الوطنية للإسكان (NHC) تتألق في سيتي سكيب الرياض    دراسة التوجهات الدولية في العلوم والرياضيات والمعروف ب TIMSS    هوكشتاين من بيروت: ألغام أمام التسوية    برعاية خادم الحرمين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح منتدى الرياض الاقتصادي    فيصل بن فرحان يبحث المستجدات مع بلينكن وبالاكريشنان    أمير تبوك: «البلديات» حققت إنجازاً استثنائياً.. ومشكلة السكن اختفت    «الوظائف التعليمية»: استمرار صرف مكافآت مديري المدارس والوكلاء والمشرفين    «الشورى» يُمطر «بنك التنمية» بالمطالبات ويُعدّل نظام مهنة المحاسبة    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة.. الأحد    نائب أمير جازان يطلع على جهود تعليم جازان مع انطلاقة الفصل الدراسي الثاني    السعودية ترفع حيازتها من سندات الخزانة 1.1 مليار دولار في شهر    مصير «الأخضر» تحدده 4 مباريات    المملكة تتسلّم علم الاتحاد الدولي لرياضة الإطفاء    خيم نازحي غزة تغرق.. ودعوات دولية لزيادة المساعدات    القافلة الطبية لجراحة العيون تختتم أعمالها في نيجيريا    فيتو روسي ضد وقف إطلاق النار في السودان    دعوة سعودية لتبني نهج متوازن وشامل لمواجهة تحديات «أمن الطاقة»    المملكة تؤكد خطورة التصريحات الإسرائيلية بشأن الضفة الغربية    يوم الطفل.. تعزيز الوعي وتقديم المبادرات    ياسمين عبدالعزيز تثير الجدل بعد وصف «الندالة» !    تحالف ثلاثي جامعي يطلق ملتقى خريجي روسيا وآسيا الوسطى    التزام سعودي - إيراني بتنفيذ «اتفاق بكين»    22 ألف مستفيد من حملة تطعيم الإنفلونزا بمستشفى الفيصل    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود الجمعيات الأهلية    العامودي وبخش يستقبلان المعزين في فقيدتهما    فرص تطوعية لتنظيف المساجد والجوامع أطلقتها الشؤون الإسلامية في جازان    أمير القصيم يستقبل السفير الأوكراني    سهرة مع سحابة بعيدة    الرومانسية الجديدة    واعيباه...!!    الشؤون الإسلامية في جازان تقيم عدد من الفعاليات التوعوية والتثقيفية وتفتح فرصاً تطوعية    «قمة الكويت» وإدارة المصالح الخليجية المشتركة!    العصفور ل«عكاظ»: التحولات نقطة ضعف الأخضر    إدارة الخليج.. إنجازات تتحقق    في مؤجلات الجولة الثامنة بدوري يلو.. النجمة في ضيافة العدالة.. والبكيرية يلتقي الجندل    نجوم العالم يشاركون في بطولة السعودية الدولية للجولف بالرياض    25% من حوادث الأمن السيبراني لسرقة البيانات    أرامكو توسع مشاريع التكرير    ثقافات العالم    سفارة كازاخستان تكرم الإعلامي نزار العلي بجائزة التميز الإعلامي    المعداوي وفدوى طوقان.. سيرة ذاتية ترويها الرسائل    القراءة واتباع الأحسن    جمع الطوابع    تعزيز البنية التحتية الحضرية بأحدث التقنيات.. نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية    صدور موافقة خادم الحرمين الشريفين.. استضافة 1000 معتمر من 66 دولة    منتدى مسك العالمي.." من الشباب لأجل الشباب"    كلب ينقذ سائحاً من الموت    مراحل الحزن السبع وتأثيرتها 1-2    الاستخدام المدروس لوسائل التواصل يعزز الصحة العقلية    تقنية تكشف أورام المخ في 10 ثوانٍ    نائب وزير الدفاع يلتقي وزير الدولة لشؤون الدفاع بجمهورية نيجيريا الاتحادية    نائب أمير مكة يستقبل رئيس الشؤون الدينية بالمسجد الحرام والمسجد النبوي    محافظ الطائف يستقبل الرئيس التنفيذي ل "الحياة الفطرية"    مجمع الملك فهد يطلق «خط الجليل» للمصاحف    أمير تبوك يستقبل المواطن ممدوح العطوي الذي تنازل عن قاتل أخيه    سلطنة عمان.. 54 عاماً في عز وأمان.. ونهضة شامخة بقيادة السلطان    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    لبنان نحو السلام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة سياسية مليئة بالمواجهات الداخلية والخارجية ومعركة شرسة مع المرض بقي يقاوم فيها حتى اللحظة الاخيرة . تولى الحكم يافعاً ... وحاول اقناع اسرائيل بالسلام لكنه فشل الأزمات الداخلية قادته نحو الديموقراطية ... والمعاهدة دفعته الى الحد منها
نشر في الحياة يوم 06 - 02 - 1999

ثمانون في المئة من الاردنيين لم يعرفوا حاكماً غير الملك حسين 63 سنة الذي غادر الدنيا بعد ان امضى اكثر من 46 سنة على عرش المملكة الاردنية الهاشمية التي استقلت عام 1946. فيما تغيرت عليهم 57 حكومة.
عندما تولى الملك حسين عرش بلاده كان أتم 18 سنة قمرية حسب شرط الدستور. وكان يومها اصغر حكام المنطقة في بلد صغير الحجم محدود الموارد والامكانات. لم تكن مهمة الحاكم الفتى سهلة في بلد استقبل نصف مليون لاجئ فلسطيني عقب نكبة 1948 وينخر بالدعوات القومية واليسارية ولم يمض على توحيد ضفته الفلسطينية ثلاث سنوات معطوفاً على ذلك تهديد اسرائيلي قائم، وجوار عربي مليء بالاحتمالات.
ادرك الملك مبكراً ان الانفراج السياسي اقصر الطرق للخروج من الازمات التي تعاني منها بلاده، وبعد ثلاثة ايام من توليه الحكم امر رئيس وزرائه فوزي الملقي بادخال سلسلة اصلاحات ليبيرالية في مجالات حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية تشكيل الاحزاب. واعتمدت تلك الاصلاحات بشكل اساسي على دستور البلاد النافذ الذي اقر في عهد والده الملك طلال سنة 1952.
ومع مضيه في الاصلاحات الديموقراطية كان الملك حسين يستشعر خطورة الراديكاليين من القوميين واليساريين، الذين نموا في اجواء مقتل جده الملك عبدالله في ساحة المسجد الاقصى سنة 1951 امام ناظريه. وكان القاتل صوّب الرصاص نحو الحفيد الذي نجا باعجوبة بعد ان اصطدمت الرصاصة بميدالية معلقة على صدره. تلك اللحظات ظلت حاضرة في ذهن الملك، ويقول في مذكراته التي حملت عنوان "متاعب تؤرقني" عن ذلك "اليوم العصيب… ادركت اهمية الموت فعندما يكون مكتوباً عليك الموت فإنك ميت لا محالة، فذلك هو قضاء الله. وهكذا ادركت معنى السلام الداخلي الذي وهبه الله الى اولئك الذين لا يهابون الموت".
في انتخابات 1956 حققت القوى القومية واليسارية الراديكالية غالبية برلمانية، وكلف الملك امين عام الحزب الاشتراكي الاردني سليمان النابلسي بتشكيل الحكومة التي نالت ثقة مجلس النواب الذي ضم اشتراكيين وشيوعيين وبعثيين اضافة الى الاخوان المسلمين وممثلي العشائر. وفي العام نفسه عرّب الملك قيادة الجيش الاردني وطرد الضباط البريطانيين وأنهى المعاهدة الاردنية - البريطانية.
وعلى رغم انسجام الملك مع الاهداف التي اعلنتها القوى القومية واليسارية الاردنية وتنفيذ مطالبها الا ان ذلك لم يمنع "الضباط الاحرار" من محاولة الانقلاب عليه، وهم خليط من الضباط الوطنيين والبعثيين والناصريين. كان على رأسهم رئيس اركان الجيش الاردني علي ابو نوار الذي تساءل ذات اجتماع "اذا كان الجيش معنا والشارع معنا، فمن مع الملك اذن؟". غير ان تقديراتهم لم تكن دقيقة، فاضافة الى ارتباكهم تنظيمياً وجد الملك في العشائر البدوية حليفاً قوياً داخل الجيش وخارجه. وعلى صعيد الشارع كان الاخوان المسلمون يفضلون الملك الذي ينسَب الى آل البيت على الضباط الذين يذكرونهم بما فعله عبدالناصر بهم. معطوفاً على ذلك دعم غربي لم ينقطع. كل ذلك مكنه من التغلب على الضباط الاحرار الذين فروا الى سورية ومصر، ليعيدهم من بعد الى مواقع المسؤولية.
في العقد الاول من حكمه برزت للحاكم الفتى تناقضات يصعب الجمع بينها. فهو ينسَب الى بيت النبوة وجده ثار لتحرير العرب من الاتراك تحت شعار "حفظ الدين وحرية العرب". وبعد الثورة قدم الامير عبدالله الى الاردن وهو يتطلع نحو سورية الواقعة آنذاك تحت الاحتلال الفرنسي، لكن ذلك الموروث يواجهه واقع مرير، فامارة شرق الاردن نشأت بمعونة بريطانية بلغت خمسة آلاف جنيه. والجيش يقوده الجنرال كلوب البريطاني الجنسية والبلد الصغير محاط بجيران اقوياء، العراق وسورية اللذين لم تبرد عواطفهما القومية. والسعودية ذات الثقل السياسي والاقتصادي. ثم هناك الجار المزعج اسرائيل الذي لا ينفك عن تصدير الدمار واللاجئين. وحين قامت دولة الوحدة بين سورية ومصر برئاسة جمال عبدالناصر، حاول الملك ايجاد حليف عربي من خلال "الاتحاد الهاشمي" مع المملكة العراقية، وصار نائباً لإبن عمه فيصل الثاني، لكن ذلك الاتحاد لم يعمر اكثر من اربعة اشهر قضى بعدها ابناء عمومته في مذبحة على يد "الضباط الاحرار" في العراق هذه المرة. لكن الملك حسين وجد اقرب جيرانه اليه آل سعود الذين كانوا يوماً اعداء لأجداده، دعمت السعودية الاردن في مواجهة النهج الناصري. والقلاقل التي تمتد الى خارج الحدود.
لم تكمل الديموقراطية عامها الخامس حتى اعلنت الاحكام العرفية في ربيع 1957. واستمرت تلك الاحكام ثلاثة عقود متواصلة. صمد الملك حسين امام المد الناصري، وفي عقد الستينات افادت بلاده من الاستقرار والمساعدات الغربية وبنيت اول جامعة في العام 1962 وتطورت صناعات البوتاس والاسمنت والفوسفات، وقبيل حرب 1967 كان الاردن شهد معدلات نمو عالية.
لم يكن الملك راغباً في دخول الحرب. ولكن عندما ادرك انها واقعة وانسجاماً مع الاجماع الرسمي العربي وضغط الشارع، اقترح على عبدالناصر توقيع اتفاقية للدفاع المشترك، ووافق عليها عبدالناصر وصارت القوات الاردنية تحت امرة الفريق عبدالمنعم رياض. ومع انتهاء الحرب خسر الملك حسين نصف مملكته وعلى رأسها القدس ونزح الى الضفة الشرقية ثلاثمئة الف فلسطيني، وهم كما اللاجئين منذ العام 1948 يتمتعون بالجنسية الاردنية الكاملة.
عمل الهاشميون منذ وقت مبكر انطلاقاً من قاعدة مفادها ان لا امكانية للقضاء على اسرائيل عسكرياً، وكانت نظريتهم تقوم على استيعاب "السكان اليهود" في اطار الدولة العربية. وعرض الملك عبدالله على غولدا مائير حكماً ذاتياً قبيل حرب 1948 عندما التقاها في عمان سراً لكنها رفضت. وعندما وقعت الحرب عام 1948 كان الجيش الاردني يسيطر على القدس الشرقية واجزاء من الضفة الغربية. وتبنى الملك حسين نظرية اجداده وقال في لقاء مع ضباط الجيش بعد توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل في 1994 ان اسرائيل نقطة في بحر عربي. بعد هزيمة 1967 تباحث الملك حسين مع الرئيس الاميركي نيكسون للتوصل الى السلام وايد مشروع روجرز وسط معارضة عربية وفلسطينية، غير ان البحث عن السلام لم يمنع المدفعية الثقيلة للجيش الاردني من مشاركة الفلسطينيين في التصدي للدبابات الاسرائيلية في معركة الكرامة سنة 1968. وظل العمل الفدائي يعمل بحرية انطلاقاً من الأردن حتى سنة 1970، حيث وقعت بينهما مواجهة ساخنة، انتهت بخروج العمل الفدائي من الأردن.
دخل الملك حسين عقد السبعينات مثخناً بجراح هزيمة 1967 وأحداث ايلول سبتمبر 1970، لكن ذلك العقد كان الافضل اقتصادياً، فاضافة الى المساعدات الغربية والعربية كان ثمة اربعمئة الف اردني يعملون في دول الخليج الغنية يقومون بتحويل مدخراتهم الى ذويهم. وفي ذلك العقد اعترف الأردن بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974، ورفض كامب ديفيد في قمة بغداد 1979.
كان الملك يوازن بين قناعاته وبين قناعات الشارع الأردني والقادة العرب، فهو لم يكن مقتنعاً بقرار الرباط، فالأردن هو صاحب الشرعية القانونية على أراضي الضفة الغربية وحوالى نصف سكانه لاجئون ونازحون. لكنه وافق على قرار القمة باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً، ولم يكن الملك كذلك مقتنعاً برفض كامب ديفيد لكنه وافق على قرارات قمة بغداد. كان الملك يأمل بالتوصل الى اتفاق سلام مع الاسرائيليين الذين لم تنقطع اتصالاته غير الرسمية السرية بهم. وفي غضون ذلك كان دائم البحث عن حليف عربي، الاتحاد الهاشمي في الخمسينات لم يدم شهوراً، بعدها ظلت العلاقات دافئة مع الدول العربية المحافظة في الخليج لكنها لم ترتق الى مستوى البحث في الوحدة. لكن في العام 1978 تطورت العلاقات مع سورية وبدأ البحث في "سد الوحدة" ومشاريع اقتصادية، وجرى توحيد مناهج الصفوف المدرسية للمرحلة الاساسية. لكن احلام الوحدة تبخرت مع اندلاع الحرب العراقية - الايرانية.
انحاز الأردن الى جانب العراق في حربه مع ايران، وتمكن من تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية، فالعراق بكل ما يمثله من ثقل في ذلك الحين كان الى جانب الأردن، وكانت الى جانبه ايضاً دول الخليج الغنية. صار الأردن في وضع اقليمي افضل وازدهر اقتصاده وقوي جيشه. وتطورت العلاقات مع العراق من خلال مجلس التعاون العربي الذي ضم الى جانبهما مصر واليمن، لكن نهاية عقد الثمانينات لم تكن مبشرة مثل بدايته. انتهت الحرب العراقية - الايرانية وبدأ الأردن يشارك العراق في المغرم كما شاركه في المغنم، وفي نيسان 1989 عجز البنك المركزي الأردني عن الوفاء بمتطلبات توفير النقد الصعب للتصدير الى العراق مما اسهم في انخفاض سعر الدينار الى النصف، ارتفعت اسعار الوقود لتندلع مواجهات عنيفة في مدينة معان جنوب الأردن، وكانت تلك المواجهات حافزاً للتفكير بتوفير نوع من الديموقراطية يحفظ التوازنات الداخلية.
لم يكن خيار الديموقراطية سهلاً بعد غياب الانتخابات البرلمانية حوالى عقدين وغياب الاحزاب ثلاثة عقود مع حضور دائم للأزمات الاقتصادية والسياسية. اقصى الملك حسين حكومة زيد الرفاعي وكلف ابن عمه الامير زيد بن شاكر بتشكيل حكومة اشرفت على انتخابات اجمع الأردنيون على نزاهتها.
برزت اثر الانتخابات المعارضة الاسلامية قوة سياسية اولى في البلاد مما اثار مخاوف الطبقة السياسية المتنفذة والحلفاء الغربيين. لكن الملك حسين يعرف الاخوان المسلمين جيداً منذ وقوفهم الى جانبه في الخمسينات. وأعلن في مؤتمر صحافي بعد انتخابات 1989 "نحن نريد ان نتقدم الى الاسلام لا ان نرجع اليه" وكلف مضر بدران القريب من الاسلاميين بتشكيل حكومة حازت على ثقة الاخوان المسلمين بعد التزامها بتنفيذ شروطهم ومن ابرزها الغاء الاحكام العرفية و"التوجه" نحو تطبيق الشريعة الاسلامية، وعدم التفريط بذرة من تراب فلسطين!
كان الملك حسين مطمئناً الى الجبهة الداخلية عندما اندلعت حرب الخليج الثانية، وانسجم مع المشاعر الشعبية المعادية للولايات المتحدة، وأثناء الحرب كان النفط العراقي ينقل بالصهاريج الأردنية التي كانت عرضة لضربات الطائرات الاميركية.
انساق الملك حسين في موقف غير منسجم مع حلفائه العرب التقليديين ليأسه من امكانية تحقيق حل عربي للأزمة، وكان يشعر ان تدمير العراق يعني تدمير الأردن الذي وفد اليه مليون لاجئ، وهو الذي لا يزيد عدد سكانه على 3.5 مليون في ذلك الحين، واستقر منهم بصورة دائمة ثلاثمئة الف وهم الفلسطينيون الذين طردوا من الكويت والذين يحملون الجنسية الأردنية.
في خضم حرب الخليج الثانية التقى الملك سراً مع رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق شامير في لندن، اللقاء هدف الى اتفاق يمنع "اسرائيل" من اجتياح الأردن مقابل التزام الأردن بعدم استخدام الجيش العراقي لأراضيه.
انتهت حرب الخليج الثانية وقد خسر الأردن صداقته مع الولايات المتحدة ومع السعودية فيما تم تدمير القوة العسكرية والاقتصادية لأقرب حلفائه العراق. وتعرض ميناء العقبة لحصار شبيه لحصار العراق. لأول مرة في تاريخه وجد الملك حسين نفسه بلا اصدقاء باستثناء دول الضد العربية وسلطنة عمان، اضافة الى بعض الدول الغربية مثل فرنسا وألمانيا.
الاخبار السيئة لم تنقطع في مطلع التسعينات، فقد ظهرت اورام السرطان لدى الملك حسين في الحالب والكلية. ولأول مرة يغادر الى الولايات المتحدة في زيارة غير رسمية ليعالج في عيادة مايو كلينيك. استغل الملك حسين تلك الزيارة لوصل ما انقطع مع أصدقائه الأميركان. وجه رسالة خطية إلى الرئيس الأميركي بيل كلينتون أكد فيها رغبته في تحقيق حلم السلام الذي قضى جده الملك عبدالله في سبيل التوصل إليه. وكانت الحكومة الأردنية شاركت في مؤتمر مدريد بوفد مشترك يمثل الأردن ويعطي مظلة للفلسطينيين. لكن الوفد الأردني المفاوض برئاسة عبدالسلام المجالي كان يراوح مكانه، فالشارع الأردني الذي يشكل اللاجئون والنازحون الفلسطينيون حوالى نصفه يرى في إسرائيل عدواً وجودياً، وما زال الشارع كذلك مصدوماً بما حل في العراق "الذي كان سيحرق نصف إسرائيل". أما الحكومة التي كان يرأسها طاهر المصري استمرت 6 شهور، فكانت تنفي عن نفسها تهمة "المفاوضات" على رغم مشاركتها في مدريد. لاحظ الملك ان السلام لا يمكن أن يتناغم مع الديموقراطية، فحاول ايجاد مساومة بينهما، وكانت كل خطوة باتجاه السلام تقابلها خطوة إلى الوراء ديموقراطياً. مع ذلك كان الملك حسين مصراً على الجمع بينهما ولو بالاحتفاظ بحد أدنى من الديموقراطية وحد أعلى من السلام. استفاد الملك من رصيده المعنوي لدى الشعب الأردني في تمرير معاهدة السلام، وبلغ ذلك الرصيد ذروته عقب عودته من رحلة العلاج الأولى، إذ ضاقت شوارع عمّان بحوالى مليون مواطن احتشدوا لتهنئته بالشفاء. وشهدت تلك السنة والتي تلتها إقرار أهم التشريعات الديموقراطية.
كان البرلمان الحادي عشر الذي امتدت دورته من 1989 إلى 1993 قد أسس البنية التحتية للديموقراطية من خلال قوانين إلغاء الأحكام العرفية والمطبوعات والأحزاب ومحكمة العدل العليا ومحكمة أمن الدولة والانتخابات. وكانت المعارضة الإسلامية والقومية واليسارية تشكل ثقلاً مؤثراً فيه، وكان استمرار ذلك المجلس يشكل عقبة في وجه التوصل إلى اتفاقية سلام مع إسرائيل.
كلف الملك حسين عبدالسلام المجالي تشكيل حكومة في العام 1993 عدلت قانون الانتخابات في غياب البرلمان وأجرت انتخابات تعرضت لانتقادات بفعل تدخل الحكومة. وتم انتخاب مجلس نواب تسيطر عليه غالبية عشائرية محافظة مع حضور للتيار الإسلامي. وبدا واضحاً منذ انطلاق مسار السلام أنه يتعارض مع الديموقراطية وبلغ التعارض ذروته بمقاطعة التيار الإسلامي لانتخابات 1997 احتجاجاً على التراجع عن الديموقراطية والذي تجلى في ذلك العام بإقرار الحكومة لقانون مطبوعات قمعي في غياب البرلمان.
لكن الملك حسين لم يتوقف عن كيل المديح للحركة الإسلامية على رغم مقاطعتها الانتخابات، ووصفها في إحدى خطاباته بأنها "من عظام الرقبة". وكانت الحركة التي أقام معها علاقات دافئة على مستوى ثقته. فقد تعاملت بانضباط مع جميع الاضطرابات التي شهدتها البلاد منذ عام 1989 وأحداث الخبز في 1996 وأحداث معان في 1997.
كان الملك حسين يدرك الصعوبات الاقتصادية التي تواجه بلاده بعد انقطاع المساعدات العربية إثر حرب الخليج الثانية ولجوء ثلاثمئة ألف فلسطيني كانوا يقيمون في الكويت. وجاء ذلك عقب نزول سعر صرف الدينار إلى النصف عام 1989، فيما زادت الديون على 7 مليارات دولار. لم تكن الخيارات سهلة، فإما الدخول في قطار التسوية وانتظار وعود الرخاء أو الانضمام إلى العراق المحاصر. التحق الأردن بقطار السلام وأعفته الحكومة الأميركية من ديونها البالغة 710 ملايين دولار، وأقر الكونغرس الأميركي في ما بعد مساعدات سنوية للأردن بقيمة 225 مليون دولار. أخذ المعارضون للملك حسين عليه اندفاعه في علاقاته مع إسرائيل، لكنه كان يرد على ذلك بأن السلام اما حقيقي ودافئ، واما غير حقيقي وغير دافئ. وكان يرى أن على العرب أن يقنعوا الإسرائيليين بمغادرة القلعة التي يعيشون فيها.
مكن "السلام الدافئ" الملك حسين من لعب دور أساسي في مسيرة التسوية، فهو يحظى بالقبول والصدقية لدى الشارع والحكومة الإسرائيليين. وتجلى ذلك في دوره في التوصل إلى اتفاق الخليل وواي بلانتيشين. والافراج عن رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" موسى أبو مرزوق وانقاذ حياة خليفته خالد مشعل، والافراج عن مؤسس الحركة أحمد ياسين.
مع قرب انتهاء عقد التسعينات عاود السرطان الملك حسين مجدداً، واضطر إلى البقاء في عيادة مايو كلينك قرابة نصف عام لمعالجة سرطان الغدة اللمفاوية. إلا أن العلاج الكيماوي "الشرس" حسب وصف الملك، لم ينجح في القضاء على السرطان، وكذلك فشلت عملية زرع النخاع العظمي. لكنه عاد الى بلاده ليجد عشرات الالوف الذين خرجوا على رغم البرد والمطر لاستقباله، وخرج بدوره على عادته، من فتحة السيارة لتحيتهم مخالفاً نصائح الطب والامن. في عودته القصيرة الى البلاد والتي استمرت اسبوعاً استخدم حقه الدستوري في اعادة ولاية العهد الى نجله الاكبر عبدالله 37 سنة بعدما احتفظ بها شقيقه الاصغر الامير حسن 52 سنة ما يزيد على 33 سنة. وفي مقابلة تلفزيونية قال ان ما يشغله تقدم الاردن والديموقراطية والسلام. لكنه مضى دون تحقيق السلام الذي طمح الى تحقيقه فيما تواصل الديموقراطية وجودها.
اما "التقدم" فيبدو واضحاً في الاردن الذي يحقق اعلى نسبة تعليم في العالم العربي حسب احصاءات اليونسكو. وعندما تولى الملك سلطاته كان عدد طلبة المدارس 119 الفاً وهو الآن عدد الذين على مقاعد التعليم الجامعي. ولم تكن في ذلك الحين جامعة واحدة اما اليوم فيصل عدد الجامعات الى 14 جامعة.
ترك الملك حسين وراءه مؤسسات مستقرة سواء على صعيد الدولة او المجتمع. فعلى رغم ما اصاب المسار الديموقراطي ظلت الانتخابات تجرى في موعدها وبقي للبرلمان دوره في التشريع والمساءلة، ومع ان الحكومات يكلفها الملك الا انها تحتاج الى ثقة البرلمان. وبقي للقضاء استقلاله ومكانته وتمكن من ابطال انظمة وقرارات وقوانين شرعتها الحكومة. واحكامه قابلة للاستئناف والنقض لدى المحاكم الاعلى. اما الصحافة فعلى رغم قانون المطبوعات الجديد ظلت تتمتع بدرجة من الحرية. اما المؤسسة الامنية والعسكرية فظلت فوق الخلافات السياسية قادرة على التحرك وأداء دورها في مجتمع حديث. معطوفاً على ذلك رأسمال اجتماعي قوامه عدد كبير من مؤسسات المجتمع المدني والاهلي، من نقابات مهنية وعمالية وجمعيات اهلية.
بلغ حجم اول موازنة صادق عليها الملك حسين سنة 1953 حوالى 15 مليون دينار نصفها معونة بريطانية، فيما بلغت آخر موازنة 100.2 بليون دينار، ضمت عجزاً بحوالى مئتي مليون دينار غطي بقروض محلية.
مضى العاهل الاردني قبل ان توقع حكومته برنامج تصحيح جديد مع صندوق النقد الدولي. فالبرنامج الذي طبق على مدار عشر سنوات منذ 1989 تمكن من خدمة الدين فيما بقي اصله 7 بلايين دولار على رغم اعفاء الدين الاميركي والبريطاني بعد اتفاق السلام مع اسرائيل. وتبين ان نسبة النمو في آخر ثلاث سنوات كانت سالبة ولا تعادل نسبة الخصوبة في الوقت الذي تصل فيه نسبة البطالة الى 26 في المئة.
انتهى عقد التسعينات كما بدأ، ديموقراطية نامية واقتصاد متعثر، مضافاً اليهما سلام مع اسرائيل، لكن من دون الملك حسين هذه المرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.