يمكن المراهنة، في السيناريو المتفائل، على أن الديموقراطية هي مستقبل العالم. والنخب التي تسعى لتوطينها في بلدانها تتمتع بمزية من يستنسخ اختراعاً مُعفياً نفسه من دفع ثمن براءة الاختراع الباهظ. لكن الاستنساخ في الحقيقة ليس مجاناً ولا سهلاً. فهو يتطلب أولاً القدرة على التكيف مع الجديد الوافد، كما يتطلب تشخيصاً دقيقاً للعوائق الموضوعية والثقافية التي تعيق تبني حداثة انتجتها مسارات وسياقات تاريخية لم تمر بها البلاد المستنسخة. تاريخياً، لم تستقر وتزدهر الحداثة إلا في البلدان التي مرت بالثورة الصناعية التي همّشت الطبقات التقليدية العاجزة عن التكيف مع المستجدات التاريخية لحساب طبقتين جديدتين: البورجوازية الصناعية وعمال الصناعة، اللتين تحالفتا طوال القرن التاسع عشر ضد الطبقات القديمة لتأسيس الحداثة السياسية وتدشين ظهور المواطن الذي يشارك أكثر فأكثر في السياسة ويدافع بحماس متزايد عن حقوقه المهضومة دون أن يكلفه ذلك المجازفة بحريته أو بحياته كما في الماضي. فما هي عوائق توطين الديموقراطية في المجتمعات التي فاتها قطار التصنيع؟ كثيرة. أشدها خطراً انتشار الأمية والفقر، غياب ثقافة الولاء للمؤسسة بدل الشخص ورفض التيار التقليدي لمبدأ الشعب السيد، وللتداول السلمي على الحكم وللفصل الضروري بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. ثنائي الأمية والفقر لا يدع لضحاياه، الذين يستغرقهم النضال اليومي لمجرد البقاء على قيد الحياة، ترف الاهتمام بالرهان الديموقراطي الغريب عن اهتماماتهم وتطلعاتهم الفورية وعالمهم الذهني. التجربة دلت على أنهم يلجأون إلى ثلاثة خيارات ليست في صالح توطين الديموقراطية: الاستنكاف عن المشاركة في السياسة أو المشاركة الاحتجاجية فيها بانتخاب الحركات التعبوية اللاديموقراطية أو بتحويل الانتخابات إلى مورد رزق ببيع أصواتهم لمن يدفع لهم أكثر. حدث ذلك في الانتخابات المغربية وأيضاً في الهند التي ما زالت ديموقراطيتها تكابد هذه العاهة. مجتمع تسوده الأمية والفقر هو تعريفاً مجتمع تقليدي، أي يغلّب الولاءات التقليدية على الولاءات الحديثة: الولاء للزعيم على الولاء للمؤسسة الحديثة، والولاء للقبيلة والطائفة على الولاء للدولة - الأمة. إذا كانت الديموقراطية لم تستقر إلا في المجتمعات الصناعية الاستهلاكية، فذلك أساساً لأن العصبيات القديمة انقرضت أو ضعفت فيها، فساعد ذلك الدولة القومية على التجذّر فيها على أنقاض الدولة الطائفية، ولأنها أيضاً نجحت في الانتقال من مجتمعات الندرة إلى مجتمعات الوفرة المخدرة لغرائز العنف الجمعي السياسي. إذا كانت خصوصية الديموقراطية، كلما جد خلاف، هي اللجوء إلى الحوار بدل القوة، فمجتمعات الاستهلاك التي تستغرقها مساومات البيع والشراء تشكل الأرضية الملائمة لنمط اشتغال الديموقراطية، أي ثقافة النقاش المعمم. من هذا المنظور افترض رئيس البنك الدولي أن توطين الديموقراطية في بلد ما يتطلب ارتفاع الدخل السنوي الفردي فيه إلى عشرة آلاف دولار. إلى هذه العوائق الموضوعية لتوطين الحداثة خارج بلدان المنشأ توجد ثلاثة عوائق سوسيوثقافية خاصة بالفضاء العربي الإسلامي: رفض مبدأ الشعب السيد، الذي هو في الديموقراطية مصدر الشرعية، رفض مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث الذي لن تقوم قائمة لدولة المؤسسات من دونه، رفض مبدأ التداول السلمي على الحكم الذي تغدو الانتخابات في غيابه ممارسة شعائرية فاقدة للمعنى. تبلور مبدأ الشعب السيد في أوروبا الغربية كإحدى نتائج الحداثة، بما هي انتصار العقل على النقل وخروج الإنسان من سن القصور الأبدي بامتلاك حق تقرير مصيره في حياته اليومية واختيار قيمه وبناء مستقبله بعيداً عن وصاية الاكليروس الذين لم يعودوا أهلاً لاسباغ الشرعية على العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لأن فاعلين جدداً، أي الناخبين، اضطلعوا بهذه المهمة وأودعوها في عقد اجتماعي، أي دستور معبر عن إرادة الشعب السيد لا يستطيع الحاكم انتهاكه دون عقاب. وبما أن التقدم لا يقف عند حد، فقد اضيفت إلى الدستور اليوم شرعية جديدة اسمى منه هي مواثيق حقوق الإنسان الدولية. استغرق الانتقال من دولة الحق المقدس الطائفية إلى دولة الشعب السيد الدنيوية خمسة عشر قرناً، من القرن الرابع عندما أعلن الامبراطور ثيودوسيوس المسيحية ديناً وحيداً للدولة الرومانية إلى القرن الثامن عشر عندما أعلن الكونغرس الأميركي في 1791 المساواة بين جميع الديانات في الولاياتالمتحدة. بعد خمس سنوات فقط نسج المؤتمر القومي الفرنسي على منواله. آخر دولة أوروبية انتقلت من الدولة الطائفية القرووسطية إلى الدولة - الأمة العلمانية الديموقراطية كانت اسبانيا التي أعلنت في المادة 16 من دستور 1975: "الدولة لا دين لها"، فهي منذ الآن دولة لجميع مواطنيها تعترف لهم بحرياتهم الدينية على قدم المساواة، لكن لم يغدُ الاعتراف بالحرية الدينية كونياً حقاً إلا بعد إصدار الأممالمتحدة ل"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" سنة 1948. الانتقال من الدولة الطائفية إلى دولة لجميع مواطنيها مهما كانت انتماءاتهم الخصوصية شكّل، منذ بدايات الحداثة، رهان الصراع بين معسكري الحداثة والقدامة. وهو اليوم أيضاً لبّ الصراع المحتدم بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران، أي بين دعاة الحكومة الدنيوية التي تستمد شرعيتها من الشعب السيد أي من صناديق الاقتراع حصراً وبين دعاة الدولة الدينية التي تستمد شرعيتها من الله: "مرشد الثورة، يقول ناطق نوري، يستمد شرعيته من الله لا من الشعب". منى البنا، الاخصائية في شؤون الشرق الأوسط في اليومية "لوموند"، شخصت بدقة رهان الخلاف بين الاصلاحيين والمحافظين عندما كتبت: "لقد وضع خاتمي الأصبع على جرح التناقض الكامن في أساس الجمهورية الإسلامية: كيف يتم التوفيق بين إرادة الشعب الذي يعبر عنها الاقتراع العام وبين مفهوم شبه لاهوتي للحكم؟ برنامج عريض ينكب عليه منذ سنوات سياسيون ومفكرون اتضح لهم الآن ان مفهومه - فضلاً عن تطبيقه - هو التحدي الحقيقي" للنخبة الإيرانية، وأيضاً لنخب المجتمعات العربية والإسلامية. العائق الثاني لتوطين الديموقراطية هو قبول مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث لمنع طغيان السلطة التنفيذية، الميالة الى الانتهاك، على السلطتين التشريعية والقضائية. وهذا الآن أمر واقع في الفضاء العربي الإسلامي حيث التهمت السلطة التنفيذية السلطتين الاخريين والمجتمع المدني أيضاً، فضلاً عن المؤسسة الإسلامية التي لا يتسع صدرها لكلمة نقد أو حتى خبر صادق. المبدأ هنا معترف به نظرياً ومنتهك عملياً. أما في إيران فرفضه شامل ومن دون عقد باسم "الديموقراطية الإسلامية" المحصورة في الارستوقراطية الدينية المحافظة. في غياب التداول على الحكم تغدو الانتخابات مجرد فولكلور، وهذا هو الدرس الذي يستخلصه علم السياسة من تجربة خاتمي مع المحافظين خلال أربع سنوات. على رغم انبثاق تياره من صلب الثورة الإسلامية، وعلى رغم أن أهم رموزه كانوا طليعتها وجناحها الراديكالي، رفض المحافظون الاعتراف لهم بحقهم في التداول على الحكم، وهو ما أدى إلى مفارقة نادرة في تاريخ الحداثة السياسية: الأغلبية في المعارضة والأقلية في الحكم! لكن المحافظين، عكس ما يقال، في موقف دفاعي يزداد ضعفاً سياسياً وشعبياً. وهم واعون بدونيتهم الشعبية والسياسية، لذلك لم يجرأوا على تقديم مرشحهم الخاص في انتخابات 8 حزيران يونيو المقبل يأساً من أي دعم شعبي، مكتفين بالاكثار من المنافسين لخاتمي على أمل تحجيم انتصاره الأكيد. ما الذي جعل مشروعهم يفقد مصداقيته إلى هذا الحد خلال عقدين؟ تسارع التاريخ بفضل الثورة الإعلامية العالمية التي غدا لها، كأي حدث تاريخي قبل وبعد: قبلها كانت النُخب السائدة هي التي تصنع ثقافتها القومية وترسّخها عبر مؤسساتها الإعلامية والتعليمية في وعي مواطنيها. أما بعد الثورة الإعلامية، التي اسقطت الوسائط القومية بين الفرد والثقافة العالمية، فأصبحت الثقافة السائدة في أي بلد تقريباً هي الثقافة السائدة في العالم. عندئذ لم تعد الهيمنة الايديولوجية تتطابق مع الهيمنة السياسية، بل ان الفجوة بينهما تزداد تفاقماً كلما كان المشروع السياسي يسبح ضد التيار السياسي والثقافي السائد في العالم، لسببين: عجزه عن منافسة الإعلام العالمي واصطدامه بروح الحقبة التي تتحدى شعارات التقشف والاستشهاد في سبيل تصدير الثورة ونقاوة الهوية، بإعلانات الاستهلاك وتقديم اغراءات لا تُقاوم لغرائز الحياة ونشر تلاقح ثقافي عالمي يوحد الأذواق والعادات وأنماط التفكير والسلوك. ولاء شباب العالم اليوم مرصود حصراً لمستقبلهم: عمل، سكن وأسرة. مقتل مشروع المحافظين تمثل في تعارضه مع مطالب المثقفين، الشباب، النساء والأقليات الذين قدمت لهم الثورة الإعلامية مبررات رفضه وأدوات التصدي له بالمقاومة السلبية التي هي أقل كلفة، وفي المديين المتوسط والبعيد، أكثر نجاعة من المقاومة العنيفة. استمرار المحافظين في الحكم، على رغم هزائمهم الانتخابية المتلاحقة منذ 1997، يمثل إعلاناً مضاداً لمشروعهم الذي يزداد كل يوم عزلة. فكلما منعوا الصحف الإصلاحية وكلما ألغوا قرارات المجلس وكلما اعتقلوا خصومهم، ازدادت قاعدتهم الاجتماعية انكماشاً وتعاظمت فرص ازاحتهم من الحكم بكلفة أقل من المتوقع. والمتوقع، للأسف، قد لا يكون في النهاية أقل من حرب أهلية.