الرحلة ما بين محطتيّ "ريتشموند" و"كامدن تاون"، اي ما بين غرب لندن وشمالها، ليست رحلة قصيرة ولا مُسلّية. فإذا ما دعت صروف الدهر المرء الى القيام بها خلال ساعتي الزحام صباحاً ومساءً، فلا مناص له من اللجوء الى تدبير ملائم للتغلب على مشقتها. ولعل الاستكانة الى خزانة الذكريات هو التدبير الذي آثره الكاتب الفلسطيني ربعي المدهون. وعلى ما يوحي تمهيد أو نهاية كتابه "طعم الفراق" الصادر حديثاً المؤسسة العربية للدراسات والنشر، فإن هذا الكتاب انما ابصر النور خلال تلك الرحلة التي كُتب عليه القيام بها يومياً ما بين البيت والعمل. بيد ان الكاتب سرعان ما يتجاوز هذا الإيحاء ليعلن، بلغة صريحة مباشرة، ان ما هو مزمع القيام به مشروع متعدد الطموحات مختلفها. فهو لا يكتفي بسرد فصول من الذكريات ينتظمها سياق كرونولوجي- حتى وان كان هذا معظم الكتاب ومسوغ استوائه ككتاب اصلاً - وإنما يطلعنا على وعيه الذاتي لعملية الكتابة سواء تعلق ذلك بحيرته في العثور على بداية ملائمة أم بلحظة أو كيفية إقباله على سرد ما يسرد، او حتى معرفة رأي المقربين اليه بما قيّض له إنجازه. وبكلمات اخرى فإن الكاتب لا يسوق سرداً لسيرته الذاتية وحسب وانما ايضاً "ميتا-سرد"، اذا جاز استخدام هذه الترجمة لمصطلح متواضع عليه في وصف العملية المذكورة. ومثل هذه الخطوة، اي اللجوء الى "ميتا-سرد" كأحد الابعاد الدرامية للقصة التي يروي، انما تنطوي على مقصد لا يُخفى لمجاراة دعاوٍ ادبية حديثة بما يجيز نسب هذا النص الى نصوص اخرى شبيهة لم تبرح تتمثل الدعاوى الحديثة بهذا المقدار من النجاح او ذاك. ومن الواضح ان "طعم الفراق" مما يمكن نسبه الى جملة من الكتابات الفلسطينية التي ظهرت في ما بعد "أوسلو" لكي تروي بإسلوب تسجيلي او قصصي، او بخليط من الاثنين، قصة ما جرى في الماضي، إنطلاقاً، بل وفي مواجهة، اللحظة الحاسمة المتمثلة بمفاوضات "اوسلو"، وما انجلت عنها من اتفاقات أسفرت، من ضمن ما اسفرت عنه، إعلان موت جملة من التصورات والمسلمات بشأن التاريخ الفلسطيني صير الى الركون اليها على مدى عقود. وأحسب ان "طعم الفراق"، شأنه في ذلك شأن "منازل القلب" لفاروق وادي و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي و"نهر يستحم في البحيرة" ليحيى يخلف و"باب الشمس" لإلياس خوري، إنما يحاول ان يسوق تاريخاً فلسطينياً ينطلق من الجزئي والفرديّ الى العام والشامل. غير ان عين المؤلف تقع على رواية الياس خوري، دون غيرها من الاعمال المذكورة، كمثال ودليل عمل. فلا يخفي المدهون أمله بأن يكون كتب رواية "الجنوب الفلسطيني"، أسوة، ومقابل، رواية خوري التي هي "رواية الشمال الفلسطيني" بحسب تقديره. فشأن خوري الذي "لملم الحكايات من أفواه أبطال النكبة، وسجلات ضحاياها الذين عاشوا وعانوا قسوة الرحيل عن مدن الشمال عام 1948"، فإن مؤلف "طعم الفراق"، يستعين بذاكرة والدته فضلاً عن مصادر شفوية ومكتوبة اخرى ليقدم عملاً أدبياً يجمع بين السيرة الذاتية والتاريخ، بين التسجيلي والدرامي. وليس من المستبعد ان الأمل بكتابة عمل ادبيّ يضاهي رواية خوري "الاديب اللبناني المرموق"، بحسب تعبير المدهون وتقديره، هو الذي حثه في إحدى المرات لأن يعير صوت الراوي في كتابه الى والدته، مسجلاً كلامها تسجيلاً حرفياً. بل هو الذي يحضه على الجهر بما أولى الشكل الادبي المتوخى من تقليب نظر وتفكير. فكشف تقنية السرد المتبعة، وهي "اللعبة" التي برع الياس خوري فيها، وإن ليس في الكثير مما عداها، هي الغاية الكامنة خلف كشف سرّ اختيار المؤلف لمقطوعات الجاز الموسيقية مثالاً لفصول كتابه: "ذلك ان كلاً من هذه الفصول يعد مقطوعة متمايزة في تراكيبها تماماً، تجمع عناصر درامية وأحداثاً وشخصيات ومفاهيم مختلفة ومتنافرة وحتى مناقضة بعضها لبعض ومتناقضة مع بعض، يؤدي كل منها دوراً مختلفاً ولكنها تعود وتتآلف في إطار متناسق، وتندفع مشكّلة، او هكذا حاولت ان اجعل منها، وحدة متماسكة تحت عنوان يحميها من اعتداء غيرها من العناوين". كلام رائق وطموح معقول، فما النتيجة إذاً؟ لستُ خبيراً في تأليف موسيقى الجاز، او أية موسيقى، ولا أدري الى أي حد أفلح الكاتب في تبرير الأصوات المتنافرة الواردة في كل فصل بما يتوافق ومقطوعات الجاز المستَلهَمة، غير انني لا اظنه افلح في النهاية في تكريس التوازن المطلوب على مستوى بناء السرد العام لكتاب "طعم الفراق". يتكوّن الكتاب من 13 فصلاً، او "مقطوعة" على ما يرتأي المؤلف، تتوزع على أربعة أجزاء، كل جزء منها يمثل محطة انتقال مهمة في سيرة الكاتب الذاتية وأيضاً في التاريخ الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى نهاية عقد السبعينات. فتكتسب سيرة المؤلف رخصة التوجه الى القراء باعتبارها شهادة عامة الطابع والاهتمام من خلال الصلة التي تربط السيرة الذاتية بالتاريخ. ومستنداً الى ما في حوزته من كتب تاريخ، فإن الكاتب في بعض المناسبات لا يتورع عن إتباع نهج المؤرخ عوضاً عن راوي السيرة. وأبعد من ذلك فإن المدهون في توسله لغة توراتية الاستلهام في مطالع بعض الفصول والأجزاء إنما يبدو كأنه ينوي كتابة "سفر التشرد الفلسطيني" في ضوء ما شهده وعاناه هو والمقربون اليه. كل هذا طموح، او طموحات، لا غبار عليها لو ان الكاتب استوفى، في النهاية، شروط تحققها. وعلى ما سبق وأشرنا فإذا كان الكاتب قد أفلح، من خلال محاكاة بناء مقطوعة الجاز الموسيقية، في جمع عناصر متنافرة في سياق فصل متوازن ومتماسك، فإنه ما انفك اقل نجاحاً في ما يتصل بكل الفصول مجتمعة، اي بالنصّ عامة. فالصلة المعوّل عليها ما بين الذاتي والعام ليست متوافرة في الكثير من الحوادث التي يروي. فيتوغل الراوي في ما هو خاص وذاتي الى حدّ ان يروي لنا حكايات قد لا تعني سواه وبعض المقربين اليه حكاية المدائح التي أغدقت عليه في طفولته بسب خطه الجميل، او حكاية تعرفه الى لعبة "عريس وعروس"..الخ. الى ذلك فإن الكاتب لم يضمن التكافؤ المطلوب في استخدام مستويات السرد المختلفة. ففي بعض المناسبات تراه يسوق السرد على نهج المؤرخين، غير انه في مناسبات اخرى شبيهة تراه يحجم عن فعل ذلك. اما توظيفه للنثر التوراتيّ النكهة فينمّ في البداية عن محاولة مخلصة للإرتقاء بما يُروى الى خلاصة اسطورية تعلو على سياق الحوادث التاريخية، او الفعلية. غير ان هذا التوظيف ينقلب في النهاية الى ما يشبه المحاكاة الساخرة حيث الغرض ليس الارتقاء بالحادثة الفعلية الى مستوى لغة الاسطوري أو المقدس وانما الهبوط بلغة هذا الاخير الى ما هو عاديّ، بل ومفرط في عاديته: "وتحب اديبة ابنة عم المؤلف وتحبك. تحبو عواطفكما على اربع... تمشيان نحو الخطيئة الاولى ولا تخطئان، من الشجرة لا تأكلان. مكتوب لك، مكتوب لها، وينعقد القران. على ابنة عمك ينعقد القران...". مثل هذا الخلل الظاهر في بناء السرد يُحيلنا الى نزاع في النص أعمق ما بين عاملين او تقنيتين، شفويّة ومكتوبة، واحدة تولد من تلقاء نفسها والاخرى يُصار الى استيرادها بغية دفع شبهة التقليد عن النص. ف"طعم الفراق" نصّ متأصل في ما هو شفويّ. والكاتب يبدو أوسع خبرة وأصدق في سوق السرد كأداء شفويّ الطابع. فهو شديد البراعة في ضبط الحوار باللهجة العامية - بل اللهجات العامية، الفلسطينية والمصرية والسورية والعراقية من لهجات البلدان التي تنقل ما بينها. وتصل براعته في استخدام العامية الى حد انه لا يقصر استخدامها على الحوار نفسه وإنما يمررها في سياق الخبر على وجه عفويّ مستلطف. بل وتصل غلبة نزعة الشفويّ في بعض الاحيان الى حدّ يصير السرد أشبه بمحض أداء صوتيّ. مثل هذا الامر نراه في مظهرين يتجلى القارئ في ضوئهما اشبه بمستمع يصغي مباشرة الى ما يقوله الراوي: الاول حرص الراوي على تسجيل، او محاكاة الاصوات التي يذكر او يشير الى وقوعها. ولا نعني بذلك الكلام الشفوي الذي ينطق به الشخصيات فحسب وإنما أصوات الأغاني والمواويل والدلعونا والزغاريد، بل وأيضاً أصوات الجماد. ويحفل النص بمحاكاة أصوات من قبيل "تررتتتتا" و"هييييه" و"أُخخخخخ" و"أيووووه" و"لولولولو" و"طاااط، طاااط، تر بتة.." و"تززززز سسسزززز تاطشت"، وهذا الاخير صوت المنشار الكهربائي. اما المظهر الثاني فيتمثل في النزعة البارزة للتوجه الى قارئ، او حتى، جمهور قراء صغير، معروف من الكاتب. فلا يكتفي المدهون بإفتراض وجود قارئ او متلقٍ ما، غير محدد الهوية، وإنما يروي كمن يخاطب سامعاً يجلس أمامه، يفتح له قلبه ويشاطره هموم الكتابة ويودعه أسراره، ثم لا يني في النهاية يمحضه تحية الوداع على أمل اللقاء به في الجزء الثاني الذي، على ما يعدنا، سيستأنف فيه سرد ما جرى بعد وصوله الى بيروت في أواخر السبعينات. وأحسب ان مرد هذه الإلفة الزائدة تجاه القارئ حقيقة توافر حلقة قراء فعلية تطّلع على ما افلح الكاتب في إنجازه، تناقشه فيه وتشجعه على المضي. وحلقة القراء هذه إنما تتكوّن من زوجة المؤلف وأصدقائه، وهي تبدو موجودة في الكتاب وجود شخصيات القصة الاخرى. لو كان الكاتب أعار اهتمامه الى حقيقة غلبة الطابع الشفوي على الحكاية، مدرجاً إياها في سياق سرديّ مكافئ لشروط استوائها، لكنا من دون شك أمام قصة مؤثرة ومشوقة. والأهم من ذلك، لكانت ضمّت الكثير مما صير على الدوام الى استبعاده من الأدب الفلسطيني المعهود. فحيث ان الكاتب ينهل من معين شفوي، من دون ان يخضع ما ينهله الى معايير ايديولوجية مسبقة التصوّر، فإن "طعم الفراق" تحمل الكثير من القصص والنوادر المتداولة على المستوى الشعبيّ وفي المجالس الخاصة مما لم يُكتب في سياق الأدب الفلسطيني من قبل. أعجبني كثيراً نعته لمسؤول سياسي فلسطيني ك"مشروع مستحيل لاحترام الرأي الآخر". غير ان الكاتب، وخشية ان يُتهم بالتقليدية، على الأرجح، أصرّ على توسل تقنيات الأدب المكتوب الحديثة بما تسبب في نزاع ما بين الشفوي والمكتوب أودى بتماسك القصة وذهب بقوتها. فمن خلال إقحام الراوي ذاته الواعية على سير القصة، وتوسل أكثر من مستوى سرديّ واحد، واستلهام نثر توراتي، هذا ناهيك عن تعمّد استخدام مسحنات بلاغية غريبة الوقع من قبيل "تعجن كلماتها بذكريات أيام البلاد"..الخ، فمن خلال ذلك وغيره صير الى إرهاق القصة والحؤول دون إنطلاقها على سجيتها حكاية شفوية الطابع، تلقائية الإنسياب تصلح لأن يتعرف القارئ من خلالها على ماضي الكاتب وعلى المسافة الفاصلة ما بين ذلك الماضي وغرب لندن وشمالها حيث يرتحل يومياً ما بين البيت والعمل. وفي أقل تقدير تصلح كقصة لسامع يرغب في التغلب على مشقة الرحلة ما بين محطتي ريتشموند وكامدن تاون.