قليلون هم الكتّاب الذين اكتفوا بكتابة القصة القصيرة دون غيرها من الأشكال الأدبية الأخرى، لا سيما تلك التي تعود على مؤلفيها بمكاسب عظيمة يندر أن يحظى كاتب قصة قصيرة بها. ويكاد الواحد منا أن يعجز عن ذكر أكثر من عشرة كتّاب انصبّ جلّ اهتمامهم على هذا اللون من الأدب. وهؤلاء إذ قنعوا بذلك فإنما لنزعة رواقية اتسموا بها أو لمشاغل حياتية صرفتهم عن كتابة ما هو أعقد وأطول، كالرواية مثلاً، أي الشكل الأدبيّ المتوقع من القاص أن يقبل عليه ما أن يُتمّ مجموعة أو اثنتين من القصص الناجحة على ما درج عليه العُرف الأدبيّ. والى هذا الفريق تنتمي الكاتبة الأميركية غريس بايلي. إذ دفعها الاستغراق في تربية الأطفال والانضواء في النشاط السياسي، فضلاً عن إيمانها بأن "الفن طويل والحياة قصيرة"، لا الى الإعراض عن كتابة الرواية فحسب، وإنما الاقتصار على كتابة ثلاث مجموعات قصصية فقط على مدى نصف قرن من الزمن وقد صدرت حديثاً مجتمعة في كتاب واحد عن دار فيراغو في لندن. صحيح ان بايلي قد كتبت الشعر أيضاً، لكن منزلة هذا في انتاجها ليس أقل هامشية من منزلته في انتاج قاصين عملاقين مثل بورخيس وريموند كارفر. وجدير بالتنويه ان مجموعتها الشعرية الأولى، والوحيدة، لم تصدر الا وهي في السبعين من العمر. ولدت غريس بايلي في نيويورك عام 1922 لعائلة يهودية هاجرت من روسيا مع مطلع القرن. وهذا ان كان مصدر اغتنائها بثقافات بالغة التفاوت كاليديشية والروسية والأميركية، فإنه أيضاً مصدر وقوفها على حياة أوهنها العوز وانعدام الأمن مما يسم حياة المهاجرين لا سيما الفقراء منهم. وككاتبة فإن بايلي تبدو أشبه بمهاجرة عصامية. فهي لم تنل قسطاً وافياً من التحصيل العلميّ، ولم تحظى بفرصة نشر قصصها وقصائدها التي أقبلت على كتابتها منذ وقت مبكر إلاّ وهي في أواسط الثلاثينات من العمر. وهي إذ أفلحت فيما بعد في العمل كمحاضرة جامعية، وفي الفوز باهتمام الوسط الأدبيّ فإن ذلك لم يدفعها الى اتخاذ الأدب مهنة، ذلك ان في الحياة الكثير مما يحول دون التفرغ لمهنة كهذه على حد تعبيرها. وفي عزوفها عن طلب الشهرة تبدو بايلي اقرب الى شخوص قصصها من النسوة القانعات، وان على مضض منهن، بحياة لا يمكن ان تُنعت، في بلد تُقاس فيه الأمور عادة بمقاييس الربح والخسارة، إلاّ حياة خاسرات. فالعديد من بطلات قصصها هن أمهات وحيدات، هجرهم أزواجهن أو شركاؤهن فوقع على عاتقهن وحدهن عبء تدبير حياتهن وحياة أطفالهن. خُذ "فيث" على سبيل المثال، وهذه بطلة أكثر من قصة من قصص بايلي الى درجة أن بعض النقاد يميلون الى الزعم بأنها تمثّل الكاتبة نفسها. فهذه امرأة تعيش حياة لا أثر للرونق فيها، تتراوح ما بين أطفالها وصديقاتها اللواتي لا يختلفن كثيراً عنها وعائلتها التي لا تعتبرها مصدر فخر كبير، والانضواء بين حين وآخر في نشاط سياسي محلّي. على أن بايلي إذ تسرد قصص ناس تتسم حياتهم بالبلادة أو بالافتقار الى البهجة، فإنها لا تجنح الى تصوير ذلك في قالب ميلودرامي هشّ. على العكس من ذلك تماماً فبايلي كاتبة ساخرة، ولا يخلو سردها، حتى في أكثر المواقف اثارة للكآبة من تهكم. "رأيت زوجي السابق في الشارع. كنت جالسة على درج المكتبة الجديدة. مرحباً يا حياتي، قلت: كنا متزوجين مرة لسبعة وعشرين عاماً، لذلك شعرت بأنني معذورة". على هذا النحو تستهل احدى قصصها وكأنما لتتحاشى منذ البداية أن تظهر بمظهر من يسعى الى استدرار شفقة القارىء أو الظفر بتعاطفه حينما نتعرف أكثر الى حياة بطلتها، هذا على أية حال لا يصدر عن استهانة الكاتبة بمتاعب من تسرد قصصهم، وإنما عن وعيّ لا يرى الى النساء كموضوع خبر مأسوي أو غير ذلك، ولا في القصة كشكل للإخبار. لهذا تراها تستعرض معرفة رحبة وفعليّة، أي غير محكومة بتصورات مسبقة، بمشاعر النساء، مخاوفهن، رغباتهن وميولهن، سواء من خلال علاقتهن بأطفالهن وببعضهن البعض أم علاقتهن بالجنس الآخر. وهي إذ تُظهر المرأة بمظهر من تتنازعها الشهوات أو تتغلب الغريزة فيها على المنطق والحس السليم أو لا تقيم وزناً للحكمة المتولدة عن خبرة مريرة فهي لا تسوق ذلك بغية ادانتها أو تصويرها كضحية، وانما لكي تجعلها قابلة للمعرفة كما هي عليه. لغة الإتهام وهذا ليس بالأمر النافل طالما أن جلّ الكتابات النسائية التي تزعم شرعية مسبقة للنطق بإسم النساء رداً على الجهل الموروث في كتابات الذكور، غالباً ما تخفق في تجاوز هذا الجهل، وتجنح عوضاً عن ذلك الى لغة الاتهام أو التبرير. فيتهم المجتمع بأنه المسؤول عن حال المرأة المزري أو تبرر النساء في كونهن ضحية المجتمع أو المؤسسة الذكورية على ما يتكرر القول. فعلى رغم ان بايلي قد عرفت كناشطة سياسية في الحركة النسوية والحركات المعادية للتسلح النووي والحرب في فيتنام، إلاّ انها لم تجنح الى اخضاع قصصها في سبيل خدمة السياسة. ولا هي حاولت أن توظف صفتها ككاتبة في نشاطها السياسي، وإنما آثرت ان تعمل كأي عضو آخر تكتب وتوزع المناشير وتنظم الاجتماعات والمسيرات الاحتجاجية. على أن هذا لا يعني أنها فصلت ما بين النشاطين بحيث انعدم أي أثر للواحد في الآخر. فبالإضافة الى شخصية "فيث" صاحبة النشاط السياسي، فإن الكثير من قصصها تتناول السياسة من وجه أو آخر. فما حرصت بايلي على تجنبه، وهو ما نقصده في قولنا بأنها لم تخضع قصصها لسياستها، هو عدم الاستعاضة عما هو فعلي بما هو ايديولوجيّ. لهذا فإن الوعيّ بالسياسي والتصريح بهذا الوعي لا ينزع الى التعالي عما هو فعلي وإنما هو جزء منه ومظهر من مظاهره. ولعل مردّ افلاحها في النجاة من شرك الأدب "الملتزم" هو أن وعيها لشروط هذا الفن لا يقل نضجاً عن وعيها السياسي. تنتمي بايلي الى ذلك التقليد من كتّاب القصة القصيرة الذي يمتد ما بين همنغواي وريموند كارفر، لا سيما في ما تميّز به من براعة في جمع العفوية في السرد الى الايجاز والدقة في التعبير. وهذا على الأرجح ما وضعها على هامش الأدب الذي شاع امره في الولاياتالمتحدة منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ فشا أمر الشكلانية المفرطة كوجه من وجوه الحداثة الأدبية، أمسى كتاب من أمثال بايلي كتاب تقليديين. بيد ان بايلي في الحقيقة لا تقل حداثة عن هؤلاء، حتى وان كانت أقل صخباً منهم. فإذا كانت حداثة هؤلاء قد تمثلت في نقل بؤرة الاهتمام من "الواقع" الى الذات الواعية، فإن بايلي في حرصها على دفع سرد تلقائي وعشوائي لا يزعم تجسيد تصميم سابق التصوّر للشخصية أو للمكان أو ارساء تصميم كهذا، قد أفلحت في تحاشي محاكاة الواقع والعمل على الاستعاضة عنه بالنص. لهذا فمن غير المستغرب أن يلبث قارىء قصصها مدركاً بأن هذه حكايات يرويها رواة غير معصومين عن الزلل أو الهوى. وخلاصة القول ان بايلي تخلصت من الراوي المحايد كُليّ المعرفة الذي اشتهرت به الروايات الواقعية الكبرى لا من خلال الفصل ما بين أصوات ومستويات سرد متباينة، وإنما باللجوء الى سرد يستقي أسلوب السرد الشفوي. وهذا ضرب من السرد بات معهوداً في الأدب الأميركي اليوم، بيد أنه لا يلغي حقيقة أن بايلي كانت أحد رواده. ولكن إذا لم تكن بايلي معنية بموضة التجريب التي شهدتها القصة الأميركية، فلماذا عزفت عن كتابة القصة التقليدية؟ في قصة "محادثة مع والدي" ثمة اجابة على هذا السؤال بالذات. إذ يحثها والدها ان تكتب قصة بسيطة على منوال تلك القصص التي كتبها موباسان وتشيكوف "عن بشر يمكن التعرف اليهم وما حدث لهم بعد ذلك". تقول الكاتبة بأنها كانت تتمنى كتابة قصة كهذه، "أي من النوع الذي يبدأ: كانت هناك امرأة... متبوعاً بعقدة، الخط المطلق ما بين نقطتين، والذي لطالما احتقرت، لا لأسباب أدبية، ولكن لأنها تذهب بكل أمل. فكل امرء، سواء كان مختلقاً أم حقيقياً، يستحق المصير المفتوح للحياة". فلا تسعى بايلي الى أن تكون قصصها اختصاراً لحياة شخوصها واستعاضة عنها. لذلك فإن هذه القصص لا تنتهي الى التوكيد على اكتمال حياة البشر، سواء من خلال خروجهم من مسرح احداث القصة أم من خلال الموت. والقصة يرد فيها هذا التصريح هي نفسها أبلغ دليل على مفهومها للقصة كشكل أدبيّ لا يحرم البشر من "فرصة المصير المفتوح للحياة". فهي تمهد لقصتها هذه بالحديث عن والدها الذي أدركه الهرم فبات موشك على النهاية، إلا انها سرعان ما تغيّر وجهة القصة. وبدلاً من أن تقصّ علينا ما جرى لوالدها بعد ذلك، فإنها تنتقل الى الجدل الذي يدور بينهما حول كيفية كتابة القصة، ومن ثم فإنها تتحاشى بذلك حرمان الشيخ من فرصة الحياة غير المحتومة بالنهاية المتوقعة، أي الموت. وليس العالم الذي تجري فيه قصص غريس من الانغلاق والاكتمال بحيث يتيح للقاص أن يُلم بحيوات شخوصه من المهد الى اللحد. ففي مجتمع كالمجتمع النيويوركي، وهذا هو مسرح حكاياتها، حيث تتجاور الثقافة اليديشية المشبعة بالطقوس والتقاليد المتقادمة والثقافة المدنية المفرطة في حداثتها على نحو ما يتجاور ذلك الخليط العجيب من الأعراق والأجناس وأبناء الطبقات المتفاوتة وأصحاب النفوذ والشهرة والهامشيين والمعدومين، ففي مجتمع كهذا لا يسع القاص زعم معرفة كُليّة، ولا مكان بالتالي لقصة تذهب على منوال "كانت هناك امرأة، تزوجت ثم طلقت ثم ماتت". وقصارى ما يمكن للقاص تقديمه حكاية يستهلها راويها على النحو التالي: "رأيت زوجي السابق في الشارع. كنت جالسة على درج المكتبة الجديدة. مرحباً يا حياتي، قُلت: كنا متزوجين مرة لسبعة وعشرين عاماً، لذلك شعرت بأنني معذورة. ماذا؟ اية حياة؟ ليست حياتي انا، قال. حسناً، قلت، فأنا لا اجادل حينما يكون هناك اختلاف حقيقيّ. نهضت ودخلت الى المكتبة لأرى بكم أدين لهم. 32 دولاراً، قال المكتبيّ، بل أنك تدينين بها لثمانية عشر عاماً. لم أنكر شيئاً. ذلك أنني لا أفهم كيف يمرّ الزمن. لقد كانت لدي هذه الكتب، ولطالما فكرت بهم. والمكتبة على مبعدة بلوكين فقط".