غداة توليه منصبه كرئيس للجمهورية الاسلامية الايرانية في آب اغسطس الماضي بعد انتخابه الشعبي الكاسح والاستثنائي، خلص معظم التحليلات السياسية الرصينة الى القول بأن ليس في مستطاع السيد محمد خاتمي احداث تغيرات دراماتيكية عميقة في ايران بين عشية وضحاها، لكنها مع ذلك لم تبد شكوكاً ليس فقط بأهمية التغيير وفاعليته على المستويين الداخلي والخارجي بل أيضاً بحتميته. والآن يبدو ان تطورات الشهور القليلة الماضية لا تثبت صحة هذا الاستنتاج فحسب بل انها تؤكد في الوقت نفسه وبشكل جلي حيوية المجتمع الايراني الذي جاء بخاتمي الى السلطة وأمله وتطلعه الفاعل الى ان يكون برنامج خاتمي الاصلاحي أداة التحول المنشود وسبيله. لكن هناك أمراً أساسياً ينبغي ان لا نهمله عند الحديث عن التغيير المنتظر أو المتوقع في ايران في ظل الديناميكية التي ولدتها رئاسة خاتمي للجمهورية الاسلامية. وهو ان التغيير لا يمكن بالضرورة ان يكون موافقاً كلياً مع الرغبات التي يعبر عنها أو يتمناها كل أولئك الذين يدعون له سواء من بين الأجيال الايرانية الجديدة والنخب الطامحة الى فرص أفضل والرافضة للقيم والأفكار التقليدية في الداخل أو من جانب جيران ايران وتلك الدول والقوى التي تتطلع الى ترسيخ اللهجة الجديدة في أسلوب ادارة السياسة الايرانية المنفتحة على العالم. هذا يعني ان أي توقعات بالتغيير لا يصح لها ان تتجاوز في تمنياتها حد توقع الانقلاب على جوهر نظام الجمهورية الاسلامية القائم وأسسه بل الى التواضع والقبول بمحاولات تجديده، وهو الأمر الذي لا يخفي خاتمي عزمه على تحقيقه من خلال تطوير مرتكزاته واكسابه روح العصر. وينبغي ان لا تؤدي مثل هذه النتيجة الى التعالي والاستنكاف كما يفعل البعض من المحللين أو القادة السياسيين حين يرفضون القبول بإمكان التغيير في ايران، مستخلصين ان أية نتائج يمكن ان تسفر عنها محاولات خاتمي الاصلاحية لن تكون الا ديكوراً وتبادلاً للأدوار بين تيارات السلطة المتناحرة، كما يزعمون، يخفي أهداف وسياسات الثورة الاسلامية التي طالما اشتكوا من محاولات تصديرها ان مثل هذا الاستنتاجات ليست خاطئة في استيعابها للواقع الايراني الحي وجاهلة في فهم الفقه السياسي الشيعي السائد في ايران فحسب بل هي تعبير عن الجمود واللاواقعية في السياسة في الوقت الذي تتطلب الأوضاع في منطقتنا العربية التفاعل مع أي تغيير ايجابي داخل ايران لمصلحة ترسيخ عوامل الاستقرار والسلم في المنطقة. هناك جانب مهم في درس الحال الايرانية خلال العقدين الأخيرين، وهو ان نظام الجمهورية الاسلامية الذي أقامه الامام الخميني استناداً الى رؤيته الخاصة للدولة التي تبشر بها الحركات الاسلامية، قد خاض تجربة ثرية بكل ما لها وما عليها وأصبح ممكناً الآن الاحتكام الى نتائج هذه التجربة التي أضحت تحت الضوء الساطع كمرشد للاستدلال وللحكم على نجاحاتها واخفاقاتها سواء كان ذلك من داخل التجربة، كما يفعل خاتمي نفسه، أو المراجعات التي تقوم بها مختلف التيارات الاسلامية التي احتضنت التجربة وايدتها من زاوية بعدها التاريخي وآثارها الجيوسياسية باعتبارها بحق واحدة من أبرز أحداث القرن العشرين في منطقتنا وربما في العالم اجمع. والواقع ان هناك معايير عدة مثلما ان هناك وجهات نظر متباينة للحكم على تجربة سياسية ودينية شديدة التعقيد في جوانبها الايديولوجية والحياتية مثل الثورة الاسلامية في ايران بكل ما تركته من آثار خطيرة محلياً واقليمياً ودولياً الا ان المعيار الأهم في الحكم عليها موضوعياً يبقى القدرة التي أبانتها على المواصلة والصمود أو كما وصفها التقرير الاستراتيجي العربي لعام 1997 الصادر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بپ"حيوية وقدرة على التجديد بدرجة لا تتوافر في المنطقة باستثناء اسرائيل". وهنا قد يصدق القول ان بروز ظاهرة خاتمي، باعتبارها انشقاقاً جزئياً عن الخطاب السائد والامكانات الهائلة التي يفتح السبيل أمامها للمستقبل، هو في حد ذاته تأكيد على هذه الحيوية التي يفتقد اليها، مع الأسف الشديد، بعض الأنظمة الشمولية في المنطقة. جاء خاتمي في ختام مرحلة شهدت فيها ايران الاسلامية تطورات ذات دلالات أبرزها انحسار الفورة أو الهيجان الثوري من الخطاب السياسي الرسمي وخفوت وربما نهاية مرحلة التشنجات في العلاقات الخارجية، وهي وان صحت تسميتها منجزات فإنها منجزات مهدت لها سنوات حكم الرئيس علي أكبر رفسنجاني الذي ربما كان أهم ما امتاز به عهده هو نمو اتجاهات برغماتية حدت بدورها من قدرة التيارات الدينية المحافظة على فرض هيمنتها وسياساتها المتشددة كما كانت تفعل أثناء السنوات الأولى للثورة. ولعل أهم نتيجة جاء بها فتور المد الثوري الذي نتج عن تفاعل حزمة من العوامل المحلية والاقليمية والدولية لعل أهمها انتهاء الحرب مع العراق ثم انحسار المد الاسلامي الراديكالي في المنطقة وانطلاق مسيرة السلام الشرق أوسطية ونهاية الحرب الباردة هو تحول الاهتمام داخل ايران الى البحث في متطلبات بناء المجتمع القادر على مواجهة تحديات وخيارات جدية في السياسة والاقتصاد والفكر والحياة عموماً خارج المعضلات والاشكاليات التي يهتم بها خطاب الوعي الديني التقليدي. على خلفية هذه التطورات برز خاتمي منافساً في انتخابات الرئاسة وهو وزير الثقافة الذي اضطر قبل سنوات قليلة لترك منصبه اذعاناً لهيمنة القوى المحافظة آنذاك. كان خاتمي في تفكيره وفي برنامجه الانتخابي قريباً من مشاعر الناس العادية وتطلعاتها وادرك حاجتها للتغيير كمطلب ملح، فراح يغذي فيها من خلال شعاراته التنويرية قبل الحملة الانتخابية واثناءها احساسها الكامن بالتحول الى ما كان يدعوه هو "توفير فرص النمو والتقدم للمجتمع في اطار الحرية"، وهي دعوة ارتبطت باستعداده الجدي لتقديم الحلول المناسبة للخروج بالمجتمع الايراني من الخانق الذي كان يندفع اليه بسبب الضغوط التي كان يضعها تيار الجمود والمخاوف التي تولدت من احتمالات فرض سيطرته التامة على المجتمع لو أتيح له الفوز في انتخابات الرئاسة الماضية. ولذلك فقد شدد خاتمي في برنامجه على مقولات الحرية والديموقراطية حتى بصيغها المقبولة غربياً وسيادة القانون وبناء المجتمع المدني كمتطلبات لاحياء النموذج الاسلامي في الحكم ازاء محاولات اليمين المتطرف في فرض وصايته وتعصبه الايديولوجي وقيمه المتشددة على المجتمع الرافض. ولعل من أهم مقولات خاتمي في تصديه لهذا التيار هو "ان الحكومة امر مفوض للناس وان ارادة الناس ورغبتهم شرط اساسي لقيام الدولة ولضمان دوامها". فكان ان سحب البساط من دعاة "التفويض الالهي" في الحكم واتباع رجال الدين المهووسين بالهيمنة على السلطة حتى لو كان الثمن، كما يقول خاتمي نفسه: "التمسك بالحكم عن طريق القوة والتسلط". ولم تكن مثل هذه الدعوات ذات المضمون التحديثي والتحرري لتستهوي اليمين المحافظ المتخندق خلف شعارات ولاية الفقيه المطلقة في مؤسسات الحكم والقوى الأخرى المهيمنة في مختلف قطاعات المجتمع، فكان لا بد ان تستنفر طاقاتها لعمل كل ما يمكنها لكبح عجلة التغيير التي انطلقت بفوز خاتمي بالرئاسة. وكما هو شأن قوى المحافظة في تصديها لمحاولات الأحياء في كل زمان ومكان ففي امكانها ان ترفض الخضوع لمنطق التاريخ وحجم التغييرات الهائلة في عالم اليوم وان لا تستسلم لارادة الغالبية من الشعب التي انتخبت خاتمي، لكن من المؤكد انها بذلك ستخاطر بدفع البلد الى مستنقع التوتر المشحون والاحتمالات المفتوحة على الصراع. ليس هناك طبعاً من دليل الآن على ان هذه القوى، خصوصاً أشدها انغلاقاً من أمثال انصار حزب الله، قد كفت عن ممارسة ألاعيبها الخطيرة مثل التصدي عن طريق العنف لتيارات الفكر المنفتح أو حتى تلك الجماعات التي ترفض التخلي عن نصيبها في كعكة الحكم وتستخدم مجلس الشورى والسلطات القضائية للتعبير عن رفضها للبرنامج الاصلاحي لخاتمي ما يضع العصي في دواليب التغيير. لكن أحد أبرز مظاهر التجربة الايرانية الأخيرة هو ان هذه القوى قد كشفت حتى الآن عن فقدانها الكثير من بريقها وبراعتها وعناصر فاعليتها السابقة التي مكنتها خلال العقدين الماضيين من الهيمنة على المجتمع الايراني، وبشكل عملي فإنها رغم التلويح بأساليبها القديمة في القمع والتخويف لم تستطع حتى الآن اثبات قدرتها على تحدي برنامج خاتمي فعلياً لاجباره على الانكفاء والتخلي عن برنامج التغيير. لا يعني هذا في أي حال انها ألقت سلاحها أو حتى حال العصاب التي تستفزها فيها محاولات التحول والنهوض بالمشروع الاسلامي الايراني لكن من الواضح انها اضعف من ان ترغب في المواجهة. لماذا؟ من دون الدخول في تنظيرات فكرية وسياسية معقدة عن تجربة الثورة الاسلامية الايرانية فإن الواقع يكشف ان هناك رغبة حقيقية للتغيير لدى غالبية الشعب الايراني ولو في حدود التجربة ذاتها، وهو تعبير يجد صداه في الشارع عبر دعوات كثيرة نحو تفعيل الارادة المجتمعية وفي المؤسسات الثقافية والأكاديمية المختلفة وأيضاً داخل المؤسسة الدينية بطرفيها المتسلط والمعارض. ومن الواضح ان شعارات ودعوات خاتمي الاصلاحية قد كشفت عمق الأزمة التي يعاني منها المجتمع الايراني فكان ان جذرت طروحات التغيير وأعطته بعده الشعبي وجعلت منه مطلباً جماهيرياً يومياً سيجد اعداؤه الكثير من العناء في مقاوة تياره الجارف، بل ان هناك في ايران اليوم من يقول ان توقعات الاصلاح لدى الناس تفوق ما هو قائم كما يدعو الى ان تسير عملية التغيير بوتيرة أسرع مما هي عليه. حشمت الله طبرزدي/ "الحياة" 12 آذار/ مارس 1998. وعموماً، فإن هناك تغييراً يحصل في ايران اليوم. ولا أحد يمكنه الجزم الآن ان كان ذلك يجري في اطار موت اليوتوبا أو تفسخ النظرية وزوالها أو انها مجرد محاولة في تجاوز أزمة واشكاليات التجربة الاسلامية في ايران وتحديثها الا ان المؤكد انها تجري في سياق ايراني تاريخي حي وضمن جدل الفقه السياسي الشيعي الغني باجتهاداته الشرعية والسياسية عن الاصلاح ودور وحق الأمة والعلاقة مع الدولة سواء الدينية منها أو الزمنية. حقاً ان ايران في القياسات الكونية ليست بحجم الصين وان الأحداث الجارية فيها قد لا يكون لها الوقع نفسه على التطورات العالمية مثل تلك المتوقعة في الصين اثر ترسيخ المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني في ايلول الماضي خط الاصلاح وتعيين زهو رونغجي أخيراً رئيساً للوزراء الا ان من المؤكد ان نجاح خاتمي في تطبيق برنامجه الحداثوي سيكون مساهمة فعالة ليس في مسيرة التحول والتغير ايران فحسب بل وفي حركة الاحياء الاسلامي ككل عندما يجعلها تستجيب متطلبات العصر وحاجات الناس السياسية والاقتصادية والثقافية عبر برنامجه الطموح في الربط بين الدين والديموقراطية. ان مثل هذه النتيجة ستفتح أبواب الأمل فهي من دون شك ستكون لصالح النمو والتطور المعرقل الآن في ايران وللعقلانية واتجاهات تثبيت هوية اسلامية حضارية متجاوبة مع جهود صياغة حلول كونية متوافقة لأزمات ومشاكل العالم مثلما ستكون لصالح دعوات السلم والاستقرار في المنطقة التي غرقت منذ عقود في بؤر القلق والتوتر والصراع. ان على من يرفض هذه النتيجة أو يستخف بها، كما يقول خاتمي نفسه، ان يأتي بالبديل.