بعد "طرد" شبح الشيوعية من أوروبا الشرقية يبدو الحلم الرأسمالي كابوساً أكثر منه ملاذاً، فالجوع الذي أحاط بمئات الألوف يتخذ الوجه الأشد بشاعة في طقوس لم تعد القرابين البشرية فيها كافية لإسكات نهم من لا يرحم. في مصر القديمة كانت العذارى يُقَدَّمْنَ اضحية لنهر النيل في موسم فيضانه، وكن يتوجهن نحو مصيرهن هذا في سكينة الضحية. ولم يهدأ النيل حتى عرف المصريون كيفية استغلاله وتوجيه فيضانه بعدما ابتلع آلاف الأماني الصغيرة التي حملتها الأجساد الغضة الى الأبدية. واليوم تقدم آلاف القرابين لوحوش الألفية الثالثة وفي قلب أوروبا! "في كل يوم أستقبل من خمسة الى ستة رجال. اسرتي في مولدوفا. وقلت لهم اني اعمل نادلة في احد المطاعم، إخوتي الصغار لا يستطيعون الذهاب الى المدرسة لأن والدي لا يستطيع دفع النفقات، خصوصاً ان المصنع يتأخر في دفع الرواتب. والأمور تزداد سوءاً يوماً بعد يوم احياناً تقتصر وجبة غذائهم على الخبز. لقد وعدوني بالكثير ان اتيت الى هنا، وقد أتيت حقاً لأبدأ بتعاطي المخدرات وأصبح مدمنة". هذا ما قالته كارمن، التي تبلغ من العمر ثمانية عشر ربيعاً وهي ليست حالاً استثنائياً، بل هي نموذج لعالم كامل. التعب يعلو وجه كارمن وكأنها تجاوزت الثلاثين. اشتراها غوران صاحب الحانة بألف جنيه استرليني لتصبح مومساً. وبعدما دفع نخّاسها الجديد ثمنها باتت تدر عليه ربحاً، وهي لا تزال مدينة له بتكاليف الإقامة والسفر. كما جُرّدت من جواز سفرها في بلد غريب لا تتقن من لغته إلا بضع كلمات ما يزيد في تحويل واقعها الى قدر لا مفر لها منه. فمن غير المسموح لهؤلاء الفتيات التحدث الى الصحافة أو الغرباء لئلا يتعرضن للخطر، ومن المحرم عليهن كذلك الإدلاء بأسمائهن الحقيقية أو أسماء المناطق التي جئن منها. "لم اكن الوحيدة" تقول كارمن، "أتيت مع صديقتين إلا انهم فرّقونا، والواقع انني لا أعرف مصيرهما أو أماكن وجودهما. هنا لا أستطيع ان أعتمد على أحد أو أثق بأحد والتهديدات بإيذاء أسرتي هي الأمر الذي يجعلني أقبل وأذعن. ليس الأمر سيئاً للغاية... هناك دورة مياه في غرفتي، وأستطيع ان استحم مرة في اليوم". وتضيف كارمن انها قرأت اعلاناً للعمل كنادلة في احد مطاعم ايطاليا، فتوجهت مع صديقاتها الى العنوان، وتمت الموافقة على أن يكون الأجر ما يعادل 150 جنيهاً في الشهر مع تغطية تكاليف الرحلة ومن ثم الإقامة في شقة بسيطة الأثاث. هذا العرض المجحف هو بوابة النجاة لفتيات مثل كارمن تتكل اسرهن عليهن كمصدر للدعم المادي. والمؤسف في الموضوع ان معظم الفتيات اللواتي يقعن في هذا الفخ يحملن شهادات جامعية او ثانوية. كارمن على سبيل المثال تحمل إجازة في التمريض. عملت كممرضة في احد المشافي إلا أن التأخر في دفع الرواتب كان أمراً لا يطاق. كارمن ومن معها التقين بالوسيط في إحدى حانات عاصمتهن، ثم اصطحبهن الى الحدود الرومانية ومن هناك الى شقة في صربيا، وكان الاتفاق ان الانطلاق سيكون من بلغراد الى إيطاليا، إلا أن السائق اخذ جوازات السفر ولم يعد أبداً، وتحت التهديد أجبرت كارمن وفتاة اوكرانية على البقاء في الصندوق الخلفي للسيارة بعدما أُخذت صديقتها في سيارة مختلفة. وهناك كادت درجة الحرارة المخفوضة ان تودي بحياة الفتاتين اللتين اجبرتا على الصمت أو الموت. اما نهاية المطاف مبدئياً فكانت في إحدى الحانات... والبقية يشهد عليها وجه كارمن المكدور والمريض، والتشوه الذي اصاب روحها وجسدها. لقد أوقع انهيار المنظومة الاشتراكية في دول اوروبا الشرقية الكثير من الضحايا: فتيات مثل كارمن وغيرها هن المثال الأكثر وضوحاً ومأسوية لهذا التدهور. الإحصاءات غير الرسمية للمنظمات غير الحكومية تفيد أن عشرة آلاف فتاة هرّبن ليعملن كمومسات في البوسنة والجبل الأسود خلال عام واحد. وبعد غياب المراقبة الحدودية على أثر تقسيم يوغوسلافيا وعدم اتخاذ إجراءات مشددة ضد تجارة الرقيق الأبيض تفاقمت الظاهرة وانعكست على شرائح واسعة ممن وجدوا انفسهم في مواجهة الفقر وانتشار الفساد والمافيات التي باتت تتحكم بمصائرهن. ولا تتوقف الممارسات الوحشية عند تجارة الرقيق الأبيض، فالإتجار بالأطفال وبيع اعضائهم وتشغيلهم ربما كان شاهداً آخر على مأسوية الوضع الذي وصلت إليه هذه الدول. وقد وجدت تجارة الرقيق الأبيض سوقاً رائجة لها في العواصم الغربية، فالملاهي الليلية في لندن ودبلن وغيرهما تستقبل الوافدات في حماسة واضحة. وقصة كارمن ليست نسجاً من الخيال وليست تبريراً لما وصلت إليه تلك الفتيات بل هي واقع يتكرر يومياً، وغالباً ما ينطلق هذا العمل نتيجة حيل مشابهة وبوسائل أشد مكراً، حيث تباع الأجساد من دون اي اعتبار انساني، وربما اختلف الشكل إلا ان هذه الممارسة الوحشية تبقى ذاتها. وتعرض الفتيات عاريات في أقفاص خشبية ليستطيع الزبائن معاينة البضاعة عن كثب، ووفقاً لذلك قد يتراوح السعر بين 350 جنيهاً الى 1300 جنيه. وبعد إتمام الصفقة تساق الفتيات الى العالم الليلي، ويصل اجر الفتاة في هذه الملاهي الى 10 جنيهات اي ما يعادل عشر زجاجات من الجعة في حين يصل ربح النخاس من كل فتاة الى قرابة 800 جنيه شهرياً، ولا يتجاوز الأجر الذي تناله الفتاة 40 جنيهاً في الليلة. وتتم إجراءات النقل في "سوق اريزونا" الواقع قرب براكو شمال البوسنة، ويبدو هذا السوق كأنه مقتطع من الغرب الأميركي حيث يباع ويشرى فيه كل شيء من المشروبات الكحولية الى الأسلحة والمخدرات والرقيق الأبيض طبعاً. ومن جانبها تغضّ السلطات الطرف عن هذه الممارسات إذ يقول قائد شرطة منطقة براكو، ميلان ستيلوفيتش في هذا الخصوص: "الدعارة من اقدم المهن في العالم، ولسنا البلد الوحيد الذي تمارس فيه هذه المهنة. فكيف يمكننا معالجة هذا الأمر؟". غالباً ما يستخدم هذا الرد لتبرير ما يجري أو بالأحرى تجاهله، ويصور الأمر وكأنه خيار طوعي فردي من فتيات يعملن في هذه المهنة كوسيلة لكسب العيش. ونصف الحقيقة هنا غائب أو مغيّب، فهؤلاء الفتيات لا يملكن الحق في اجسادهن لأنها مباعة أصلاً. والأمر الأكثر استفزازاً هو التغاضي عن الإجراءات اللاإنسانية والاستغلال الوحشي لمن لا يملك منفذاً أو بديلاً. وتنظر أوساط المجتمع الدولي والأممالمتحدة الى هذه الضحايا كمومسات. وتأتي التصريحات من كبار شخصيات المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان بأن هذه القضايا ستجد طريقها الى الحل سريعاً وبأن سوق اريزونا سيوضع تحت المراقبة وستخضع الحانات لرقابة مشددة. ويبدو في واقع الحال ان هذه النيات ستبقى حبراً على ورق طالما ان هؤلاء الفتيات يسمّين "بعاهرات سوق اريزونا" وتطلق عليهن احكام مسبقة. فعدم تفهم الوضع وعدم امتلاك كنه المشكلة سيجعل من كل هذه المحاولات، جدية كانت ام مصطنعة، إجراءات شكلية وحسب من دون ان تطال الجوهر. تتعرض الفتيات للضرب والإيذاء الجسدي والاغتصاب والتهديد بالقتل ولا يقتصر الأمر عليهن فقط بل يطال أسرهن من قبل عناصر المافيا. وبالطبع ليس لديهن اي مكان يتوجهن إليه، فالذهاب الى مركز الشرطة يعني السجن بتهمة الدعارة والهجرة غير القانونية. والأسوأ هو تورط رجال الشرطة. فالتقارير تؤكد ارتيادهم المواخير على نحو متكرر! وتكمن المفارقة في ان براكو هي مكان تمركز القوات الدولية لحفظ النظام والأمن في البوسنة، وهي مكان القاعدة الأميركية ومركز قوات الأممالمتحدة في فترة ما بعد الحرب. دون توماس احد ضباط الشرطة الدولية على سبيل المثال يعتقد ان "لهذه التجارة وجوهاً عدة، فعلى رغم الشر والأذى اللذين يلحقان بالضحايا إلا أنها تؤمن لهن على الأقل الطعام والمأوى وتؤثر على مستويات اقتصادية مختلفة تشمل الفتيات انفسهن، فمعظم الفتيات يتخذن هذه المهنة بملء خيارهن...". وفي مقابل ذلك، يعمل مكتب اللجنة الدولية لحقوق الإنسان مع الحكومة البوسنية ونظامها القضائي لوضع خطة تمكنهم من الإحاطة بالموضوع وتطويق هذه التجارة، ولعل ذلك هو الخطوة الأهم في هذا المجال فالموضوع يحتاج حقيقة الى تضافر الإجراءات الحكومية. ويعتقد جاك غرينبرغ رئيس بعثة الأممالمتحدة للشؤون المدنية ان المسألة تحتاج الى قوة حدودية فاعلة من شأنها فرض وجودها لمنع عمليات التهريب والتجارة ما يضع حداً للأعداد المتزايدة من الهجرات غير الشرعية. وإلى هنا تبدو هذه الخطوات مساعي حميدة، إلا أن التطبيق العملي يبقى معلقاً. يقول المثل الشعبي: "حاميها حراميها"! ففي القصة ابطال آخرون هم قوات حفظ السلام الدولية، ذلك انه بعد انتهاء الحرب في البوسنة قدم الآلاف من عناصر هذه القوات بغية ضمان تطبيق معاهدة دايتون للسلام. وباعتراف النخاسين وأزلامهم فإن "الزبائن الجدد اكثر كرماً وأكثر لطفاً في المعاشرة!" لكنّ القادمين الجدد ليسوا كلهم لطفاء المعشر فقد قام ستة عناصر من قوات حفظ السلام في كوسوفو باغتصاب فتاتين من مولدوفا ولم يحكم على أي منهم ولم تجر مساءلتهم حتى من قبل القاعدة الأميركية في توزلا المسؤولة عن تمركز هذه القوات. ففي هذه القضايا ايضاً يُتعامل مع عناصر حلف الأطلسي والأممالمتحدة كقوة تمتلك حصانة دولية تمكنها من التملص من المساءلة القانونية البوسنية. وفي تشرين الثاني اكتوبر الفائت قامت مجموعة من عناصر قوات الشرطة الدولية بشن ثلاث غارات على عدد من الحانات "أنقذوا" فيها 30 امرأة، ثلاث منهن يبلغن الرابعة عشرة فقط. ولم يجر تنسيق هذه العمليات مع الشرطة المحلية مما استدعى تطبيق عقوبات مسلكية بسيطة بحقهم لأنهم تجاوزوا حدود سلطاتهم. ويبدو أن للحكاية وجهاً آخر بحسب رواية ميلوراد ميلاكوفيتش صاحب إحدى الحانات الذي يؤكد ان المسؤول الأعلى في قوات الشرطة الأميركية كان يفرض على اصحاب الحانات إتاوات كضريبة للحماية، إلا ان ميلاكوفيتش رفض الدفع مما استدعى شن هذه الغارات كعمل انتقامي. وأوضح ميلاكوفيتش ان ستة من العناصر الذين نفذوا العملية هم جنود اميركيون وبريطانيون كانوا يترددون باستمرار على الحانة التي يملكها حيث تعرضت الفتيات من قبلهم لعمليات اغتصاب متكررة. وقد يعتقد البعض ان ما يقوله ميلاكوفيتش ليس سوى مبالغة أو افتراء تبريري انتقامي إلا ان ما تجدر معرفته هو استقالة العناصر الذين قاموا بالغارة بعد 48 ساعة من توقيفهم للاستجواب. والأمر الأكثر غرابة هو تجاهل القضية وطيها من دون اي اعتبار لما كشفه ميلاكوفيتش من افعال لا إنسانية بحق الفتيات اللواتي "يملكهن". وتشير الوقائع والأدلة ان تهريب الفتيات عبر الحدود بهدف الإتجار بهن بات يشكل ظاهرة تتفاقم يوماً بعد يوم، ذلك ان 70 في المئة من الفتيات العاملات في حانات لندن من اصل روسي او يتحدرن من دول اوروبا الشرقية، حيث يتعرضن لشتى ممارسات العنف الجسدي والنفسي والاستغلال الاقتصادي، والخوف من التهديدات المستمرة من قبل المافيات التي تقوم بعمليات التهريب بما يصل الى حد التلويح بإلحاق الأذى بأسرهن وهو ما يدفع بالضحايا نحو رفض الإدلاء بشهادتهن امام الشرطة حول كل ما يجري معهن. اما العقوبات التي تتخذ في بعض الأحيان فلا تكاد تشكل اي عقبة أو رادع وذلك لأنها لا تقارب بالعقوبات المتخذة ضد مهربي المخدرات، فالإتجار بالفتيات والأطفال جنحة لا تستحق السجن لأكثر من سنتين، وهذا مبرر في مجتمعات اصبح فيها الإنسان سلعة تباع وتشرى في السوق السوداء، والأنكى من ذلك ان تسعيرته بخسة. ولماذا لا تتخذ الحكومات اجراءات صارمة!؟ سؤال يدور في الأذهان ولا يجد جواباً، إلا أن الأرقام تشير الى ان هذه التجارة تدر 9 مليارات جنيه سنوياً وربما تشكل هذه الحقيقة بعضاً من الجواب.