في محاضرته التي نظمها الملتقى السردي بنادي المنطقة الشرقية الأدبي تناول الناقد أحمد سماحة مصطلح المروي له باعتباره بنية أساسية في المكون السردي، لا شخصية مهمشة كما يعتبرها البعض من النقاد. وقد بدأ سماحة محاضرته قائلاً: إذا كان الراوي أو السارد قد حظي بمساحة واسعة من الاهتمام في إطار الدراسات النقدية الحديثة وغيرها فإن المروي له قد حظي في المقابل بتجاهل واسع، جعله يقبع في دائرة الظل طويلاً إلى أن نفض عنه الغبار (جيرار جينيت) عبر إشارة سريعة في دراسته (خطاب الحكاية) ليتلقفها الكاتب والناقد الأمريكي (جيرالد برنس) في دراسة له بعنوان (مقدمة لدراسة المروي له في السرد - 1973م. وأشار المحاضر إلى أنه كثيرا ما لمسنا في النقد الحديث خلطاً بين المروي له من جهة وبين القارئ الضمني من جهة أخرى، وهذا الخلط وقع فيه العديد من النقاد والباحثين أمثال رولان بارت وتودروف وغريماس وحتى جينيت قبل دراسته خطاب الحكاية، وأيضاً العديد من النقاد العرب، وكمثال لما طرح قدم لما قاله بارت في دراسة له عام 1966م عن آلية التواصل السردي: (نعرف أنه يفترض داخل التواصل اللغوي كل من ضمير المتكلم (أنا) وضمير المخاطب (أنت) من طرف بعضهما بشكل مطلق. ولا يمكن بالطريقة نفسها أن يوجد محكي بدون سارد ودون مخطاب أو مستمع أو قارئ). وفي نفس السياق ما قاله تودروف: (إن العمل الأدبي هو خطاب في الآن نفسه إذ يوجد سار يروي وفي مواجهته قارئ يتقبل ويهتدي) ويستطرد سماحة قائلاً: إذا كان الراوي أو السارد هو الذي يروي أو يسرد المحتوى السردي فإن المروي له هو الشخص الذي يوجه له السرد داخل النص. ويرى أن كل مرسل لا بد أن يكون قد خضع لوضعية التلقي قبل أن يمارس الإرسال، وهنا تكون علاقة المرسل (الراوي) والمتلقي (المروي له) داخل النص شديدة الشبه بعلاقة الكاتب (المؤلف) والقارئ خارج النص فالراوي يرسل في إطار سياق له شفراته الخاصة في حين يقوم المتلقي بالاستقبال وفق سياق له شفراته الخاصة مما يضيء النص ويكشف التواطؤ القائم في العالم الذي يعيش فيه كل من المرسل والمتلقي حسب د. عبد الله إبراهيم في دراسته التلقي والسياقات الثقافية. ولعل إعطاء الأهمية التي يلقاها الراوي في الدراسات النقدية للمروي له تقودنا للنظر إلى النص على أنه بناء مغلق على الراوي والمروي له، فوجودهما قار في النص وليس خارجه إذ هما شخصيتان داخل نصيه، يجب كما يقول (برانس) تناولهما بحذر حتى لا يختلطا بغيرهما مع الشخصيات الأخرى، وكما لا نخلط بين المؤلف والراوي علينا ألا نخلط بين المروي له والقارئ. ويضيف سماحة قائلاً: وإذا كان ليس من حق الراوي أن يؤول وإنما من حقه أن يحكي فإن المروي له هو الآخر لا يؤول وإنما يتلقى الحكي. وفي سياق حديثه أكد المحاضر أن في استطاعة أي دارس أيا كانت درجة معرفته بالنوع السردي أن يميز بين الرواية وبين كاتبها ويعرف الفارق بين شخصية مارسيل في (البحث عن الزمن الضائع) وبين المبدع (بروست) وبين (السوادي) في (الموت يمر من هنا) وبين عبده خال وبين (منال ووفاء وهيفاء) في (ترياق) وبين أميمة الخميس. وأرجع عدم اهتمام النقاد بالمروي له إلى هيمنة شخصية الراوي الذي غالباً ما يكون الشخصية الرئيسة أو المهيمنة في السرد في حين لا يجد المروي له موقعاً سوى التلقي والإذعان بلا بطولة. وبرغم أنه يمكن تناول قضايا عديدة في السرد من زاوية المروي له نجد أنها درست من زاوية رؤية الراوي وبذلك نفقد جانباً هاماً من جوانب إضاءة النص السردي وحتى ونحن نقرأ عن مكونات السرد في الكتابات التي تناولته عالمياً وعربيا نفتقد عنصر المروي له رغم أن الشخص الذي يروي الحكاية والشخص الذي تروى من أجله يعتمد كل منهما على الآخر بطريقة أو بأخرى في أي سرد. وقدم سماحة مثالاً توضيحياً قائلاً: إن البعض تطرق إليه وهو ألف ليلة وليلة التي تقدم رؤية جيدة لإضاءة مفهوم المروي له، فشهرزاد كان يجب أن تمارس دورها في الحكي وتجتهد كثيراً بوصفها راوية وإلا واجهت الموت، فحياتها تتوقف على الحكي وجذب انتباه شهريار إلى حكايتها. وشهريار هنا المروي له يقظ ومتنبه للسرد الذي إن لم يوافق مزاجه أو لامس معرفته السابقة فسيحكم على الراوية بالموت وينتهي السرد. العلامة وأضاف سماحة قائلاً: وفي كليلة ودمنة نرى بيدبا الفيلسوف ما كان له أن يروي من تلقاء نفسه وإنما استجابة لرغبة دبشيلم وهنا يرى المروي له مشاركاً للراوي في إنجاز المروي، فلولاه لما كان هناك سرد، فحضوره واضح في السرد إذ أنه يقترح في بداية كل فصل موضوع السرد. وفي أعمال معاصرة نلمس هذا الجانب وعلى الراوي الذي يواجه غالباً مأزقا ما أن يبحث عن نمط بعينه لمروي له يصغي ويستجيب والعكس صحيح أيضاً إذ يبحث المروي له عن راوي يمتلك القدرة لأن حديث الأنا هو عمق لخطاب الأنت. وضرب مثالاً بمجموعة الترياق لأميمة الخميس أيضاً إذ اكتشف أنه رغم غياب شخصية المروي له إلا أن ثمة إشارات من الراوي (امرأة) تؤكد وجود هذه الشخصية وأنها أيضاً مروي له (امرأة) وجغرافية النصوص السردية يتماهى فيه الراوي بالمروي له. والمروي له شأن داخلي فهو يتلقى خطاب الراوي ويتوازى مع ما يسمى زمن الخطاب (زمن الكتابة والنص) وهو زمن آني داخلي وفي عنوان (منال) إحدى قصص الترياق ينتهي النص بانتهاء زمن الكتابة ويعني هنا توقف الراوي والمروي له عن فعل الإرسال والتلقي وإن تعلقا بزمن آخر مجهول هو زمن الانتظار. (وحتى كتابة هذه الأحرف مازلت بانتظار عنوان منال في بيروت) هكذا أنهت القاصة قصتها. الوظيفة حول العلاقة بين المروي له والقارئ الفعلي يقول أحمد سماحة: من واقع النمذجة النصية والدراسات العديدة التي توقفت طويلاً عن القارئ خاصة في نظريات الاستقبال التي تناولها العديد من الدارسين، سنلمح لرؤى وتفسيرات واختلافات ومصطلحات مربكة مثل: القارئ الفعلي، القارئ النموذجي، القارئ الذاتي، القارئ الملائم...) ورغم اختلافهم فإن ما يبدو موحداً لجميع هذه البنى هو وظيفتهم كقوة مضيئة فيما يخص العمل.. فالمخاطب (المستهلك أو المتلقي) لم يعد عنصراً هامشياً في العملية السردية وإذا تركنا كل ذلك وتوقفنا عند بعض السمات أو الطرق التي يختلف بها المروي عليهم عن بعضهم البعض أو يتحدون علينا الرجوع إلى مفهوم (الدرجة الصفر) من المروي له التي وضعها برانس. فالمروي له من هذه الدرجة ينبغي أن يعرف لسان الراوي ويكون لديه قابلية الإدراك النحوي.. وأن يكون قادراً على الاستنتاج الناتج عن المعرفة السابقة وقواعد إحكام الحكاية ويعرف أن للسرد بعداً زمنياً وأنه يحتم علاقة السببية، وهو يملك ذاكرة قوية فيما يتصل بأحداث السرد التي أخبر عنها والنتائج التي يمكن أن تترتب عليها، ويضاف إلى ذلك أن المروي له من الدرجة الصفر بلا شخصية أو سمات اجتماعية فهو ليس حسناً أو سيئاً وليس متشائماً أو متفائلاً، إنه لا يعرف شيئاً عن الشخصيات والأحداث التي يخبر عنها. وقال سماحة: هذا المروي عليه يتمثل تماماً في مجموعة (الترياق) والذي لا نجد له تجسيداً داخل النص فهو لا ينظم السرد كما في (وسمية) عبد العزيز مشري، ولا يعرف كيف يحل شفرة الأصوات التي تشكل السرد كما في رواية (ميرامار) لنجيب محفوظ وهو هنا يختلف تماماً عن القارئ الفعلي رغم ذلك ويقترب كثيراً من القارئ الضمني من حيث موقعه في النص فكلاهما متخيل. وأوضح أن كل مروي له يمتلك تلك السمات إلا حين يكون هناك سبب للمغايرة مستمدا من السرد الذي وجد من أجله ويستشهد بما استشهد به بعض النقاد أي المقطع الاستهلالي لرواية بلزاك (الأب غوريو) إذ يقول الراوي: (وهذا ما سوف تفعله أنت يا من تمسك هذا الكتاب بيد بيضاء. أنت يا من تتكئ على مقعد وثير ذي مساند وتقول ربما سيكون هذا مثير للمتعة بعد أن تفرغ من قراءة أسرار محن الأب غوريو. سوف تتناول طعامك بشهية وتعزو عدم حساسيتك إلى الكاتب الذي سوف تتهمه بالمبالغة). ويرى سماحة أننا في هذا المقطع أمام راوي يتحدث إلى شخص بعينه. هذا الشخص بالقطع يحدده بلزاك: أنت يا من تمسك الكتاب بيد بيضاء (ليس يد كل قارئ بيضاء) وليس كل قارئ متكئ على مقعد وثير.. وهذا المروي له هنا لا يشبه معظم قراء بلزاك ويعزل هنا الراوي الكاتب الذي سيتهمه المروي له بالمبالغة.. وأعتقد أن الراوي هنا يعرف سمات المروي له الشخصية من حب الاتكاء وعدم الحساسية والشهية في تناول الطعام وغيره. ويضيف سماحة: وهناك بعض العلامات القادرة على تصوير المروي هل بتفاصيل متفاوتة الدرجة أو تلك الواصفة له كما رأينا وبدورنا نستطيع بفضل تلك العلامات أن نميز أي سرد طبقاً لنمط المروي عليه الموجه إليه السرد (والذي هو هنا ليس في الدرجة الصفر) كما نستطيع أن نصنف المروي له حسب الموقف السردي وموقعه في الإشارة إلى الراوي والشخصيات والسرد.. وحتى عندما يبدو السرد غير موجه لشخص محدد كما في (الترياق) وليس ثمة إشارة له ولو مرة واحدة بطريقة واضحة.. فهو موجود برغم ذلك ولا ينسى أبداً ضمن متلازمة (راوي - مروي له) مثل متلازمة (كاتب - قارئ) . تمثيل ونحن نرى في سرديات أخرى المروي عليه وإن لم يكن ممثلاً بشخصيته فهو يذكر بوضوح عبر الراوي على الأقل أو مشيراً إليه الراوي مراراً بشكل مباشر كما في رواية (توم جينز) وغالباً ما يسرد الراوي حكايته إلى شخص ما ليس ممثلاً بشخصية في السرد وقد لا تلعب شخصية المروي له دوراً في السرد سوى التلقي ولكنها قد تلعب أدواراً أخرى وليس نادراً أن يكون المروي له راوياً في الوقت نفسه كما في (الموت يمر من هنا) لعبده خال. ويمكن أن تتأثر شخصية المروي له بالسرد الموجه له بدرجات متفاوتة كما يتأثر شهريار بقصص شهرزاد التي كانت تختار حكاياتها بذكاء لكي تؤثر في شخصية المروي له. ومثل سماحة بحكاية الجني والصياد فما حدث للعفريت مع الصياد جعله يتصالح مع العالم والحياة ويتخطى الحق والضغينة لذا أطلق الصياد سراحه لأن المخلوقات المدجنة لا تحتاج إلى وثاق. وهنا يبرز التماثل بين حكاية الصياد والعفريت وحكاية شهرزاد مع شهريار إذ يتحول شهريار في النهاية إلى شخص وديع أليف. ويضيف المحاضر أنه يمكن أن تمثل شخصية المروي له بالنسبة للسرد شخصاً أكثر أو أقل قيمة أو غير قابل للاستبدال بوصفه مروياً له وحيد.. كما في شهريار.. وضرب مثالاً من رواية (يحدث في مصر) ليوسف القعيد الذي حدد بصفته الراوي - المؤلف شخصية المروي له وقدم المزيد من الأمثلة للتمييز والكشف عن دقة وأحكام السرد إذا ما اتجهنا إلى الاعتماد على المروي له في السرد إلى جانب الراوي. أهمية وعن أهمية فكرة المروي له يضيف سماحة: إنها تلفت الانتباه لأنها تتيح لنا إتقان دراسة الطريقة التي يؤدي بها السرد وظائفه عبر الحوار بين الرواة والمروي لهم والشخصيات والمدى أو الطريقة التي يمكن من خلالها امتداح أو رفض قيم معينة في مجرى السرد وكذلك تحديد نغمة السرد في النهاية. وقدم أمثلة من مجموعة الترياق لأميمة الخميس . وقبل أن ينهي محاضرته توقف طويلاً عند بعض وظائف المروي له ومنها التوسط بين الراوي والقراء عبر شرح الراوي للمروي له أمراً ما. أو يوجه إليه إشارات ما وهنا تتبدى أهمية تأكيد بعض الأحداث أو تبرير أفعال معينة أو التنبؤ بأحداث أخرى، ويشرح ماهية التوسط التي يقوم به المروي له وكذلك وظيفة التشخيص والقوة الفاعلة والدافعة للسرد. وفي نهاية المحاضرة قال سماحة: وهكذا اتضحت الرؤية حول المروي له وتلك الرؤية تحتاج إلى دراسات أكثر عمقاً وبحثاً فما زال في الأمر الكثير من الارتباك الذي أشار إليه جيرار جينيت في كتابه عودة إلى خطاب الحكاية.. وأضاف: إنني هنا ربما لم أقدم الجديد نظرياً ولكن الأمر يستدعي المعرفة والمعرفة هنا تستدعي البحث فما زال الحديث عن المروي له يحتاج الكثير وربما نكون بهذه الكلمات قد ألقينا بحجر في بحيرة النقد السردي الراكدة عربياً منذ زمن.