كان متوقعاً أن تجرى انتخابات 2010 في الأردن بأعلى درجات الشفافية والنزاهة نظراً الى غياب التحدي الإسلامي. وللتكلفة العالية التي دفعتها البلاد من انتخابات 2007 التي وصفت في تقارير مستقلة بأنها «الأسوأ» في تاريخ البلاد، والتي أفضت إلى بلديات ومجلس نيابي قدموا نموذجاً أساء للناخبين، وسارعت الدولة إلى التخلص منهم قبل انتهاء ولايتهم، وفي رسالته إلى رئيس الوزراء سمير الرفاعي انتقد العاهل الأردني المجلس النيابي المنحل علانية، داعياً إلى عدم تكرار أخطاء الماضي. ما حصل في انتخابات 2010 كرر أخطاء الماضي، وليس أدل على ذلك من التغيير الذي طاول وزير الداخلية نايف القاضي، فالوزير الذي يرفع نسبة التصويت إلى 53 في المئة في ظل المقاطعة الإسلامية يستحق المكافأة. وبدلاً منها أخرج الوزير وعين بدلاً منه سعد هايل السرور الذي يزعم أنصاره أنه أسقط في الانتخابات بفعل تدخل الوزير لمصلحة ابن شقيقه الذي حصل على أعلى الأصوات في دائرة بدو الشمال. وفي مستوى أدنى توقف المتابعون أمام إحالة مساعد مدير الأحوال المدنية المسؤول عن طباعة بطاقات الهوية على التقاعد. خصوصاً أن كثراً من المرشحين المحتجين أظهروا كميات من بطاقات الهوية المزورة المطبوعة بحرفية تشي بأن جهة رسمية قامت بها لا هواة مناصرين لمرشح. رد الفعل على «التدخل والتزوير» كان عنفاً لم يعرفه المجتمع الأردني من قبل في المناطق المدينية ولا العشائرية. فإضافة إلى العوامل الاقتصادية والاجتماعية، كان التدخل عاملاً حاسماً في إطلاق شرارة العنف. فأبناء العشائر غير المعارضين لا يتفهمون ولا يقبلون التدخل ضدهم، على خلاف الإسلاميين الذين يتفهمون محاولات تهميشهم. والمثال الصارخ وزير الداخلية الجديد سعد هايل السرور، فلماذا يحارب، وهو وعشيرته من الحلفاء التقليديين التاريخيين للنظام بل إن والده هايل السرور حكم بالإعدام في سورية متهماً بالعمل مع الملك حسين ضد عبدالناصر، والابن شغل الموقع الوزاري من قبل وترأس مجلس النواب لدورات. قد يكون «صراع النخب» من أسباب التدخل، فكل مسؤول في منطقة يسعى إلى تحطيم منافسيه وتقديم حلفائه، وبين انتخابات وأخرى يعمل المسؤولون في الدولة على «تغيير» النخب، فتتحول الأخيرة إلى نخب مشتتة الولاء لا إلى نخب موالية للدولة. وفي هذه الانتخابات حاولت الدولة أيضاً «تغيير» المعارضة. ففي مدينة السلط غرب العاصمة الأردنية اندلعت المواجهات العنيفة بسبب اتهام عشيرة الخريسات، ومرشحها غير المعارض للحكومة، بالتزوير لمصلحة مرشح شيوعي سابق، وقدم أبناء العشيرة لوسائل الإعلام أدلة مادية على التدخل، إذ حصل المرشح الشيوعي السابق وهو ابن عشيرة منافسة من خارج السلط على أكثر من ألف صوت في معقلهم، إضافة إلى شواهد حسية تتعلق بأوراق الاقتراع والصناديق. التدخل لمصلحة بناء كتلة معارضة «يسارية» تملأ فراغ الإسلاميين، لمس قبل إجراء الانتخابات من خلال نشاط وزير التنمية السياسية في إعداد قوائم المرشحين الذين يشكلون المعارضة البديلة للإسلاميين، والوزير موسى المعايطة قيادي سابق في حزب اليسار الديموقراطي فشل في فتح حوار مع الإسلاميين لثنيهم عن المقاطعة، تماماً كما فشل في إقرار مشروع قانون الانتخابات «الإصلاحي» الذي دخل الحكومة من أجله! أهمل قانون الوزير الذي شكل أرضية لندوات وحوارات ثنائية وجماعية وجماهيرية وأقر قانون «الدوائر الوهمية» الذي لا يقل طرافة عن قانون الصوت الواحد. لم تدر الحكومة ولا وزارة الداخلية ولا وزراة التنمية السياسية ولا غيرها من جهات كلفت بصياغة قانون جديد و «طبخ» بين مرجعين سياسيين محافظين، وهما رئيس مجلس الأعيان السابق زيد الرفاعي ونائب رئيس الوزراء رجائي المعشر، ولم يكن مستغرباً في السياسات الأردنية المتقلبة أن يخرج المعشر الذي طبخ القانون من مجلس الوزراء ومن مجلس الأعيان مع أنه يستحق المكافأة في ظل الإنجاز الانتخابي، وفي إطار «التغيير» عين بديلاً عنه في مجلس الأعيان شاب من عشيرته يفوقه اقتصادياً إلا أنه ليس في مثل خبرته السياسية. إذاً، بعد الانتخابات غادر الحياة السياسية من طبخ قانون الانتخابات ومن أجراها. وهو ما يشي بعدم رضا عما حصل. فلماذا حصل ما حصل؟ يحاول بعض خصوم «المملكة الرابعة» أن يربطوا «التدخل والتزوير» بها سواء لجهة قوانين الانتخابات المسلوقة على عجل أم التدخل المباشر في سير العملية الانتخابية. وهذا غير دقيق فمع قدوم الملك عبدالله الثاني أجريت انتخابات بلدية مشهود بنزاهتها في عام 1999 وانتخابات نيابية في عام 2003 وفق القانون القديم مع تغييرات شكلية. شاركت المعارضة الإسلامية وحصلت على حضور معقول. ولم يحصل التدخل الفج إلا في عام 2007، وهو ليس نادراً في التجربة الديموقراطية الأردنية. لا يشكك أحد بنزاهة انتخابات 1989 التي أفضت إلى التحول الديموقراطي، لكن بعدها وفي عام 1993 حل مجلس النواب وفرض قانون الصوت الواحد المجزأ بغياب المجلس، وإلى اليوم يشكل هذا التدخل غير الدستوري العامل الحاسم في تحجيم المعارضة الإسلامية ومنع تداول السلطة. أما التدخل في الإجراءات فقد حصل ولو بصورة محدودة في انتخابات 93 و97 وبصورة مكشوفة في بلدية الزرقاء عام95. ليست «المملكة الرابعة» المسؤولة، فمن المسؤول إذاً؟ لا شك أن الطبقة السياسية والأمنية في الأردن، ومنذ أحداث أيلول (سبتمبر) 1970، ظلت تنظر بريبة إلى الديموغرافيا الفلسطينية. وخلافاً لتصور الملك حسين الوحدوي مع الفلسطينيين كانت مرحبة بقرار فك الارتباط مع الضفة الغربية عام 1988. وتسعى إلى تفعيله داخلياً في الضفة الشرقية. وقبل فك الارتباط أجرت دائرة الاستخبارات العامة إحصاء لأعداد الأردنيين من أصل فلسطيني خارج الضفة الغربية، وكانت نسبتهم 48 في المئة. بعد قرار فك الارتباط ظلت تنخفض هذه النسبة بسبب «المرونة» في تطبيق القرار وبلغت نسبتهم اليوم وفي آخر إحصاء 43 في المئة. تلك الإحصاءات تعكس «وهماً» لخطر ديموغرافي، فعند وحدة الضفتين عام 1950، وبحسب المؤرخ الأردني الدكتور محمد محافظة في كتابه «العلاقات الأردنية - الفلسطينية السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، 1939 - 1951» فإن «سكان الضفة الشرقية من دون الفلسطينيين العرب لن يزيد في عام 1952 على 440 ألف نسمة، ومن هنا ندرك أن عدد الفلسطينيين العرب في المملكة الأردنية كان بعد إعلان الوحدة بعامين حوالى 890 ألف نسمة أي ما يعادل ضعف سكان الضفة الغربيةالشرقية الأصليين». المفارقة أن التفوق الديموغرافي الفلسطيني لم يؤد في حينه إلى خوف الشرق أردنيين على هويتهم الوطنية بل ان العكس قد حصل، وهو خوف الفلسطينين على هويتهم المهددة من المشروع الصهيوني، وفي مناقشات دستور 1952 توثق سجلات مجلس النواب تلك المخاوف التي طالبت بأن ينص على الهوية الفلسطينية، وتم تجاوز ذلك بالهروب إلى الهوية العربية الجامعة للشعبين، ونص الدستور على أن الأردن «جزء من الأمة العربية». على خلاف كثير من تجارب الوحدة في العالم العربي، شكلت الديموقرطية حلاً للمخاوف والهواجس، فالوحدة بنصها الدستوري قامت على اساس ديموقراطي، فقد نص قرار الوحدة أولاً على الحكم النيابي الملكي، وعدل دستور 1952 من «ملكي نيابي» بحسب دستور 1946 إلى «نيابي ملكي». ولم يملك معارضو الوحدة غير الانخراط في الانتخابات التي أفرزت من بعد حكومة ائتلاف الحزب الاشتراكي برئاسة سليمان النابلسي أول حكومة حزبية في تاريخ البلاد. لم يشارك أبناء دولة الوحدة على أساس «المحاصصة» بل على أساس البرنامج السياسي، وعن مدينة القدس حصل على أعلى الأصوات يعقوب زيادين وهو مسيحي من فلاحي شرق الأردن، وصار شيوعياً أثناء دراسة الطب في بيروت. نجح «دواء» الديموقراطية بعد عقود في انتخابات 1989، فمع أنها أجريت بعد قليل من فك الارتباط، إلا أنها شهدت فوزا كاسحاً للإسلاميين والقوى الوحدوية، فقد حصل على أعلى الأصوات في المناطق ذات الأكثرية من أصول فلسطينية شرق أردنيين، وذهبت معظم أصوات مخيم البقعة لابن السلط عبداللطيف عربيات مرشح الإخوان المسلمين، تماماً كما ذهبت معظم أصوات مخيم الزرقاء لبسام حدادين مرشح الجبهة الديموقراطية. وهو شرق أردني انخرط في صفوف الجبهة التي يقودها إلى اليوم نايف حواتمة ابن مدينة السلط الأردنية. تلك الوقائع وغيرها لم تصمد أمام رغبات صناع الوهم، سواء وهم الخطر الإسلامي، أم وهم الخطر الديموغرافي الفلسطيني. فعلى رغم حصولهم على الأكثرية في انتخابات 89 لم يشكل الإخوان المسلمون الحكومة، وشاركوا في لجنة الميثاق الوطني الذي شكل عقداً اجتماعياً جديداً بين النظام والمعارضة، ومنحوا الثقة لحكومة مضر بدران من دون أن يشاركوا فيها ثم شاركوا بخمس وزارات. ولم تشهد تلك الانتخابات انقساماً أردنياً - فلسطينيا ولا تغولاً فلسطينياً كان يمكن أن يحدث بسبب القانون الانتخابي الدستوري المعتمد على القوائم. تراجع التحول الديموقراطي، أو توقفه منذ عام 93 بسبب خطرين وهميين. وفي الانتخابات الأخيرة وبعد فشل كل محاولات تغيير قانون الانتخابات غير الدستوري اختار «المستهدفون بالوهم» من الإسلاميين الانسحاب بسبب «الدوائر الوهمية» التي سمحت بفوز نائب حصل على نصف أصوات خاسر في الدائرة نفسها! وهي أحجية لا تحدث في بلد آخر في العالم. ولم يكن انسحاب الإسلاميين من المعركة السبب الوحيد لانخفاض التمثيل الفلسطيني إلى 12 في المئة، وهو ما لم يحدث منذ عام 1950، فثمة مرشحون مستقلون من أصول فلسطينية كانت لهم فرص معقولة في الفوز غيبوا عن المجلس. تمكن الأردنيون والفلسطينيون من إبداع هوية مركبة متنوعة ثرية صمدت حتى في أحداث أيلول، فقد كان عدنان أبو عودة فلسطينياً مع الدولة في مواجهة نايف حواتمة أردنياً مع الثورة. وقد ظل مجلس نواب الضفتين يعمل حتى عام 88 ولم يشكك أحد بأردنية نائب القدس أو الخليل، ولم تكن الهوية المركبة هوية سياسية صدرت بفعل طغيان حاكم، أو حماسة جماهير في لحظة انفعال. كانت سيرورة من النشاط الاقتصادي والاجتماعي لم يتوقف حتى بعد احتلال الضفة الغربية. ظل الفلسطيني «مواطناً» كامل المواطنة نائباً، ورئيساً لمجلس النواب ورئيساً للوزراء وضابطاً في الجيش والاستخبارات وتاجراً وطبيباً... تماماً كما هو سجين سياسي ومقاتل ضد النظام، وهو في ذلك لم يختلف عن الشرق أردني. بل على العكس فقد كان منسوب المعارضة لدى أبناء شرق الأردن أعلى، فحركة الضباط الأحرار كانت في جلها شرق أردنية. وأحداث 89 التي أفضت إلى التحول الديموقراطي عام 1989 انطلقت من معان جنوب الأردن وامتدت إلى مناطق شرق أردنية، وبفعل غباء الفصائل الفلسطينية بالفرح بقرار فك الارتباط اعتبر الاحتجاج والتحول الديموقراطي لاحقاً شأناً أردنياً. في الانتخابات الأخيرة لم يحتج الإسلاميون ولا الفلسطينيون بعنف، المحتج كان أبناء العشائر الشرق أردنية. ولم تكن لديهم أزمة في الهوية المركبة المتنوعة الثرية. المشكلة الأساسية كانت في الهويات المزورة، بالمعنى الحرفي. قد يحل تغيير وزير الداخلية مشكلة «الهويات المزورة» لكنه لا يحافظ على الهوية الإبداعية التي توشك أن تتحلل إلى هويات فرعية مغرقة في المحلية مناطقياً وجهوياً وعشائرياً. و ما أثبتته انتخابات عامي 1956 و1989 مع أن الأولى أجريت بعد الوحدة والثانية بعد فك الارتباط أن لا حل ل « الهويات القاتلة» بغير الديموقراطية والمواطنة ودولة المؤسسات، ففي الحقب التي طبقت فيها الأحكام العرفية وغيبت المعارضة في السجون ظلت مؤسسات الدولة تعمل بكفاءة.