لا ريب في ان أحمد باشا، والي السلطان العثماني على عكا الذي تولى أيضاً إيالات صيدا وبيروت وطرابلس في اواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، كان واحداً من أهم رجالات المرحلة التي اتسمت باحتدام الصراع بين دول الغرب والسلطنة العثمانية، وباحتدام الصراع بين تلك الدول على أملاك هذه السلطنة، وعلى أسواق المنطقة ومصادر الخامات فيها، وعلى طريق الهند. ويرى انطون عبدالنور أنّه "مما ساهم في تكثيف الغموض حول شخصية الجزار حملة التشويه التي تعرض لها من المؤرخين الفرنسيين لأسباب عدة كالصراع الذي دار بينه وبين الجالية الفرنسية في صيدا وأدى إلى طردها من المدينة، والموقف الذي وقفه الجزار من حملة بونابرت على سورية "تجارة صيدا مع الغرب من منتصف القرن السابع عشر الى أواخر القرن الثامن عشر" منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات التاريخية، بيروت: 1987، ص57. وأما الصراع ما بين الجزار والجالية الفرنسية في صيدا فسببه احتكار هذه الجالية التجارة فعاشت وحدها في صيدا "حياة بذخ وتبذير. وقد سهّل لها هذه الرفاهية وهذا الإسراف الرخص النسبي في الأسعار، ثم الأرباح الطائلة التي كانت تجنيها من التجارة" عبدالنور، ص 148. حصار عكا وأما موقفه من حملة نابليون بونابرت فكان العامل الحاسم في فشلها، والذي يبدو، أن بونابرت كان يدرك - ربما اكثر من اللبنانيين - ان حملته على سورية لا تكون ناجحة ما لم يتغلب على الجزار، وما لم يسقط عكا، وهي معقل الباشا، ولذلك حاصرها أربعة أشهر عبثاً، لأن الجزار "صرف اهتمامه في عكا لإجراء الإصلاح والتحسين والتحصين حتى صيّرها بما أنشأ فيها من ضروب الاستحكام والتحوط قلعة منيعة لا تكاد تؤخذ" شيخو: 1/323. إذاً، "لم ينشب الخلاف بين الجزار والفرنسيين "لأن الجزار كان طاغية" بل لأن الجزار "حاول اتباع سياسة وطنية في التجارة" عبدالنور، حاشية ص 57. فهل كان ثمة ما يبرر اتباع مثل هذه السياسة الوطنية في التجارة؟ إن ما يبرر ذلك يلخصه قنصل فرنسا في صيدا، في مذكرة بعث بها الى غرفة تجارة مرسيليا 1790، على أثر الصراع مع الجزار، ويتحدث فيها عن أوضاع دائرته القنصلية، ولا سيما أوضاع التجارة في المنطقة كلها، إذ "كانت تجارة منطقة سورية وفلسطين مورد غنى كبيراً للفرنسيين. وبوساطتها شيدت ثروات كثيرة"، ولأن الجزار جاء يقلق سكينة الفرنسيين المثرين على حساب الوطنيين، و"لكي يعود السلام والأمن والبحبوحة، ولكي يزداد عدد السكان ويشيع رغد العيش، يجب ان يختفي الجزار" - يصرح القنصل الفرنسي رينودو أنظر: عبدالنور، ص 209، وص 211. ضاق القناصل الفرنسيون بالجزار ذرعاً وهو حي، ثم ضاقوا به وهو ميت، وأثار حفيظتهم ان تكرم السلطنة العثمانية الجزار بضريح فخم. يكتب قنصل فرنسي آخر، هو قنصل فرنسا في بيروت هنري غيز: "لقد شيدوا ضريحاً فخماً للجزار ... وهذه بادرة اخرى يجب ان تدوّن هنا لتدل على أننا والشرقيين على طرفي نقيض في كل شيء. إن رفات هذا الظالم، أحد أولئك الرجال الذين لم ير لهم الشرق مثيلاً في تعطشهم الى الدماء يوضع في ضريح فخم" هنري غيز: 1/160. ومرة أخرى يتعالى المستعمر المعلِّم على الشرقيّ المتخلف، فيردُّ صنيع السلطنة العثمانية في شأن ضريح الجزار الى غباء الشرق وتقديسه المعتوهين، فتكريم الجزار على هذا النحو "يرجع الى عقلية الشرقيين التي تعزو كل شيء الى مشيئة الله، ولا تعرفه الا حين يغضب ويضرب ضرباته المخيفة. فعندهم ان الجزار، الرجل الفاني، لم يكن ليقدر ان يؤدي رسالة هذا الظلم والجور لو لم يكن الله اصطفاه لإلقاء تلك الدروس القاسية على العالم. رويت في ما سبق كيف يُحترم المجانين عند هذا الشعب الكثير الأوهام والتخيلات. إنّ لهذا الوهم عذراً واضحاً لأن له على الأقل وجهته الأخلاقية، فالاهتمام بالشخص المهمل المعتوه يستحق فاعله أجراً عليه. أما الاهتمام بقبر طاغية كالجزار فعلامَ يؤجر بانيه؟" هنري غيز: 1/160- 161. هنري غيز هذا يقيس الموقف من الجزار بموقف الجزار من التجار الفرنسيين المُثرين على حساب اصحاب الأرض الوطنيين، فيثبت في مؤلفه مقاطع من رسالة السيد شابو سو الى سفارة فرنسا في القسطنطينية في العام 1804، وفيها ان "الجزار" "نسيج وحده .... ولو لم يكن حكمه اكثر الأحكام ظلماً وقساوة وبربرية، لكان بوسعنا ان يهنئ بعضنا البعض الآخر لإقامتنا في أسعد نقطة من أراضي المملكة العثمانية الواسعة" غيز: 1/161. فكيف لا يضيق الفرنسيون بالجزار وقد قلب عليهم فردوسهم جحيماً؟ عاش الفرنسيون "في أسعد نقطة" لأنهم احتكروا التجارة في صيدا وغيرها، وأثروا من طريق احتكارهم ثراءً فاحشاً، بشهادة الرحالة والمؤرخين الفرنسيين، إذ "على العموم كان الفرنسيون الجالية الأوروبية المسيطرة في صيدا وأساكلها. ولم يبق لهم في القرن الثامن عشر اي منافس، حتى أنهم استطاعوا منع تجار الدول الأخرى من الإقامة في مدينة صيدا. وفشلت محاولة الدنماركيين عام 1762، في ايجاد مؤسسة تجارية لهم في بيروت، كما فشلت محاولة إيطالية عام 1760. ويؤكد الرحالة فولني ان لا وجود لغير الفرنسيين في صيدا في نهاية القرن الثامن عشر" عبدالنور، ص 144. احتكار تجارة الحرير ان استقلال الفرنسيين بتجارة صيدا والأساكل الأخرى أدى بهم، بالضرورة، الى احتكارهم تجارة الحرير. ففي القرن الثامن عشر، عندما تعرض سعر الحرير لارتفاع ملحوظ، لم يكن "المستفيد من هذا الارتفاع ... الفلاح اللبناني، وإنما التجار الذين يحتكرونه"، بشهادة تاجر فرنسي قال آنذاك بصراحة، ومن دون تحرج: "اشتري الحرير في بداية الموسم عندما يضطر الفلاحون الى البيع بسعر رخيص ليدفعوا الضرائب للحكام، فأُبقي البضاعة في حوزتي بضعة أشهر لتأكدي من بيعها بسعر السوق للمراكب التي تأتي لنقله الى أوروبا فيتأتى لي ربح يراوح بين 20 و25 و30 في المئة" عبدالنور، ص170- 171. وشهد شاهد آخر من اهلهم، قال تاجر فرنسي آخر: "بعد أقل من عامين من مزاولتي التجارة، ربحت مبلغاً كبيراً جداً، مع انني كنت أنفق بلا حساب، فلديّ أربعة جياد، وستة من الخدم، وأعد دائماً مائدة تكفي لستة اشخاص وأكثر، ومائدتي حسنة الخدمة، وهي مفتوحة بلا تكلف لأصدقائي من مختلف الجاليات، ولي منزل لطيف يطل من اكثر جهاته على البحر" عبدالنور، ص148- 149. بلغ من احتكار الفرنسيين وسيطرتهم على أسواق صيدا سيطرة تامة انهم "تيسَّر لهم تنظيم عملية البيع والشراء من دون ان يكون لذلك خلفية قانونية رسمية. حصروا شراء القطن المغزول في صيدا وصور، بهم دون سواهم من تجار البلاد والتجار الأوروبيين الآخرين"، وهذا بشهادة مفتش فرنسي أضاف قائلاً: "ليس هناك من احتكار أوضح، ولكنه مرسخ في الأذهان لدرجة ان الشعب قد يثور إذا حاولت الحكومة العثمانية إلغاءه". بيد أن "الجزار" ألغى هذا الاحتكار، وزاد فطرد الفرنسيين ولم يثر الأهالي، لأنهم ببساطة كانوا ينتظرون من يخلصهم. ففي العام 1203ه. 1790م، كما يقول الأمير حيدر شهاب "وقت الفتنة بين الجزار وبين قنصل الفرنساوية الكاين بعكا ... نبّه الجزار على القناصل في صيدا وعكا لكي يخرجوا من بلاده، مع كل أتباعهم، والتجار الفرنساوية أيضاً، وأرسل تنبيهاً حتى سكروا الخانات" "تاريخ أحمد باشا الجزار"، بيروت: 1859، ص95، ولم يكن الفرنسيون "يتوقعون ان يجسر الجزار على طردهم من إيالة صيدا، لاعتقادهم ان احتكارهم التجارة سيجعل السكان متعلقين بهم الى درجة ان طردهم سيحدث ثورة على الوالي، ففوجئوا بهذا التدبير ورضخوا له صاغرين من دون ان يحدث ذلك أي رد فعل عند الأهالي" عبدالنور، ص62. وكيف يثور الأهالي الذين عانوا، الى جانب احتكار التجار الفرنسيين، سوء أخلاق هؤلاء التجار المقيمين بينهم في صيدا وغير صيدا، إذ كان اللبنانيون "بشهادة المؤرخين الفرنسيين أنفسهم" يرفعون ظلامات "محقة نظراً لسوء أخلاق التجار ولتعديهم المستمر على الآداب". ولا غرابة في ذلك، ما دامت الجالية الفرنسية تضم آنذاك "عدداً من الشبان المغامرين، ذوي الأخلاق السيئة، الذين اضطروا لمغادرة مرسيليا والمجيء الى الشرق لأسباب أخلاقية، فيتعاطون التجارة بحسب أساليب فاسدة، بعيدة من الانضباط والدقة في المعاملة، فيكثر الإفلاس بينهم، وتتعرض الجالية كلها لأسوأ المعاملات من جراء تصرف هؤلاء المغامرين" عبدالنور، ص149. وهذا ما يفسر اجراءات السلطة العثمانية التي كانت "تفضل تجمع الأوروبيين في اماكن محددة، لكي تستطيع مراقبتهم بسهولة وتمنع اتصالهم بأهالي البلاد"، ومن ذلك ان خان الإفرنج في صيدا كان "يقفل في المساء وتسلَّم مفاتيحه لأحد موظفي الباشا، ثم تعاد المفاتيح في الصباح، وذلك لمنع خروج الفرنسيين من الخان في الليل. كما كان الخان يغلق يوم الجمعة اثناء الصلاة ويمنع اي شخص من الخروج أو الدخول إليه، وما يجمع من إيجارات مخصص للأوقاف والمساجد" ملاحظة: خان الإفرنج في صيدا وقف إسلامي في رأي بعض الباحثين، ولذلك لم يكن من حق الأمير فخر الدين المعني الثاني ان يقدمه هبة للتجار الفرنسيين، على قاعدة ان من لا يملك الشيء لا يحق له ان يهبه لأحد. القراصنة المالطيون وثمة عامل ثالث، غير الاحتكار وسوء الأخلاق، في الخلاف الناشئ بين "الجزار" والتجار الفرنسيين وقناصلهم، هو تظاهرة هؤلاء الفرنسيين للقراصنة المالطيين الذين كادوا يعطِّلون التجارة مع اساكل السلطنة، حين "وجّه القراصنة المالطيون اعتداءاتهم الى السفن الإسلامية دون سواها، لأن الحرب الصليبية هي سبب وجودهم ... ولم يكن التجار الفرنسيون ابرياء من نشاط القراصنة المالطيين، بل كانوا يشجعونهم على مهاجمة السفن العثمانية لمنع التجار العثمانيين من مضاربتهم، ولكي يستطيعوا السيطرة على الأسواق المحلية فيفرضوا الأسعار التي يريدون من دون خوف من المنافسة. وأشارت المؤرخة الفرنسية فالنسي الى خطاب ألقاه السفير الفرنسي لدى فرسان مالطة في نهاية القرن الثامن عشر، يقول فيه ما ترجمته الحرفية: "ان الاهتمام الكبير الذي توليه مرسيليا لرهبنة مالطة مصدره منع الرهبنة للأتراك من تحميل بضائعهم على سفن تابعة لهم، وإبقاؤهم تحت سيطرتنا" عبدالنور، حاشية ص132. ولم يكن القناصل الفرنسيون، لذلك، يضيقون بأحمد باشا وحده. ضاق السفير الفرنسي في الآستانة بوالي دمشق أغلو محمد، فاستطاع هذا السفير ان يحصل من الباب العالي على أمر بعزل أغلو محمد، لا لشيء إلا "لأنه حمّل مترجمي القنصل الفرنسي في صيدا مسؤولية هجوم احد القراصنة المالطيين على سفينة عثمانية" عبدالنور، ص33. وما لم يستطع اغلو محمد ان يفعله، فعله احمد باشا. ففقدان البحرية الوطنية على السواحل اللبنانية كان مرده الى "سيطرة الأساطيل الأوروبية سيطرة كاملة على التجارة المشرقية" وعدم قدرة "البحارة الوطنيين على منافستهم"، وإلى "نشاط القرصنة"، ولذلك "حاول احمد باشا الجزار عندما تولى صيدا ان يعيد الحياة الى المساجلة الوطنية، مما جعله يصطدم بالبحارة الفرنسيين. وكان ذلك كما رأينا من اسباب خلافه مع الجالية الفرنسية في صيدا" عبدالنور، ص127. هؤلاء هم الفرنسيون الذين تصدى لهم احمد باشا، وطردهم من صيدا وعكا، وهؤلاء هم الفرنسيون الذين قهر احمد باشا بمعاونة الطاعون فارسهم نابليون بونابرت وقرر مصير حملته على سورية وردّه خائباً الى بلاده، علما أن احمد باشا "لم يفتح على حسابه". لقد كان والياً عثمانياً، وبهذا الاعتبار حارب الفرنسيين إذ "حضر له فرمان سنة 1212ه. من السلطان سليم يحثه به على قتال الفرنساويين". "تاريخ صيدا"، احمد عارف الزين، ص76.