المصادفة وحدها اوقعت بين يدي أحد أعداد مجلة "آرييل" الإسرائيلية، وهي مجلة دورية تعنى بالآداب والفنون وتصدر في القدسالمحتلة باللغة العبرية، وباللغات الانكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والاسبانية فصلياً، وباللغة العربية مرة كل ستة أشهر. والعدد الذي أتحدث عنه هو الرقم 105 سنة 1997، الصادر بالانكليزية، ويركز على العلاقات العربية - اليهودية من منظور ثقافي تاريخي. وتضمن مجموعة مقالات كتبها يهود وأوروبيون وترجمات لبعض الكتّاب العرب أيضاً. وقبل تناول العدد، وتحديداً مقدمته الدالة، يجب أن نوضح للقراء أن سنة 1997 كانت عام الهجمة التطبيعية الشرسة التي وظفت لها إسرائيل كل طاقاتها الإعلامية سواء بأقلام عبرية أو عربية، لتزرع في أذهان الناس أنها دولة تسعى إلى "السلام" وانها تريد "علاقات طبيعية" مع الدول العربية. بل وكنا نسمع آنذاك أصواتاً عربية غريب كيف أنها صمتت الآن عن مجازر شارون ودولته تتهم العرب والمسلمين بأنهم لا يريدون "السلام"، وأنهم مجرد دول ديكتاتورية يجب أن يتعلموا الديموقراطية من "الدولة العبرية"! المهم أن شارون أنهى كل هذه الخزعبلات، وعادت إسرائيل لتكشف عن حقيقتها الدموية والعنصرية. نعود الآن إلى العدد 105 سنة 1997 من "آرييل" لنقول إننا لن نتناول المقالات المنشورة فيه، وبعضها أكاديمي ممتاز، لأن ذلك يخرج عن الموضوع الذي أردناه. كل ما في الأمر اننا سنتوقف عند الافتتاحية التي كتبها رئيس تحرير المجلة آشر ويل، لأنها تكشف عن حقائق الفكر الصهيوني في تعامله مع العرب سياسياً وتاريخياً وثقافياً. والغريب في هذه المقدمة أنها كتبت لعدد خاص عن "العرب واليهود" بخلفية إظهار التقارب الثقافي بين الجانبين، ومع ذلك فإن العادة غلبت التعود، والعبارات التي يوردها آشر تفضح الخصائص "التطبيعية الصهيونية" في نظرتها إلى العرب والمسلمين. وهنا ننشر المقدمة كاملة، مع تسويد الجمل التي ننوي مناقشتها لاحقاً: "العلاقة بين اليهود والإسلام مديدة ومتقلبة. اجتاح العرب بلدان الهلال الخصيب والشرق الأوسط كله، بما في ذلك فلسطين في القرن السادس، وفتحوا القدس البيزنطية في 638 بعد الميلاد. وقد هزموا هم أنفسهم على أيدي الصليبيين في 1099، لكن مملكة القدس اللاتينية لم تدم سوى 100 سنة، إلى أن استعاد الإسلام السيطرة على الأرض المقدسة، في أعقاب انتصار القائد الكردي صلاح الدين في معركة حطين، المطلة على بحيرة طبرية، في 1187. وتحت حكم العرب، اعتبر اليهود - إلى جانب المسيحيين - من أهل الذمة: ملحدين يتمتعون بمكانة أدنى منزلة ولكنها مصانة. لكن اليهود حققوا تحت الحكم الإسلامي بالذات واحدة من أعظم فترات تاريخهم الثقافي وأكثرها ازدهاراً، في ما يسمى ب"العصر الذهبي" في اسبانيا، من بداية القرن الحادي عشر إلى مئة سنة أو نحو ذلك قبل طرد اليهود من اسبانيا في 1492. ومع بدايات الصهيونية السياسية في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ نزاع مستمر منذ أكثر من 100 عام عندما سعت حركتان قوميتان متعارضتان تماماً إلى الهيمنة على شريط الأرض ذاته على امتداد البحر الأبيض المتوسط. لكن بدا، أخيراً، أن العداء العنيد بين الشعبين يوشك أن ينتهي عندما قام الرئيس المصري أنور السادات بزيارة إلى إسرائيل في 1977. وفي السنوات العشرين التي أعقبت ذلك انضم الأردن والمغرب وبعض الدول الخليجية إلى العلاقات السلمية، وكانت هناك آمال ومؤشرات حقيقية إلى أن السلام باقٍ على رغم مساعي المتطرفين على الجانبين لمنع التقدم في اتجاه التطبيع. وعلى رغم الانتكاسات والتغيرات في سياسات الحكومات، لا تزال هذه الرغبة في السلام الهاجس الطاغي وأمنية معظم الناس على كلا جانبي النزاع التاريخي. وتنمو الصلات الثقافية بين العرب والإسرائيليين في اتجاهات كثيرة، وبعضها ينعكس في هذا العدد من "آرييل". إن إسرائيل ليست جزءاً من أوروبا، بل هي كلياً في الشرق الأوسط. ربما كان منشأ الكثير من تراثنا الثقافي في أوروبا الشرقية التي شهدت موجات الهجرة الأولى، لكن من الضروري بالنسبة إلينا أن نقر بأن مكاننا الطبيعي يقع ضمن النسيج الثقافي والإثني والاجتماعي للشرق الأوسط على تماس وثيق مع جيراننا العرب بمن فيهم الفلسطينيون، في الأرض التي وعد الله بها أجدادنا". طبعاً تتضمن المقدمة الكثير من الكلام المعسول، غير أن أهم ما فيها - من وجهة النظر العربية - هو المفردات ذات الدلالات العميقة التي تسربها المجلة مع ايجابيات الحديث عن "مكاننا الطبيعي يقع ضمن النسيج الثقافي والإثني والاجتماعي للشرق الأوسط" أو "اليهود حققوا تحت الحكم الإسلامي بالذات واحدة من أعظم فترات تاريخهم الثقافي وأكثرها ازدهاراً". ولا يختلف اثنان في ان هذه العبارات صحيحة، فهذه حقائق تاريخية لا ينكرها حتى اليهود أنفسهم. بل الخلاف يكمن في مفردات وعبارات أخرى وردت "عرضاً" في المقدمة، هي بيت القصيد من كل هذا العدد، بل ومن كل الهجمات التطبيعية العربية والعبرية من إسرائيل وإليها. الملاحظة الأولى هي غياب كلمة "المسلمون" عن المقدمة كلها، فالحديث هو عن العرب الذين اجتاحوا الهلال الخصيب، وعن الحكم الإسلامي في اسبانيا... والسبب في ذلك مرتبط بالرؤية الدينية اليهودية إلى القدس، فالفكر اليهودي لا يريد أن يرى في الفتح العربي انتشاراً للدين الإسلامي الجديد، وبالتالي تحول الناس في الهلال الخصيب، بما فيه فلسطين، إلى الإسلام، أي أن غالبية السكان أصبحت من المسلمين ولم يعد لليهود أي وجود فاعل في فلسطين، خصوصاً وأن نفوذهم انهار مع انتشار المسيحية في القرون الستة التي سبقت مجيء المسلمين. ثم تتواصل الفذلكة ذاتها بالحديث عن "القدس البيزنطية"، والمقصود بذلك اعطاء هوية أجنبية للمدينة المقدسة بيزنطية تنتقل إلى هوية "أجنبية" أخرى هي العربية قبل أن يحتلها الصليبيون لتصبح أجنبية أيضاً لاتينية، ثم يحررها صلاح الدين. والمنطق غير المعلن هنا هو ان القدس ظلّت تتنقل من "قوة أجنبية" إلى أخرى إلى أن وصلت أخيراً إلى يد اليهود بعد حرب سنة 1967. وانطلاقاً من رفض صفة الإسلام والمسلمين، فإن المقدمة لا تجد في صلاح الدين سوى "القائد الكردي". وهذه العبارة تخدم غايتين صهيونيتين في وقت واحد: الأولى تغييب الصفة الإسلامية عن صلاح الدين، علماً أنه ما فعل ذلك هو وغيره من السلاطين الايوبيين الذين سبقوه أو الذين أتوا بعده إلا من منطلق تحرير المقدسات الإسلامية في القدس. والغاية الثانية هي الإصرار اليهودي على النظر إلى الشعوب العربية باعتبارها أعراقاً وطوائف متباينة ما يبرر قيام دولة عرقية عنصرية دينية هي إسرائيل في خضم من الكيانات العنصرية الطائفية الأخرى. وتواصل المقدمة مغالطاتها المقصودة عن الحكم الإسلامي، فتتحدث عن اليهود والمسيحيين باعتبارهم "أهل ذمة" وتفسر ذلك بأنهم "ملحدون". والواقع أن كل من له حد أدنى من الفهم التاريخي والفقهي للإسلام يدرك أن هذا التفسير خاطئ، بل ومغرض. فالمسلمون لم ينظروا إلى أهل الذمة باعتبارهم ملحدين وإلا لما كانوا تمتعوا بمكانة "مصانة"، كما جاء في المقدمة، أو عاشوا "العصر الذهبي" تحت الحكم الإسلامي في اسبانيا. ولا نعتقد أن كاتب المقدمة يجهل هذه الحقيقة التاريخية، لكنه يواصل نسج الخط البياني الفكري الذي يلغي الإسلام والمسلمين في التاريخ الفلسطيني الوسيط، ويحاول في الوقت نفسه تشويه العلاقة التي نشأت بين مختلف الأديان في ظل الحكم الإسلامي وكانت طبيعية تماماً إلا في فترتين متباعدتين، لكن متماثلتين: الاحتلال الصليبي الافرنجي، والاحتلال الصهيوني. ولأن الفكر اليهودي لا يستطيع أن يتشرنق كلياً في ظلمات التاريخ، فإن المقدمة تنتقل إلى الحديث عن "حركتين قوميتين متعارضتين" سعتا في نهاية القرن التاسع عشر إلى "الهيمنة" على فلسطين، أي اننا دخلنا إلى الزمن الراهن كما تراه العقلية الصهيونية: صراع للهيمنة! دعونا أولاً نضع الأمور في نصابها: شعب فلسطيني كان يقيم في أرضه منذ مئات السنين، في مواجهة مجموعات من المهاجرين اليهود القادمين من أصقاع الأرض في محاولة للسيطرة على البلاد وطرد السكان الاصليين منها. ومع ذلك، يرى كاتب المقدمة في العصابات الصهيونية الآتية من أوروبا في المرحلة الأولى "حركة قومية" تتعارض مع الشعب الفلسطيني المقيم في أرضه والمتجذر في تاريخه! والمساواة التي يزعمها كاتب المقدمة بين "الشعب" و"العصابات" يسحبها أيضاً على "المتطرفين على الجانبين"، وهكذا يصبح الفلسطيني المستهدف في أرضه وحياته "متطرفاً" تماماً مثل اليهودي القادم من نيويورك أو موسكو أو لندن وهو مسلح بفكر عنصري يستخدمه لطرد الآخر أو إلغائه! وأخيراً نصل إلى الخاتمة المذهلة: "الأرض التي وعد الله بها أجدادنا". فإذا كان هذا هو منطق دعاة السلام الإسرائيليين، وإذا كانت هذه هي العقلية الكامنة وراء عدد خاص عن "التقارب العربي - اليهودي"، فماذا تركنا لليهود المتطرفين أمثال شارون ونتانياهو وغيرهما؟ بل إذا كان العدد 105 سنة 1997 من "آرييل" موجهاً إلى قارئ اللغة الانكليزية بدعوة إلى الاندماج في نسيج الشرق الأوسط، لكن وفق الاعتقاد الصهيوني القائل إن هذه الأرض هي "وعد الله" لأجداد اليهود، فأي مستقبل للسلام في فلسطين؟ ما كانت هذه المقدمة لتستحق الرد والمناقشة وكشف المغالطات لو أنها جاءت في مطبوعة يهودية عادية، ذلك اننا اعتدنا على مثل هذا المنطق الأعوج. غير أن ورودها في عدد خاص عن العلاقات العربية - اليهودية، وفي ظل الحملة التطبيعية الشرسة آنذاك، وبأقلام اناس يزعمون انهم من أنصار السلام ودعاته، دفعنا إلى تناولها على رغم مضي أربع سنوات على صدورها. فهي نموذج حي ومخيف للتطبيعية اليهودية التي لا تؤمن إلا بإلغاء الآخر... أو في أفضل الأحوال باستسلامه وتبعيته. * من أسرة "الحياة".