضة المخرّمة تخريماً دقيقاً.
أما مقاهي بيروت فهي كثيرة مفتوحة بسعة، فيها دواوين يجلس عليها الأربعاء متعوّدو المقاهي وفي أفواههم الشبق أو النرجيلات. أما المسافرون فينزلون في الخانات. أما مآذن بيروت كما يصفها لورتيه فهي مربعة. وأما الجوامع فإنها تستخدم إلى جانب كونها مركزاً للعبادة ملجأ للدراويش والمتسولين وأحياناً للمرضى. ويعجب مؤلفنا بمستشفيات بيروت المدارة إدارة حسنة، أنشأتها راهبات الناصرة فيها أطباء علماء مخلصون. أما دار حاكم بيروت فهي قصر من قصور الأمير فخر الدين، يمكن للزائر أن يشاهد فيها غرفاً تستحق الاهتمام. كما يرى في أطراف المدينة بقية حصون وأبراج شيّدها أحمد باشا الجزّار.
يسجّل لورتيه ازدياد عدد سكان بيروت، فهم اليوم زهاء ثمانين ألفاً، نصفهم تقريباً مسلمون وسائرهم مسيحيّون وموارنة وأرثوذكس ودروز وإيطاليون وغيرهم، وأهم المؤسسات الدينية الموجودة في المدينة هي الرسالة البروتستانتية الأميركية التي نزلت في هذه البلاد عام 1837. وأسست جمعيات ومدارس ابتدائية وعليا عدة، كما أنشأت معهداً طبّياً يخرّج في كل سنة عدداً من الدكاترة المثقفين القديرين، وفيها سبعة أساتذة أوروبيين يساعدهم ثمانية معاونين أوروبيين ووطنيين، يعلّمون العلوم والطب، وفي عام 1880 بلغ عدد التلامذة مئة وثمانية، وقد جهّزت فيها مختبرات واسعة للفيزياء والكيمياء والمواد الطبيّة وعلم الحيوان والنبات، كما يعرّج على متحف التشريح (باثولوجي) ولشدة إعجابه بمعهد بيروت الطبي تمنى لورتيه لكثير من المعاهد الطبية الفرنسية أن يتشبّه به.
كما يشير إلى وجود مدرسة فخمة لراهبات القديس منصور دي بول، وتربي راهبات الناصرة مئة وثلاثين بنتاً في مدرستهن الداخلية. كما شيد اليسوعيّون بناية عظيمة أعدّوها لتعليم الفتيان العرب. ويستنتج لورتيه من كثرة وجود البعثات التبشيرية في المدينة وتزاحمها لفتح مدارس لها، أن في بيروت مزاحمة حقيقية بين مختلف المذاهب المسيحية. كما توجد في ضواحي بيروت أمكنة لتربية دود القز ومعامل لحلّ الحرير، كما يوجد فيها نوع من الأنوال لحياكة القطن. كما يشيد بعمل الصاغة الذين يصنعون بفن جميل مصنوعات دقيقة مخرّمة. كما تنتج الضواحي خمرة مشهورة تعرف بالخمرة الذهبية.
ويتوقف لورتيه عند ما تلبسه نساء بيروت، فالنساء المارونيات والدرزيات يلبسن من الثياب ما يقارب الثياب التي تلبسها نساء أزمير وسواحل آسيا الصغرى. وتلبس نساء الطبقة الميسورة في داخل منازلهن الثوب الوطني القديم لا العمامة. إلا أن لورتيه يأسف لانتشار الأزياء الأوروبية ويعتبرها من نكد الحظ الذي سيؤثر على الأزياء الوطنية.
أثناء انتقاله إلى صيدا يشير الى أن المدينة تقوم مكان صيدون القديمة والمدينة شكلها مثلث كبير، وشوارعها رصيفان بينهما شبه ساقية يقف عليها المارة، أما شوارعها فهي غير معتنى بها تحتوي أحداثاً من الأقذار. أما بيوت صيدا فهي على العموم أعلى من سائر بيوت الساحل، وليس من النادر أن ترى فيها بيوتاً ذات طبقات متعددة. وأهم منتوجاتها العنب والحبوب والقطن والحرير، كما تنتشر فيها تربية دود القز، كما تنتج بساتينها كمية كبيرة من الرمان والمشمش واللوز والبرتقال والليمون والإجاص. وفي المدينة دير للفرنسيسكان ومدرسة لليسوعيين وميتم لراهبات مار يوسف وللإرسالية البروتستانتية الأميركية فرع في صيدا ازدهر منذ بضع سنين.
من صيدا انتقل لورتيه إلى مدينة صور التي ازداد عدد سكانها وهو يربو على الخمسة آلاف، وبرأيه أن هذا العدد لا بد من أن ينمو إذا تمّت الإدارة التركية في المدينة بتعميق المرفأ وخصوصاً إذا أنشأت طرق المواصلات التي لا يوجد لها أثر في هذه المنطقة، ونصف سكان صور الحاليين من المتاولة والباقون من العرب الأرثوذكس. ومنذ خمس سنوات تصدّر مدينة صور كميّة كبيرة من القطن والحرير والتبغ وحجارة الرحى البركانية، حجارة تحمل من حوران إلى صور على ظهور الجمال. وللرهبان الفرنسيسكان وراهبات القديس يوسف ديران في داخل المدينة وقد بنت الرسالة الأميركية مدارس هي في ملء الازدهار، كما أن المدينة تشهد حركة بناء لمنازل جديدة، كما أن الحقول المجاورة تستثمر أفضل استثمار وتنتج أخصب إنتاج، وبرأيه أن الرقي والتمدن سائر في صور وبشكل جدي. أما شوارع المدينة فضيّقة وتحتاج إلى عناية تحيط بها منازل مخرقة بفتوحات واسعة قوسية، وبيوت صور على طراز بيوت المناطق الحارة في الشرق، ليست مسقوفة بالآجر لكن سطوحها من الطين المضروب المخلوط بالهشيم.
مع رحلة جون كارن إلى المدن اللبنانية
استهل جون كارن رحلته بالحديث عن بيروت التي اعتبرها أوفق مكان يتخذه المرء مسكناً في لبنان، فهي بديعة الموقع، على أنه يأخذ عليها وجود بعض القاذورات إذا ما قوبلت بطرابلس الحسنة البناء بنهرها المنساب إليها انسياباً عذباً.
يعتبر جون كارن مدينة بيروت مرفأ لدمشق ولداخل سورية، وموقعها أصلح لتقبل المشحونات والأنباء وما أشبه من أوروبا، فنشاطها التجاري أعظم من نشاط كل مرفأ آخر في سورية، وفيها يقيم عدد موفور من التجار، إضافة إلى القناصل ووكلاء الدول الأوروبية المختلفة. كما يشير إلى أن بيروت هي في نظر الأوروبي أوفر حياة من دمشق بما لا يقاس، فلقد تحسّنت بيروت وضواحيها في الآونة الأخيرة ولا تزال آخذة في التحسن، تشهد على ذلك المساكن والمباني الجديدة التي تبنى في كثرة ومما يؤكد أهمية مدينة بيروت ما أشار إليه جون كارن من ارتفاع أجور المنازل فيها نظراً الى وجود كثير من الفرنسيين الذين نزلوا المدينة. فإن أجر بيت صالح يتسع لعائلة صغيرة يبلغ في هذه المدينة ثلاثين ليرة استرلينية. أما سعر اللحم فيبلغ أربع بنسات لكل أوقية، وسعر النبيذ أربع بنسات لكل زجاجة، أما الخمرة اللبنانية فسعر الزجاجة تسعة بنسات أو شلن. كما يوجد في بيروت خبازان فرنسيان ما يجعل الخبز فيها جيداً، كما يعيش فيها القناصل والتجار من شتى الأمم عيشة اجتماعية ودّية.
ولبيروت أفضلية أخرى بارزة على سائر المدن في سورية، وهذه الأفضلية برأي مؤلفنا تقوم على حرية العبادات الدينية وامتيازاتها، ففيها يتلاقى رجال مثقفون أقبلوا من الأديرة في الجبال بينهم الأساقفة والكهنة واللاهوتيون من موارنة وأرثوذكس وكاثوليك. ويبدو أن بيروت أعجبت جون كارن إلى الحد الذي ذكر فيه أنه أقام فيها دونما ضجر أو شعور بالسأم. فيقارن بين إقامته فيها ووجوده في دمشق، فهذه الأخيرة كفته لبضعة أسابيع ولكنه لم يشعر بهذا الضجر فترة إقامته في بيروت.
ولمرفأ بيروت أهمية اقتصادية جمّة ففيه تقوم جملة من مباني القنصليات الأجنبية، والمدينة تشكل مركزاً حيوياً لتجارة الطائفتين الدرزية والمارونية، إليها يصدرون قطنهم وحريرهم فيأخذون عوضه الرز والتبغ والنقود، ثم بهذه يشترون القمح من سهول البقاع وحوران. أما أهم المواد التجارية التي تتعاطاها بيروت فهو الحرير الخام، يأتي بعده القطن والزيتون والتين وهي كلها تصدّر إلى القاهرة ودمشق وحلب.
ويرى جون كارن أن النشاط التجاري في بيروت يزداد يوماً بعد يوم كما يعتبر ميناؤها أفضل الموانئ على طول الشاطئ، فهو يشهد بوادر حركة جديدة أغرت أصحاب الأعمال في أوروبا لإنشاء الأعمال والمتاجر فيها. ونظراً الى أهميتها فلقد قصدها للإقامة تجار كثر يعيشون فيها عيشة بذخ في منازل مريحة. كما تفد إليها السفن من مختلف الأمم الأوروبية دونما انقطاع وعلى ظهرها السيّاح الذين يجدون بيروت خير نقطة يبتدأون منها سياحتهم في الشرق.
لم يلبث جون كارن أن حطّ في مدينة طرابلس التي يعتبرها أجمل مدن لبنان منظراً، فبيوتها مبنية بالحجارة بنياناً متيناً، ثم هي في داخلها معدّة إعداداً نظيفاً وتحيط بها وتزيّنها الحدائق البهية التي تختلط بالمنازل في المدينة. فطرابلس أغنى بالحدائق والبساتين من بيروت، وحظّها من الوقاية الصحية يفوق حظّ صيدا وعكا. وعلى ذلك يرى جون كارن أن طرابلس تجمع كل ميزات الراحة والمشاهد البديعة، وهي ميزات تغري الغريب الذي يلتمس العافية أو المتعة. كما يوجد في طرابلس جملة من التجار الأوروبيين المستوطنين، وفيها قناصل لفرنسا وانكلترا والنمسا، وأهم بضاعة فيها للتصدير هي بضاعة الصابون، وقد سبق أن كانت تصدّر منه نحو ثمانمئة كنتال في السنة، لكل كنتال سعره ثمانون ليرة استرليني.
على أن جون كارن يخبرنا أن تجارته أصيبت أخيراً ببعض التدنّي من دون أن يبيّن أسبابه. ويصدّر أكثر صابون طرابلس إلى طرطوس ومن ثم إلى الأناضول وجزر الإغريق. أما الخان الذي ينزله صناع الصابون فهو صرح كبير حسن البناء، وتلي الصابون في الأهمية بضاعة الإسفنج وهو يؤخذ عن الشاطئ إلا أن وجوده يكون على بعض عمق من البحر. أما شوارع المدينة فبعضها واسع بالقياس إلى الشوارع من الشرق وفيها أبنية من حجر ذات طبقتين، غير أن مؤلفنا يرى أن لا شيء يدل على الازدهار والرخاء لهذه المدينة، من هنا يترك وضع طرابلس الحالي انطباعاً لدى المسافر بأنّ أفضل أيامها قد انقضى.
وتتميز طرابلس عن غيرها، فأسواقها الضيّقة العظيمة الطول ملأى بالبضائع المعتادة وتدور فيها الحرف والتجارات الصغيرة بنشاط مرموق. ولما كانت المنطقة المجاورة لطرابلس تنتج حريراً من صنف جيد، فإن أكثر الأهالي يشتغلون بحياكة الزنانير الطويلة المقلمة. أما تجارة المدينة فتكاد تكون احتكاراً للمسيحيين لا سيما الأرثوذكس. ومما يلفت النظر ما كتبه جون كارن عن طرابلس، إذ يشير إلى وجود جملة من العائلات الفرنسية التي تستوطن المدينة وتهتم بفروع مختلفة من صناعة نسيج الحرير، كما يعمل الفرنسيون على إقامة تجارة رابحة في مادة الحرير الخام إذا تيسّرت الأسواق للتصدير. ويعزو جون كارن عدم تشجيع الصناعة والإنتاج في هذه البلاد إلى طبيعة الحكم الرديء الذي يحكم هذه المناطق مع أن خصوبة الأودية المجاورة كفيلة بإنتاج الحرير مضافة إليه مواسم أخرى ثمينة وسخية.
يصل جون كارن إلى صيدا، فيشير إلى أن هواء المدينة صحي جداً، وضروريات الحياة فيها حتى بعض الكماليات رخيصة، وأرخص شيء فيها اللحم وإن لم تكن له سوق نظامية مخصوصة به. وتتوافر في صيدا الثمار الممتازة، كما تباع فيها الخمور اللبنانية بأسعار معتدلة. ويرى مؤلفنا أن تكاليف المعيشة في صيدا هي أدنى منها في بيروت إلا أنها تفتقر إلى الحياة الاجتماعية العامرة التي تتمتع بها بيروت. ولكن حوانيت التبغ فيها تظهر بمظهر جميل متنوع فتتراءى القطرميزات الزجاجية المحلاة بالأزهار الذهبية ومنها ما كان مملوءاً بالتبغ، كما تنفتح أسواق صيدا المتعرجة الطويلة عن احتياطي لا بأس به من البضائع وعن الزوّار يلبسون الألبسة اللائقة. أما صادرات صيدا فهي القطن المغزول والحرير والقمح والخشب والزيت. أما مستورداتها فهي عبارة عن الأقمشة والبهارات والحديد والأصبغة.
من صيدا ينتقل جون كارن إلى صور التي تشتمل على جملة من مباني حجرية جيدة كما يشير إلى وجود جامع وسوق وثلاث كنائس بائسة. ويبدي مؤلفنا إعجابه بأهل صور فعندهم مودة ولطف وفي بيوتها وسائط للراحة، ولكن المدينة تخلو من المشارف وفيها حمام واحد من أبسط صنف وليس فيها حكواتي، وينعدم وجود عيون الماء ومحطات القوافل للغرباء، ومع ذلك فإن باستطاعة الوافد الغريب أن يتكل على ضيافة أسرة من الأسر. وباعتقاد مؤلفنا أن ظنه بحسن استقبال أهل صور لن يخيب.
* كاتب لبناني 


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.