غريب افتقاد الولاياتالمتحدة حس "العدل" الذي تربّي عليه أطفالها كلما تناولت الإدارة أو الكونغرس القضية الفلسطينية. والأغرب تغيب الطرح العربي، على أساس العدل، عن ساحة العلاقات العربية - الاميركية بين العرب والاميركيين. وهذا جزء من شواذ العلاقة. لكن افتقاد الطرح العربي القدرة، أو الاستعداد، لقراءة متمعنة في فكر التفكير الاميركي واسلوبه ساهم في قيام نوع من "حوار الطرشان"، يضاف الى علاقة تفتقد اساساً التكافؤ في الاحترام ورعاية المصالح، الوطنية منها والمتبادلة. وافتقاد السياسة الاميركية حس العدل نحو القضايا والطموحات العربية يكفّنها بعداء لأميركا هو ايضاً ليس في المصلحة الوطنية أو المتبادلة. لذلك، هناك حاجة لمراجعة العلاقة الاميركية - العربية من الجانبين بكل واقعية وبجرأة على العدل مع الاستفادة من تجارب سابقة في السياسة الاميركية نحو المنطقة. توجد صفحة مهمة في هذه التجارب في وصف تحليلي للمفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية في كامب ديفيد الثانية العام الماضي، عرضها روبرت مالي وحسين آغا تحت عنوان "كامب ديفيد: اخطاء مأسوية"، نشرتها "الحياة" باتفاق مع "نيويورك ريفيو أوف بوكس" في 20 تموز يوليو الماضي. روبرت مالي كان أحد أعضاء فريق السلام الاميركي الذي شارك في القمة بصفته مساعداً للرئيس بيل كلينتون للشؤون العربية - الاسرائيلية من 1988 حتى 2001. وآغا زميل مشارك في كلية سانت انتوني بجامعة اوكسفورد، وهو فلسطيني يتابع الشؤون الفلسطينية - الاسرائيلية. اللافت في هذا العرض المفيد تسليطه الأضواء على الفكر الاميركي واسلوبه في التوسط أو التفاوض أو الرعاية على أعلى المستويات. واللافت ايضاً هو ذلك الانفصام وعدم القدرة على فهم لغة الآخر بين الطرفين الاميركي والفلسطيني. الواضح في ذلك العرض ان العلاقة بين الرئيس الاميركي ورئيس الوزراء الاسرائيلي حينذاك، ايهود باراك، تبين الخلل الجذري في الادوار التي تريد اميركا لعبها في الساحة العربية - الاسرائيلية، من الوسيط لاتفاق سلام الى راع لعملية سلام، بتقاطع مع دورها كحليف استراتيجي لتل ابيب. فباراك أخذ ذلك التناقض في الأدوار الى عتبة جديدة بتعمده الاخفاء عن كلينتون وفريقه، ثم بالفرض عليه، التراجع عن تعهدات قطعها للرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ثم بتحويله الى وسيلة ضمن الاستراتيجية الاسرائيلية بدلاً من ان يمارس الرئيس الاميركي نفوذ الدولة العظمى، الراعية لعملية السلام والوسيط النزيه في المفاوضات. هذه ليست أول مرة تسير فيها اسرائيل السياسة الاميركية نحو المنطقة، عبر الإدارة الحاكمة أو الكونغرس. لكن ما حدث في كامب ديفيد، كما نقله مالي، يعطي معلومات مفيدة جداً عن العلاقة الاميركية - الاسرائيلية المعقدة جداً التي تتراكم فيها ما يسميه مالي "الصلة السياسية الثقافية" المنعكسة في "حساسية حادة إزاء المخاوف الداخلية لاسرائيل وتقدير مُبالغ فيه لخطوات اسرائيل الفعلية". فاسرائيل تشكل مسألة داخلية للولايات المتحدة، فيما تخشى الإدارة دائماً، كما الكونغرس، من ان "تتدخل" في السياسة الداخلية الاسرائيلية. فمثلاً، حينما لمح باراك الى انه قد يوافق على تقسيم "المدينة القديمة" في القدس بسيادة فلسطينية على كثير من الاحياء العربية، فوجئ المسؤولون الاميركيون في البداية في رد فعل، وصفه مالي وآغا، بأنه "لم يكن يعكس تقويماً لما ينبغي ان يكون حلاً عادلاً بقدر كونه تقديراً لما يمكن ان يتحمله الرأي العام الاسرائيلي". ويضيف مالي وآغا: "وتساءل الفريق الاميركي في أحيان كثيرة: هل يستطيع باراك الحصول على تأييد شعبه لاقتراح معين، بما في ذلك اقتراحات قدمها هو بالذات؟"، وتابعا: "هذا السؤال نادراً ما طُرح في شأن عرفات". والسبب هو ان الرأي العام الفلسطيني، والعربي عموماً، مهمش في الذهن والفكر الاميركيين، سوى في اطار "الاحتواء" انطلاقاً من النظرة الاساسية للقادة العرب باعتبارهم في عداد "الديكتاتورية" و"السلطوية"، والنظرة للرأي العام العربي باعتباره مجرد "شارع" و"قطيع". وعلى أي حال، البوصلة التي تستخدمها الجهات الاميركية الرسمية والاعلامية للتعرف على الرأي العام الاسرائيلي نفسه تشوه الحقائق وتستند الى افتراضات يمليها القادة في الحكم. حقيقة الأمر ان العلاقة الاميركية - الاسرائيلية مركبة وغير طبيعية اذ ان "الإبن المدلل" يرفض أول ما يرفض دور الأبوة، ويتطاول بغطرسة، ويتبنى استراتيجية الاخفاء وعدم الكشف عما لديه، فيما يفرط الراعي الأب في المراعاة والرعاية لدرجة افتقاده الهيبة والنفوذ، ليصبح أداة في سياسات يسدد نفقاتها ويدفع ثمنها. والثقة تكاد تغيب تماماً بين الطرفين في هذه العلاقة المركبة غير الطبيعية. وهنا مثال عرضه مالي وآغا: باراك كذب على كلينتون أكثر من مرة وورطه في أكثر من مناسبة. وعندما تراجع عن التزامه نقل القرى المقدسية الثلاث الى السلطة الفلسطينية - الالتزام الذي نقله كلينتون الى عرفات بتخويل من باراك وقدمه ايضاً باسم الرئاسة الاميركية - أثار ذلك أشد الغضب من كلينتون، وقال انها المرة الأولى التي يظهر فيها أحد بمظهر "النبي الكاذب" أمام زعيم اجنبي. ويضيف مالي وآغا انه في احدى مراحل كامب ديفيد، حينما تراجع باراك عن بعض مواقفه تفجرت لدى كلينتون احباطاته المتراكمة وقال: "لا استطيع ان أذهب الى عرفات بهذا التراجع! اذهب انت لأنني بالتأكيد لن أفعل. هذا ليس حقيقياً أو جدياً! ذهبت الى شيبردزتاون للمفاوضات السورية - الاسرائيلية ولم اسمع منكمك شيئاً طيلة أربعة أيام. ذهبت الى جنيف للقمة مع الرئيس الراحل حافظ الأسد وشعرت وكأنني هندي أحمر خشبي أنفذ أوامرك! لن أسمح بهذا هنا". إلا انه سمح. ورضخت الولاياتالمتحدة مرة اخرى، وانصاعت وسارت في الخطوات التي رسمها باراك وخطط لها. بل ان بيل كلينتون خان عرفات بعدما وافق على شروط حددها الرئيس الفلسطيني قبل فرض قمة كامب ديفيد عليه، وخان تعهده الذي تطوع به بأن تبقى الولاياتالمتحدة على الحياد في حال فشل القمة وعدم تحميل عرفات المسؤولية. قال له: "لن يشير أحد باصبع الاتهام" ثم انقلب عليه ووجه كلينتون أصبع الاتهام في وجه عرفات! ضمن ما تبينه مقالة مالي وآغا ان الروايات المتواترة عما جرى في قمة كامب ديفيد وبعدها، والتي قننت اللوم في الساحة الفلسطينية على اساس انها "ركلت" عرضاً "سخياً" وحمّلت عرفات مسؤولية الفشل، اختلقت هذا الانطباع لغايات سياسية، منها نسف عرفات كشريك للسلام، ولتبين ايضاً كيف ان "هذا العجز عن ادراك العلاقة المعقدة بين واشنطن وتل ابيب كلف عرفات ثمناً باهظاً". ذلك ان عرفات لافعته شكوكه بتكتيكات باراك الى التركيز على كشف "الحيل" المحتملة أكثر بكثير مما على القضايا الجوهرية. "أي ان تخوفه من الفخاخ منعه من رؤية الفرص الممكنة"، وبعدما قضى نحو عشر سنين في تنمية علاقاته مع واشنطن "أظهر عجزاً في استعمال تلك العلاقات عندما كان في أشد الحاجة اليها". هذه ظاهرة تكاد تكون القاعدة عند القادة العرب، ظاهرة العجز في استعمال العلاقات مع الرؤساء الاميركيين. وأول ما ينساه هؤلاء القادة ضرورة احياء حس العدل لدى المسؤولين الاميركيين بمنطقية وواقعية واصرار، وبإحياء متعمد لتلك العاطفة وذلك المبدأ الذي تربي اميركا أولادها عليهما. ما يفوت القادة العرب، كما فات القيادة الفلسطينية، هو ان كشف الوقائع على نسق ما دار في كامب ديفيد، وما تبعه في طابا على الصعيد الفلسطيني، أو ما جرى في شيبردزتاون وفي جنيف على الصعيد السوري، مفيد للطرح العربي. حساسية العرب من الشفافية تعميهم عن فوائدها، وتعلقهم بالسرية يجعلهم عرضة لروايات تُحاك على حسابهم وصدقيتهم. فإذا أضيف الى ذلك عجز المسؤولين العرب عن فهم لغة السياسة الاميركية ونوعية العلاقة الاميركية - الاسرائيلية، ازدادت الفجوة اتساعاً في العلاقة الاميركية - العربية. لذا فالمراجعة ضرورية. أولى حلقاتها المتواضعة هي في العمل على ربط لغة المصالح بلغة الفهم والتفاهم. فليس عيباً ان تقوم لغة المصالح بين الدول. الخطأ هو في قيامها كمصالح مالية أو نفطية أو اقتصادية أو أمنية أو "أنظمية" بموازين الانصياع. ذلك ان الانصياع العربي للولايات المتحدة، وانصياع المؤسسة الاميركية السياسية لاسرائيل، يعنيان عملياً انصياع العرب لاسرائيل برغبتهم. ولهذا يضج الغضب في "الشارع" العربي الذي يُطل عليه القادة الاميركيون والعرب بين الحين والآخر. لهذا، يوجد خلل جذري في العلاقة بين الرأي العام العربي وبين كل من الحكومات العربية والولاياتالمتحدة. اميركا لن تستفيق فجأة لتقرر ان الوقت حان لمراجعة جذرية لسياساتها نحو المنطقة التي لها معها علاقة ود وكراهية وارهاق. هذه منطقة مُتعبة ومثقلة تتمنى الولاياتالمتحدة لو لم يكن لها مصالح نفطية فيها ولا اسرائيل. الصين، بصعوبتها وعقدها، أسهل على اميركا من الشرق الأوسط، لأنها أوضح وتحسن احتراف لغة المصالح بأوجهها المتعددة بصراحة وبإصرار على التكافؤ والاحترام. لدى المنطقة العربية كل الموارد الطبيعية والطاقات التي تمكنها من التحدث بتلك اللغة. غريب حقاً كيف تختار موقعها الحالي الذي يؤدي بها الى المزيد من الانحطاط والتآكل والانصياع بصياح التذمر. مدهشة هذه المنطقة العربية التي تقف شاهداً على بطش ارييل شارون بالفلسطينيين تحت الاحتلال وتطلق الشعارات والبيانات. هنا فكرة. بدلاً من انتظار دعوة الى البيت الأبيض بتهلف أو برجاء، أو بدلاً من رفض زيارة البيت الأبيض احتجاجاً على دعم اميركا سياسة اسرائيل، لربما من المفيد ان تطلب جامعة الدول العربية اجتماعاً مع الرئيس جورج بوش، اينما شاء، في عاصمة عربية أو في واشنطن، للبحث الصريح في العلاقة العربية - الاميركية بكل ايجابية ورغبة بتطويرها وتعزيزها، مع ايضاح المعوقات. القصد من مثل هذا اللقاء ليس جلسة لوم وعتاب وعداء وصراخ، وانما لمراجعة واقعية ومنطقية لأسس العلاقة العربية - الاميركية. لتكن دعوة للاستماع تنطلق منها لجان رسمية واخرى غير حكومية لتحسين لغة التفاهم والعمل على صيانة المصالح الوطنية والمصالح المتبادلة. لتكن دعوة عاجلة وواضحة وحاسمة، قد تتطلب أولاً اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية كتمهيد وليس كبديل. حان الوقت لترقية العلاقة العربية - الاميركية الجماعية الى مرتبة الاحترام والتكافؤ بدلاً من العلاقة القائمة على سرية العلاقة الثنائية. اميركا تحب الوضوح والحزم وتفهم لغة الاختلاف في الرأي والتأثير في الرأي الآخر. خلال الاسبوعين الماضيين "غسل" الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر الرئيس الحالي جورج بوش على سياساته وفشله في كل الملفات، ثم استقبله بوش في البيت الأبيض بكل تقدير واحترام في مناسبة لها علاقة بأمر وطني. إذ على عكس التقاليد العربية، النقد في اميركا ليس شتيمة، والصراحة عصب العلاقات الصحيحة. اميركا لا تفهم العرب لأن لغتهم السياسية معها على نسق العامية والفصحى باللغة العربية، لغة انفصام. حان الوقت لخطاب واحد مع الولاياتالمتحدة الاميركية، بهدف فهمها وإفهامها قليلاً من الضروريات.