ينتظر 80 في المئة من السودانيين فصل الخريف الذي يستمر في شمال البلاد أربعة أشهر، من تموز يوليو إلى تشرين الأول اكتوبر، ونحو تسعة أشهر في جنوبها، بفارغ الصبر لاعتمادهم على الزراعة والرعي، خصوصاً في الأعوام التي تشهد جفافاً في بعض الولايات مثلها مثل هذا العام. لكن سكان الخرطوم لا يفضلون الخريف لأسباب عدة على رغم أنه يلطف الجو ويذهب عنهم هجير الشمس والحر الغائظ. ويعتمد نحو 80 في المئة من الشعب السوداني في معاشه على الزراعة التقليدية والرعي. ويُعد فصل الخريف أهم فترة في حياتهم كل عام. إذ يعدون له العدة قبل وقت مبكر للحصول على انتاج وفير من السلع المنتجة، خصوصاً الذرة والحبوب المنتجة للزيت، لأنها تحقق عائداً مجزياً بجانب اللحوم. وتتحول حياة غالبية المجتمع إلى متابعة أخبار الطقس والأمطار، وتصدر وزارة الري بيانات متلاحقة عن الأمطار والفيضان تثير اهتمام الرأي العام في شكل لافت. والحكومة أيضاً ليست أقل انشغالاً بالخريف، لأن نجاحه - وإن كان ليس انجازاً يُحسب لها - إلا أنه يحقق لها مزيداً من الايرادات من الضرائب والرسوم وعائدات الصادر ويزيح عنها "كابوس" نقص الغذاء والضغط الشعبي لتوفير احتياجات مواطنيها. كما أنها تخشى من تدخل المنظمات الإنسانية وما يجره عليها كذلك من متاعب سياسية واحراج دولي. لكن، في المقابل، فإن الخريف ليس فصلاً محبباً لدى سكان الخرطوم بمدنها الثلاث، على رغم أنه يُذهب عنهم هجير الشمس وحر الصيف الغائظ. إذ أنه يجلب لهم الظلام مع اعتماد العاصمة في الامداد الكهربائي على خزان الروصيرص الذي ينتج 70 في المئة من الطاقة الكهربائية في البلاد. ويقع الخزان على النيل الأزرق المنحدر من الهضبة الاثيوبية. وتتراكم في فصل الخريف الطمى والحشائش من خلفه مما يعطل التوربينات التي تنتج الكهرباء. وعاشت الخرطوم هذا العام تدنياً غير مسبوق في الامداد الكهربائي أدى إلى انقطاع التيار فترات تصل إلى 12 ساعة يومياً وصارت أسواقها ومناطقها أشبه بالمناطق الصناعية بسبب استخدام مولدات الكهرباء الخاصة بازيزها وأصواتها المرتفعة المزعجة. وصار الهروب من المنازل لغالبية المواطنين واحداً من قلة من الحلول المتاحة. ويبرر المدير العام للهيئة القومية للكهرباء المهندس مكاوي محمد عوض تدني الامداد الكهربائي بتوقف معظم ماكينات التوليد المائي في خزان الروصيرص، وانخفاض الانتاج من 280 ميغاواط الى 50 ميغاواط. وقال ان هذا الوضع سيستمر حتى الاسبوع الأول من ايلول سبتمبر المقبل. ورأى ان الحل هو في ايجاد توليد حراري لسد النقص، مشيراً الى ان الحكومة شرعت في التعاقد مع شركات اجنبية لانشاء محطات للتوليد الكهربائي بضمانات نفطية. وتوقع ان يكتمل الانشاء خلال 3 سنوات. وتعاني الخرطوم ايضاً من سوء تصريف مياه الأمطار، اذ ان هطول الأمطار ولو بنسب متوسطة يجعلها "تغرق في شبر ميه" على ما يقول عموم الناس وتتحول طرقها وساحاتها الى بحيرات ومستنقعات جاذبة للناموس ومرتعاً للبعوض الناقل لمرض الملاريا، ويعرض منازلها القديمة الى الانهيار، ويعيق التحرك بين الاحياء وفي وسط بعضها بفعل الوحل. ويهدد الفيضان ما تبقى خصوصاً المناطق القريبة من النيلين الأبيض والأزرق الرافدين الاساسيين لنهر النيل. ويلتقي الأبيض والأزرق في الخرطوم، علماً ان الأول ينبع من بحيرة فكتوريا في أوغندا والآخر من بحيرة تانا في اثيوبيا. وعلى رغم جهود السلطات المحلية التي تكثف من نداءاتها وارشاداتها عبر وسائل الاعلام، إلا ان البيئة تصل الى اسوأ مستوياتها وتزداد نسبة الإصابة بالملاريا واعطاب السيارات وتلف الاجهزة الكهربائية في المنازل بتذبذب التيار الكهربائي. وتقل مشاهدة المحطات الفضائية، وتزدهر تجارة تأجير المولدات الكهربائية. وثمة مفارقة هنا: ففيما ترقد الخرطوم بين أحضان النيلين الأبيض والأزرق وينهمر المطر من فوقها وتفيض طرقاتها وساحاتها بالمياه، الا ان بعض احيائها يعيش حال عطش بسبب انقطاع امدادات المياه التي تتأثر بالتيار الكهربائي. وبات من المألوف ترحيل المياه عبر ناقلات يجرها الحصان أو الحمار. ويعزو مدير ادارة المصارف والأمطار في وزارة الشؤون الهندسية في ولاية الخرطوم السيد عثمان سعيد سوء تصريف مياه الأمطار الى رمي النفايات في مصارف المياه وضعف بنياتها كما ان معظمها ترابي مما يعرضها الى الانهيار. غير انه يؤكد ان الحكومة تصرف عليها أموالاً طائلة لصيانتها وتطهيرها.