ليس لحكّام إسرائيل ان يعيبوا على بلداننا تغييب الديموقراطية فيها، فعلى أساس هذا التغييب تمرّر التسويات المنفردة ويفرض التطبيع غير الطوعي، وفي إطاره ينقسم المشهد العربي بين مكابرين وانهزاميين. إن تغييب الديموقراطية يندرج في مصلحة إسرائيل، كما تندرج حقيقة كون ديموقراطيتها الاستثناء في المنطقة في غير مصلحة العرب. يأتي كتاب د.علي محافظة في هذا الصدد، "الديموقراطية المقيدة: حال الأردن 1989- 1999" منشورات مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 2001 فيقدم مسار الأردن وحياته السياسية في التسعينات، فنجد أنفسنا امام تجربة غنية، فيها ما هو نموذجي وفيها ما هو خاص، لجهة علاقة عملية التسوية المنفردة بعملية التحول الديموقراطي، وهي في المحصلة العامة علاقة تقييد الأولى لحركة الثانية، في ظل التعاقد الذي بلوره كل من الملك حسين واسحق رابين على أساس "السلام الدافئ" الذي يفتتح مجالات التعاون ويخرج الأردن من دائرة الصراع، وفي موازاة التعثر الذي لحق بالمفاوضات على بقية المسارات. هكذا، فإن الديموقراطية الأردنية مقيدة بالسلام المنفرد كما انها محددة داخلياً بما للاستقرار والاستمرار من أولوية في التصور الذي صاغه الملك الراحل عن الأردن وهويته ودوره، وعن كيفية حكمه وإدارة شؤونه، وعن اهمية ربط الحزم بالاعتدال السياسي سواء في ما يتعلق بالتعامل مع التناقضات الداخلية والسيطرة عليها، أو في ما يتعلق بالتحديات الإقليمية ووجوب التكيف مع المتغيرات. إن هاجس "الوحدة الوطنية" يحكم هذا التصور، فقد مثّل انقسام الأردنيين بين شرق - أردنيين وأردنيين من اصل فلسطيني، ومشكلة ازدواج الهوية والولاء، المتولّدة عنه، إحدى اهم العراقيل امام تطور الحياة السياسية الأردنية في الاتجاه الديموقراطي. فبعد النكسة جرى التمديد لمجلس 1967 ثم استعيض عنه بمجلس وطني استشاري، لأن حصول انتخابات في الضفة الشرقية من دون الغربية كان من شأنه ان يترك فراغاً في الأخيرة. إلا أن تجربة المجلس الاستشاري لم تكن لتقدم بديلاً من الحياة النيابية الذي أدى غيابها الى هيمنة السلطة التنفيذية واتساع صلاحيات القضاء الاستثنائي، فدعي مجلس الأمة المنتخب عام 1967 والمنحل عام 1976 للانعقاد مجدداً عام 1984، ومدد له بعد ملء المقاعد الشاغرة الى أن حُلَّ بشكل مفاجئ في 30 تموز يوليو 1988 عشية قرار الملك فك الارتباط القانوني والإداري بالضفة الغربية، وهو القرار الذي جاء في ظروف الانتفاضة ليحسم النزاع بين التصور الأردني لمملكة متحدة تعطي الفلسطينيين هوية سياسية في إطار وحدة الضفتين، وبين التصور الفلسطيني لمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. أمّن فك الارتباط السبيل لاستعادة الحياة السياسية الأردنية حيويتها، ومهّدت لذلك ايضاً أحداث الجنوب التي اندلعت في نيسان ابريل 1989 تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي، وعقب قرار حكومة زيد الرفاعي رفع أسعار المنتجات النفطية، امتدت هذه الأحداث من معان والطفيلة الى الكرك والسلط، وتحولت من عفوية تحتج على رفع الأسعار الى مُطالِبة بإصلاحات سياسية واقتصادية. توقفت الاضطرابات بعد عودة الملك من جولته الأميركية 23 نيسان 1989، واستقالة حكومة الرفاعي. جرى تكليف قائد عسكري موثوق هو الشريف زيد بن شاكر برئاسة الحكومة وتوطيد الأمن ومواصلة برنامج التصحيح الاقتصادي الذي اقترحه صندوق النقد الدولي، ما مهد لانتخابات نيابية نزيهة عام 1989، اتت بمجلس نيابي يمثل مختلف تلاوين الطيف السياسي ويكرّس التعددية ويعطي الصدارة للتيار الإسلامي على حساب التيار التقليدي. ثم تعمقت عملية التحول الى الديموقراطية مع حكومة مضر بدران 1989- 1991 التي عدلت تعليمات الإدارة العرفية تمهيداً لإلغائها، كما ألغت موجب الاستئناس الوزاري برأي دائرة المخابرات العامة عند التعيينات، وأطلقت معتقلين سياسيين. سمح هذا التوجه بتأمين الاستقرار، وبالانسجام مع مواقف الأردن في حرب الخليج الثانية. كما عُدِّلت الحكومة فدخلها الاخوان المسلمون. وأسهم إعطاء الحرية لهم في وزارات معينة وفي مدة وجيزة، في هبوط شعبيتهم، في حين ان طاهر المصري الذي يتمتع بصلات طيبة مع الإدارة الأميركية عين وزيراً للخارجية في الشهور الأخيرة من عمر الحكومة، قبل ان يكلف بتشكيل اخرى أكثر انسجاماً مع متغيرات ما بعد عاصفة الصحراء. في عهد حكومة بدران وجدت فكرة الميثاق الوطني الأردني، وعمرها من عمر الكيان، طريقها الى التنفيذ، فألفت لجنة ملكية لهذا الغرض وأقر الميثاق في مؤتمر وطني بعد ان استوجب الجدل حول دستورية الاستفتاء غض النظر عنه. جسد الميثاق المنحى الوفاقي، وأكد مرجعية الدستور، وديموقراطية النهج، ووجوب تحديث الدولة، كما اعترف بالهوية الفلسطينية هوية نضالية سياسية لا تتناقض مع الهوية الأردنية. اما في عهد حكومة طاهر المصري 19 حزيران/ يونيو - 22 ت2/ نوفمبر 1991 فقد جرى تحقيق مكاسب ديموقراطية مهمة، منها ان تخضع محكمة امن الدولة للاستئناف والتمييز، وأن تضم قضاة مدنيين الى جانب العسكريين. بيد ان الحكومة استهدفت في الدرجة الأولى اخراج الأردن من دائرة التجاهل الأميركي وتمكينه من ولوج عملية السلام من بابها الواسع، ومن خلال الوفد الأردني - الفلسطيني المشترك الى مدريد الذي ترأسه وزير الخارجية كامل ابو جابر، وترأس جانبه الأردني عبدالسلام المجالي، يسجّل المؤلف حرص المصري على السلوك الديموقراطي وإيثاره استقالته وحكومته على حل البرلمان بعد اتساع المعارضة النيابية لعملية السلام. أعيد تكليف الشريف زيد بن شاكر لاستيعاب الأزمة الداخلية 1991- 1993 فحققت عملية التحول نحو الديموقراطية انهاء الأحكام العرفية وإلغاء قانون مكافحة الشيوعية وإقرار قانون الأحزاب السياسية. وبعد رفض وزير الداخلية جودت السبول الترخيص للبعث والشيوعي وحزب الشعب الديموقراطي حشد سوّي الأمر، وفي المحصلة سجلت احزاب متنوعة، اسلامية وقومية وماركسية ومحلية، اهمها حزب جبهة العمل الإسلامي اخوان مسلمين وإسلاميين آخرين. في المقابل سجلت العملية الديموقراطية صعوبات لجهة قانون المطبوعات ومشروع قانون نقابة المعلمين. إضافة الى اعتقال النائبين ليث شبيلات ويعقوب قرّش بتهمة الانتماء الى تنظيم اصولي مسلّح، ثم صدور العفو الملكي عنهما بعد ادانتهما في محكمة امن الدولة. وكان لحكومة الشريف الثانية جهود محدودة في الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، اهمها التقرير عن مشروع طريق الأزرق - الجفر الذي اثار الرأي العام من دون ان يحصد ثلثي اصوات المجلس المطلوبة لتوجيه الاتهام الى رئيس الوزراء السابق زيد الرفاعي. تزايدت القيود المفروضة على الديموقراطية تمهيداً للمضي قدماً في عملية السلام، فقامت حكومة عبدالسلام المجالي 29/5/1993 - 7/1/1995 بإصدار قانون انتخابي موقت يصادق عليه الملك اثناء غياب البرلمان، ويقوم على اساس حق الناخب في صوت واحد ما يعني دوائر بحجم عدد النواب وتوزيعاً للدوائر بصورة تضمن تمثيلاً عشائرياً وليس تمثيلاً وطنياً - سياسياً، في الوقت نفسه الذي اعتبرت فيه الانتخابات بمثابة الاستفتاء على التسوية. وبالفعل قام الملك بحل مجلس الأمة بعد صدور القانون الموقت فحال دون عقد جلسة استثنائية، وقاطعت جبهة العمل الإسلامي والأحزاب والنقابات فجاءت النتيجة اكثرية طيعة بيد الحكومة. عقب أوسلو، شعرت القيادة الأردنية ان الأمور تسير من وراء ظهرها وتهدد بتحويلها الى العنصر الأضعف في لعبة ثلاثية الأبعاد. لذا فقد حسمت الأمر لصالح المضي في صلح منفرد، وواضح لا يفصل الأساسيات عن التفاصيل. توقعت القيادة ان ابرام المعاهدة سيمهد السبيل للإعفاء من الديون الخارجية والحصول على معونات، وكان الأردن قد اغتنم فرصة توقف المفاوضات اثر مذبحة الخليل فربط استئنافها بإيجاد حل لمسألة حصار العقبة، وتم ذلك اميركياً من خلال نظام التفتيش الذي تقوم به شركة لويد. انهى إعلان واشنطن حال العداء، وتسارعت اللقاءات من سرية الى علنية حتى توقيع اتفاق وادي عربة 26/10/1994، وما تبعها من "سلام دافئ" واجه عزلة عربية ومعارضة داخلية. لم يجد الحسين شريكاً في تصوره عن السلام مثل اسحق رابين، وبعد اغتيال الأخير اتسمت علاقاته بالبرودة مع شمعون بيريس، الذي كان يعتبره الملك "فلسطيني الهوى". ثم كان عليه معايشة تجربة دخول المنطقة نفق نتانياهو والجمود، فأسهم في إنقاذ مفاوضات "واي بلانتايشن" على رغم تدهور صحته، كما أمن مبادلة المجموعة المعتقلة من الموساد بالعلاج لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس الذي أرادت المجموعة اغتياله، وبإطلاق سراح الشيخ احمد ياسين، مؤسس الحركة. أنهت وزارة المجالي مهمتها وأصبحت غير قادرة على مواجهة تبعات وادي عربة داخلياً وخارجياً، فجيء بالشريف زيد بن شاكر مرة ثالثة 7/1/1995- 4/2/1996. لم يتمكن بدوره من احتواء المعارضة الشعبية للتطبيع، ولا من المضي في التطبيع، كما أراد الحسين، وكذلك الأمر بالنسبة الى حكومة عبدالكريم الكباريتي 4/2/1996- 9/3/1997 التي شكلت في محاولة لحقن النظام السياسي بدم جديد، فكان ان نشب الخلاف بين رئيسها وبين ولي العهد الأمير حسن. كما واجهت الحكومة اضطرابات الكرك اثر قرارها رفع اسعار الخبز واتهمت العراق والجبهة الديموقراطية بتدبير الأحداث من خلال البعث و"حشد". يأتي ذلك ضمن مسلسل تزكية الخلافات مع العراق والتدخل في شؤونه الداخلية، ولم تتحسن العلاقات مع العراق قبل مجيء حكومة عبدالسلام المجالي الثانية 19/3/1997- 30/8/1998 التي أجرت انتخابات نيابية وسط مقاطعة احزاب المعارضة، لكنها أخفقت في تمرير قانون يحد من حرية التعبير والنشر، إذ اعتبرته محكمة العدل العليا غير دستوري وألغته، ما حدا بالحكومة الى إنجاز مشروع قانون جديد اعطى حق منح إصدار الصحف لمجلس الوزراء وأناط تعليق صدورها او إلغاء رخصتها بالسلطة القضائية وحدها. وقد أقرّ القانون بعد إحداث تعديلات خفضت من قيمة الغرامات المرتفعة فيه. وفي عهد حكومة المجالي الثانية برزت المساعي الحثيثة لترويض النقابات، كما نشبت اضطرابات معان التي انتهت باعتقال النقابي الإسلامي ليث شبيلات وإدانته ثم العفو الملكي عنه، كالمعتاد. 46 عاماً عاشها الأردن في ظل الملك حسين، وفي هذه الأعوام لم يتح الملك لأي رئيس حكومة ان يكون مركز قوة في البلاد، فتعاقبت 56 حكومة، كان آخرها تلك التي ترأسها فايز الطراونة، وهو من المقربين من الأمير حسن، هذا الأمير الذي قطع الحسين فترة علاجه لينقل ولاية العهد منه الى ابنه البكر، عبدالله الثاني ابن الحسين الذي نودي به ملكاً يوم وفاة والده في 7/2/1999. عند هذه الخلافة تتوقف احداث الكتاب لتبقى صعوبة حكم بلد كالأردن، واستحالة عزل هذا البلد عن محيطه العربي، وعما يدور في الضفة المقابلة، فيستمر النزاع بين الديموقراطية، المقننة والمقيدة، وبين الصلح المنفرد، والعاجز عن تأمين الدفء المطلوب، ومن دون ان يعني ذلك ان ثمة بديلاً أفضل خارج التسوية، أو خارج الديموقراطية. * كاتب لبناني.