اشتدت في الآونة الاخيرة حملات النقد ضد الشيخ يوسف القرضاوي بسبب اجتهاداته المخالفة لرأي البعض وبسبب ما يأخذه عليه البعض من عمل بفقه التيسير والتخفيف، وكأن الدين لا يستقيم إلا بالتشدد والغلظة. ان الهجوم على الشيخ يمثل نوعاً من الانتكاسة في الفكر الاسلامي ليس لأن القرضاوي لا ينطق عن الهوى أو لانه معصوم او لأنه يمثل ذروة الفكر الاسلامي الحديث فلا احد يدعي ذلك فهو بشر يخطىء ويصيب. وهناك من هو اعلم وأكثر حداثة منه. ولكن لأن هذا الهجوم هو هجوم على الاجتهاد ومشروعيته، وحق العالم المحصل لعلوم الفقه واللغة، والمتمكن من اليات الاجتهاد، ان يمارس حقه المشروع في فهم الدين. كما انه من حق الآخرين انتقاد اجتهاداته شرط ان تكون موضوعية علمية تقوم على الحجة والبرهان لا على السب والشتم. إن معضلة البعض وعقدتهم هو في كونهم لا يرون ابعد من الحدود الضيقة التي يعيشون فيها، ويتوهمون بأن العالم على شاكلتهم وان الاسلام الصحيح هو الذي يمارسونه وفقط. اما باقي الممارسات والاجتهادات فهي مروق. إن تحديد باب الاجتهاد والاقتصار على اجتهاد أئمة المذاهب الأربعة، كان من الاخطاء التاريخية، يضاف اليه محاربة التعددية الفكرية التي حصرت الاسلام في نموذج ضيق... فإذا اراد شخص ما، كالقرضاوي، ان يجدد في فهم الدين جوبه بالرفض علماً ان القرضاوي لم يخرج في اجتهاداته على المذاهب الاربعة، ولم يأخذ بالفكر المعتزلي او الامامي. والسؤال لماذا نرفض التجديد اذا كان المجتهد يملك الحجة والبرهان ومقدمات الاجتهاد وآلياته، سواء كان رجل دين ام عالم لغوي أو باحث اكاديمي. فالمسألة ليست دفاعاً عن إجتهاد القرضاوي وإنما عن حقه في الاجتهاد. وحديثاً اثيرت ضجة حول فتوى القرضاوي الاخيرة بجواز بقاء حديثة الاسلام مع زوجها الكافر وفق شروط معينه. وجاء الهجوم الكاسح باسم مخالفة الاجماع. والسؤال اي اجماع؟ وهل الاجماع حاكم على الدليل ومقدم عليه ؟ وهل يجب على المجتهد الذي قاده دليله الحاكم عليه ان يتنازل عن رأيه لأنه خالف الاجماع؟ كما ان الاجماع لا يكون حجة الا إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم. والمهم اي اجماع هذا، اجماع فقهاء الجزيرة ام النجف ام الشام ام مصر ام قم ؟ اجماع اهل المذاهب الاربعة ام إجماع الامامية والاباظية والاسماعيلية وغيرهم. ليس مهماً تبني فتوى القرضاوي الاخيرة او تأييدها لكن والحق يقال انه لامس بفتواه منطقة حساسة وغائبة عن الكثيرين. ويستغرب من كثير من الاسلاميين ونشطائهم هذا التناقض الصارخ... فهم يقولون ان "الاسلام هو الحل"، فأين هؤلاء عن المشكلات المستحدثة والقضايا المستجدة ومشكلات المسلمين في بلاد المهجر. فإن هؤلاء بعقليتهم الجامدة يقفون متكلسين حيال هذه المسائل. فأين الحل الذي يزعمون امتلاكه؟ وما يزيد الامور سوءً هو ترددهم وعدم تقديمهم الحلول بل وشنهم الحملات ضد المجتهدين المجددين. ان من يدعي الحرص على الاسلام يجب ان يطور نفسه ويفتح آفاقه ويوسع مداركه وأن يقرأ النص قراءة حضارية علمية تتناسب مع تطور المجتمعات البشرية والا فإنهم سيقدمون نموذجاً قاتماً عن الاسلام يتناسب مع عصر القرون الوسطى. ويذكر في هذا السياق ان القرضاوي ليس الوحيد الذي افتى بجواز بقاء المسلمة حديثاً مع زوجها الكتابي غير المسلم... وهناك من فاق القرضاوي في إجتهاداته وقال بجواز ان تتزوج المسلمة من الكتابي إبتداء ولم ير اي ضير في ذلك. ليس مهماً صواب ام خطأ فتاوي القرضاوي بل مربط الفرس هو ان يواكب الاجتهاد روح العصر وسماحة الاسلام وان نتوجه لدراسة تطوير المجتمعات ومقاصد الشريعة ونفكر في الدين بوصفه نظاماً إجتماعياً عاماً وليس بوصفه فقه افرادٍ متناثرين. فالحياة تتسارع باطراد والزمان يجري من دون توقف وما لم يكن الاجتهاد مواكباً للعصر وروح الاسلام. ستتضاعف المشكلات وسيكون على الاسلام السلام... لا لضعف فيه بل لتخلف في فهمه واستلهام احكامه. وبانتظار فقهاء اكثر سعة واكثر تحرراً، فالقرضاوي وحده لا يكفي ولن يكفي لأنه فرد ولأنه يظل محكوماً بكثير من التعقيدات الاجتماعية والفكرية. * كاتب سعودي.