رحل الروائي البرازيلي الكبير جورجي آمادو عن 89 عاماً قضى ردحاً طويلاً منها كاتباً ومناضلاً. وإذ اعتبره النقد "روائي الروح البرازيلية" فهو استطاع ان يتخطى برواياته حدود وطنه مخاطباً شعوب العالم انطلاقاً من هموم شعبه وقضاياه. هنا مقاربة لعالمه الروائي كتبها الروائي والمترجم اللبناني عوض شعبان الذي عرّب الكثير من روايات آمادو عن اللغة البرازيلية. عاش الروائي البرازيلي ذو الشهرة العالمية جورجي آمادو حياة حافلة لم تخل من الاضطراب في احايين كثيرة. ففي الفترة التي شهدت نمو الفاشية العسكرية، المتولدة من نظم الحكم الديكتاتورية سجن ونفي، بعدما جرّد من حصانته كنائب في البرلمان الاتحادي عن ولاية سان باولو. وفي الحقيقة كان جورجي آمادو دائماً رهين هاجس ثلاثي: اولاً، نصرة الجياع في ولايات الشمال البرازيلي حيث تتعرض مناطق واسعة في الريف الى جفاف عات يقضي على كل شيء: المواشي، المحاصيل الزراعية، والحياة في القرى والدساكر. ثانياً، انتصار التيار الاشتراكي في البرازيل وأميركا اللاتينية، وإمكان تحقيق العدالة الاجتماعية من خلاله. ثالثاً، مواجهة الرأسمالية الاميركية المتمثلة بالشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية والتي بسببها يجوع الفقراء في كل مكان. وهذا الهاجس لازمه منذ بداياته الاولى التي اعقبت روايته "بلد الكرنفال". ففي روايتيه "كاكو" الصادرة عام 1933 و"عرق" عام 1934 كان هذا الهاجس نابضاً في عروق المؤلف، ويتحسسه القارئ في الصفحات المشحونة بآلام الفلاحين والموظفين الصغار والتجار المفلسين، ويشع منها لون الارض السمراء المنعكس على وجوه الناس الداكنة. وكذلك كان نسيج روايته "المحصول الاحمر" عام 1940 عابقاً بعذابات الانسان وقهره. وكان من الطبيعي ان يجعل من الكتابة الروائية سبيله الأوحد لإنصاف البشر المغلوب على امرهم عن طريق التغيير. وهذا ما دعاه الى كتابة سيرة حياة اثنين من دعاة العدالة الاجتماعية، هما كاسترو ألفيس الشاعر الخلاسي الذي عمل على تحرير العبيد وقد استشهد من اجل دعوته تلك. اما الثاني فهو لويس كارلوس برستس الذي حارب بفيلقه المعروف والذي لا يتعدى افراده ألفي جندي خمسة عشر جيشاً اتحادياً عدد افرادها يتجاوز المليون. وقد فشل هذا الضابط القادم بفيلقه الاسطوري من ولاية ريو غراندي دوسول، لانقاذ ثورة سان بولو الدستورية. وكانت نهاية حركته النفي مع جماعته في الباراغواي. لكنه اكتشف خلال تقهقره الى المناطق الداخلية ان الرق لا يزال قائماً بعد مئة سنة من الغائه. فكان العديد يجلدون في الساحات، ونساؤهم يغتصبن جهاراً، والاقطاعي هو سيد الناس والموجودات. هذا ما أرّخه جورجي آمادو في كتابه عن برستس "فارس الأمل"، الذي هو شقيق كتاب "أ.ب.ث. كاسترو ألفيس" وكلاهما ناهضا العبودية وكافحا الظلم الاجتماعي. وهذا الاتجاه الفكري هو ما عبّر عنه جورجي آمادو عند اختياره عضواً في الاكاديمية البرازيلية للآداب في الستينات من القرن المنصرم، اذ قال: "من القلق والبؤس ولدت رواية الثلاثينات مستحضرة جوزيه اميريكو ده آلميدا ولينس ريغو وغارسيا نوراموس وراكيل ده كيروز، ككتّاب للشعب المتألم في البرازيل". ان الاتجاه الدائم لرواية جورجي آمادو هو ان تكون وثيقة احتجاج، كما قال احد النقاد، ولد داخل رؤية انسانية وفيها استمر ثابتاً لأن هذه الرؤية في تلك الحالات هي ذاتية كلها. تجلت حقيقة الشعب البرازيلي في اعمال جورجي آمادو، في الزخم الشعري، في الملاحظة، في قدرة الشخصيات كرموز، وفي الأسلوب الذي يتعاظم جمالاً وقوة تعبيرية. فشلت احلام هذا الكاتب، فلم يقض على الجوع في السرتون مناطق الجفاف في الشمال البرازيلي بل زادت اوضاع الفقراء تفاقماً اذ تعتبر البرازيل اكثر بلد في العالم فيه مشردون، ممن يطلق عليهم "اولاد شوارع" ويبلغ عددهم ثلاثين مليوناً من اصل مئة وخمسين مليوناً، وهم عدد سكان البرازيل والنسبة كما تبدو مخيفة. والتيار الاشتراكي المنشود، والذي كان في فترة من الاوقات نامياً وفاعلاً في الحياة السياسية، اخفق في مواقعه فتبعثرت قواه ولم يعد من اسطورة "لويس كارلوس برستس" سوى السطور التي كتبها عن ذلك الثائر الذي خذله قومه وانصاره بالدرجة الاولى متهمينه بالستالينية والتصلب والتزمّت، مستفيدين من الحملة التي شنها نيكيتا خروشوف على جوزف ستالين بحيث عرف كتابه "فارس الأمل" وأفكاره العقائدية البوار القاتل. اما في ما خص مواجهة الرأسمالية فهذا الأمر لم يتحقق بل على النقيض من ذلك، قويت سيطرة الرأسمالية الاميركية على العالم مع ارساء مفهوم العولمة. وهي لا تعني اكثر من زيادة هيمنة هذه الشركات الاحتكارية على مقدرات العالم الذي يرى فيه جورجي آمادو عالماً مشكلاً من اكثرية فقيرة مسحوقة وأقلية ثرية ساحقة، وهذا يعني انعدام العدالة الاجتماعية بمعناها الحقيقي. الاخفاقات الثلاثة لم تكن وحدها الباعثة على خذلانه. فثمة اخفاق آخر كبير في حياته، هو فرض الحصار عليه لتحجب عنه جائزة نوبل العالمية التي كانت خليقة به بصفته المعبّر الاعظم عن الثقافة البرتغالية في العالم. وآلمه ان يحصل على هذه الجائزة كاتب دونه شأناً في الابداع الروائي هو ساراماغو البرتغالي مع ان من الظلم مقارنة هذا الكاتب بآمادو. ومن الاجحاف الفظيع بحق الأدب وضع ساراماغو البرتغالي مع ان من الظلم مقارنة هذا الكاتب بآمادو. ومن الاجحاف الفظيع بحق الأدب وضع ساراماغو في ذات الكلفة التي يوضع فيها آمادو ممن وصفته مجلة "التايمز" الاميركية منذ سنوات ب"جوهرة البرازيل السوداء"، قائلة بأنه "اكثر كتّاب اميركا اللاتينية مبيعاً". لكن هذه الاخفاقات لم تحد من شهرته ككاتب موسوعي ينطلق من الواقعية اطاراً لفكره الانساني. فجميع كتبه ترجمت الى معظم لغات العالم. اكثر من خمسين لغة ومرآة هذه الشهرة هي فرنسا، وباريس تحديداً، حيث تترجم اعماله الى الفرنسية قبل ترجمتها الى اللغات الأخرى، ما حدا به الى القول متندراً ذات مرة: كتبي تنشر في باريس قبل ان تنشر في لشبونه! غير ان اخفاقه الكبير الذي آلمه طيلة عمره المديد هو تراجع الحرية والديموقراطية في بلاده. وهذا يعني ان الاوضاع الاجتماعية المزرية سوف تتواصل الى اجيال وأجيال. الشخصية الفذة تميزت شخصية جورجي آمادو بالجرأة والصدق في معالجة الاوضاع الاجتماعية التي تئن منها الطبقات الفقيرة في البرازيل، من خلال نهج الواقعية في الأدب. ففي روايته "المحصول الاحمر" يروي في جزئها الاول "دروب الجوع" معاناة جميع الفلاحين المطرودين من اراضي الاقطاعي - العقيد - الذي يمتلك كل شيء، وفي مواجهة الجفاف يتخلى عنهم، مسلماً اياهم لمصيرهم المجهول في ارض وعرة لا ماء فيها ولا زرع عرضة للموت بأنياب الافاعي والجوع. في هذه الرواية اكد جورجي آمادو التصاقه بالشعب البائس الذي ينتمي اليه، كمواطن من ولاية باهيا، قاعدة الفقر والتخلف في شمال البرازيل، وكان ابوه رجلاً عادياً يؤمن قوت اولاده بشق النفس ككل مواطن فقير. وكانت امه هندية الاصل، اي انه لم يكن ابيض كاملاً، فهو لا يخلو من التهجين، كأي خلاسي في البرازيل. وهذه الجذور ذات اثر راسخ في كل مؤلفات هذا الكاتب. ومن اليسير ان يلاحظ القارئ تعاطفاً بيّناً مع ابطاله الفقراء كما في روايته "الولد ابن المدينة" و"تريزا باتيستا متعبة من الحرب" و"غابرييلا: قرنفل وقرفة". فهو على الدوام في موقف المدافع عن تصرفات هؤلاء البائسين، حتى في اخطائهم السلوكية، فيجد لهذه الاخطاء تسويفاً. فالولد ابن الشارع الملقى به في هاوية الضياع والتشرد معذورة في كراهيته للمجتمع. وتريزا باتيستا الفتاة الجميلة المباعة لسيد متوحش يمارس عليها الاغتصاب والأذى الجسدي، لا جناح اذا وقفت من المجتمع موقف شك وعداء. وغابرييلا الفتاة الريفية التي يتناوب عليها "السيد"" وأبناؤه الشبان، لقاء لقمة العيش، لا جرم عليها لو كررت اخطاءها مع العربي نسيب الذي أواها في بيته وتزوجها. انها مثل جميع ابطال رواياته ضحايا مجتمع باغ لا يقيم وزناً لامتهان كرامة الانسان الفقير، وهو ما بيّنه بجلاء حيث آثر الصدق في التعاطي مع شرائح المجتمع. فلم ينفث كراهيته على ابناء الطبقة العليا لمجرد انتماءاتهم السياسية، كان يتبيّن نزعات الخير والدفء الانساني في اي كائن ولو لم يمتّ الى شريحته الاجتماعية، كما في تعاطيه مع "موندينيو" الثري القادم من الريو الى باهيّا والذي حارب الشر والتخلف المعششين في رؤوس ابناء الطبقة القديمة المتحكمة في مصائر الناس. لقد تكلم المؤلف عن هذا الثري التقدمي في رواية غابرييلا بحب بالغ، من يغر ان يتقيد بيساريته المتزمتة التي ترى في غير الكادحين اعداء طبقيين. وهذا ما يلمسه القارئ في اعمال جورجي آمادو وليس في "غابرييلا" فقط. فبطل رواية "تيريزا باتيستا متعبة من الحرب" الذي يحظى بحب بطلة الرواية واحترام مؤلفها هو ثري يملك مصنعاً للسكر ومزارع شاسعة. والكاتب لم ينظر اليه بعين ماركسسية، بل بعين انسانية. وهذه فضيلة الصدق في التعاطي مع الفكرة الادبية. وتبدى اخلاصه لصدقيته حينما اثيرت ضجة كبرى على بوريس باسترناك مؤلف رواية "دكتور جيفاغو" لتهجّمه على ثورة اكتوبر البلشفية. سئل آمادو عن رأيه في هذه الرواية ومدى اهليتها لجائزة نوبل في الأدب. فقال وهو الماركسي المعروف: "ان الرواية عمل فذ وجديرة بجائزة نوبل". وهذا بدوره يؤكد ايثار الكاتب الراحل الصدق والحساسية الشفافة من خلال الواقعية كنهج في الكتابة الروائية، مخلصاً له في كل اعماله المميزة والتي قيل عنها انها الروح البرازيلية التي عمّت العالم مع السامبا والقهوة. كان دائماً في كتاباته واثقاً من توافر الوحدة والتكامل لدى الشعب كطبيعة خاصة فيه، وأيضاً كميزة في شخصيته. وتجلى هذا اكثر عمقاً في تبشيره بحقيقة طاقات الشعب في المقاومة ضد البؤس والظلم. فظهر ما كشفته رواياته: "جوبيابا" 1932 و"بحر ميت" 1936 و"قباطنة الرمال" 1937 وهي روايات موسومة بالاحتجاج الاجتماعي ضد الشقاء والقهر بأسلوب شاعري قريب من اسلوب الملاحم الأدبية. قيل فيه عند صدور روايته "غابرييلا": ان عالم جورج آمادو مزدحم بالناس والأشياء، زاخر بالافكار والاحلام، والسياسة والعلوم والآداب والفنون، كلها عالمه المضيء بالنفس البشرية، بالروح المتوثبة نحو الاستقرار الذهني. ورسالته في الحياة ان يكتب عن جميع الناس وكل الاشياء وقد توحد عنده الناس والموجودات فإذا هو عالمه الرحب. ولإنماء هذا العالم الرحب، في وجدانه على الاقل، تخلى جورجي آمادو عن السياسة لأنها حالت بينه وبين الكتابة. ويقول في هذا الصدد قررت التخلي عن النشاط السياسي كنائب، وأخذت اخوض المعارك السياسية من خلال الكتابة. فالكتابة اهم ما في الحياة. واليوم يعود ابن بلدة بيرنجي في ولاية باهيّا التي غادرها وهو في طور المراهقة، جثماناً في موكب مهيب حيث يتبارى الكبار والصغار من اهل السلطة في تمجيده، على رغم تحفظه عليهم طيلة حياته، لأنهم كما يقول: "الحالمون بأمجاد اثينا الخالدة، المتجاهلون لمآسي الشعب البرازيلي المحروم حتى درجة الجوع...".