أسفرت الانتخابات التشريعية في ايران عن فوز شبه ساحق للاصلاحيين حوالي 70 في المئة من اصوات الناخبين الذي يمثلهم حزب جبهة المشاركة بزعامة رضا خاتمي شقيق الرئيس الايراني سيد محمد خاتمي. وتميزت هذه الانتخابات باحتدام المنافسة بين التيارات والقوى السياسية على الساحة الايرانية. وكان اللافت غياب العديد من رموز المحافظين، وابرزهم ناطق نوري رئيس مجلس الشورى السابق، في حين فشل العديد من رموز اليمين في الاحتفاظ بمقاعدهم. واتضح أن الناخبين لم يغفروا حتى للرموز القريبة من الاصلاحيين، تحديداً للقوى المنضوية في "كوادر البناء" والمحسوبة على الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني الذي فاز بصعوبة وفشلت ابنته فائزة في الحصول على الأصوات اللازمة للفوز. ويبدو أن التيارين المتصارعين، وإن أعلنا انتماءهما الى المؤسسة الدينية الحاكمة في ايران، والتزامهما نظرياً على الأقل مبدأ ولاية الفقيه، إلا أن مجرى الصراع بينهما اتخذ منحىً خطيراً وحاسماً لا يمكن التكهن بنتائجه بعد، خصوصاً مع استفحال الاستقطاب الحاد للقوى والمواقف والاطروحات المتناقضة في ما بينهما. ويعكس هذا الصراع إلى حد بعيد عمق التغيرات الحاصلة في البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية وحجم التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها ايران في تحديد موقعها ودورها ومستقبلها في القرن الجديد ضمن استحقاقات العولمة. وفي هذا الصدد تأتي نتائج الانتخابات وقبلها الانتخابات البلدية، ناهيك عن الفوز الكاسح للرئيس خاتمي في انتخابات 1997، في سياق تطلع غالبية الشعب الايراني خصوصاً الشباب والنساء والمثقفين الى الاصلاح والتحديث والانتقال من الشرعية الثورية إلى شرعية دولة المؤسسات والقانون وتأكيد تلازم مساري التنمية السياسية مع التنمية الاقتصادية، كما عبر عنه الرئيس خاتمي في دعوته إلى إعطاء الأولوية لمبدأ الحرية وحكم القانون والمؤسسات ونبذ العنف ووقف كل اشكال التعديات والانتهاكات لحقوق الانسان والجماعات. ولا بد من الاشارة إلى دلالات مهمة للانتخابات الاخيرة ونتائجها: - الدلالة الأولى: انه بعد مضي أكثر من 20 عاماً على انتصار الثورة في ايران ظلّت الحاجة قائمة لبناء مناخ الثقة المتبادلة وتدعيمه بين ايران ومحيطها، خصوصاً أن تداعيات الثورة في الداخل وما أفرزته من دعوات لتصدير نموذجها إلى الخارج أثارت المخاوف والشكوك في المحيط الاقليمي. وقد عاشت ايران معظم تلك الفترة في عزلة شبه تامة نتيجة انشغال القيادة الايرانية بإعادة ترتيب البيت الايراني في الداخل وحسم الصراع بين القوى المشاركة في الثورة لمصلحة اتجاه محدد. ومن ثم تداعيات احتلال السفارة الأميركية والمواجهة بين إيران والادارة الأميركية والغرب عموماً، ثم جاءت مرحلة الحرب العراقية - الايرانية التي شنها النظام العراقي بتشجيع من الغرب. واعقب انتهاءها انشغال ايران بإعادة الاعمار وبناء ما دمرته الحرب ومحاولة تحسين الأوضاع الاقتصادية المتردية في ظل الحصار والمقاطعة الغربية وسياسة الاحتواء الأميركية. - الدلالة الثانية: تمثلت في اندلاع صراع بين الشرعيتين بين مراكز القوى المختلفة، الشرعية الثورية والشرعية الدستورية، أو بمعنى آخر بين منطقين، منطق الثورة ومنطق الدولة. فأنصار منطق الثورة المتخندقون في مواقع ومراكز قوى مهمة ومؤثرة في صنع القرار السياسي كانوا يتطلعون إلى استمرار ايران الثورة في تجسيد مبادئها على الصعيد الداخلي والخارجي، بمعنى آخر أرادوا السير على هدى السياسات القديمة نفسها في ما يتعلق بالموقف المتحفظ والرافض للقوى والتيارات الأخرى من دينية معتدلة أو أية توجهات وممارسات لا تتفق مع الخط الرسمي المحافظ خصوصاً ازاء تطلعات الأجيال الجديدة الشابة التي لم تعش مرحلة الكفاح ضد نظام الشاه الاستبدادي ولم تختبر مساوئه بل كانت مسكونة بهاجس البحث عن موقع ودور مصادرين في ظل تفاقم المشاكل الاقتصادية. هذا الاتجاه المتشدد ذهب باصحابه الى حد تنظيم عمليات الاعتقال الواسعة بحق المخالفين وتدبير الاغتيالات ازاء الشخصيات السياسية والثقافية المنشقة وتعطيل واغلاق الصحف الليبرالية والاصلاحية واقتحام حرم الجامعة والاعتداء على الطلاب المعتصمين واعتقال وفصل المئات منهم. وهو ما أقرت به شخصيات دينية نافذة في السلطة والمجتمع، راحت تطالب علناً بتحصين المجتمع من كل اشكال الاستبداد وانتهاك حقوق الانسان وضرورة اصلاح وتطوير المؤسسات القضائية والتشريعية والتنفيذية والأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات وصولاً الى تعزيز دولة المؤسسات والقانون في رحم هذه التفاعلات التي أخذت منحىً عميقاً أخذ يتبلور شيئاً فشيئاً من داخل النظام والمؤسسة الدينية من جهة وبين المثقفين والتكنوقراط والطبقة الوسطى من جهة أخرى، الى ان اصبح تياراً وعبر عن نفسه بقوة في انتخابات 23/5/1997 الرئاسية عندما حقق خاتمي فوزاً كاسحاً بنسبة 70 في المئة من الأصوات الناخبين. - الدلالة الثالثة: رغم ان فوز خاتمي كان ساحقاً في انتخاب الرئاسة الا ان ذلك لم يحسم الصراع لصالح قوى التغيير والانفتاح. اذ ان المحافظين ردّوا بطريقتهم الخاصة مستفيدين من المواقع والمراكز المهمة التي يحتلونها في قمة هرم السلطة ومؤسساتها وأجهزتها السياسية والعسكرية والإعلامية والقضائية والأمنية وبين المؤسسة الدينية العتيدة التي ظلت عموماً تحت هيمنة الاتجاه المحافظ. وتمثل الهجوم المعاكس الذي قاده المحافظون في جبهات عدة، بينها طرح الثقة بالعديد من وزراء حكومة خاتمي في البرلمان السابق الذي كانت للمحافظين فيه غالبية، مثل وزير الخارجية كمال خرازي ووزير الثقافة والارشاد عطاالله مهاجراني، كما أجبروا وزير الداخلية السابق محمد كروبي على الاستقالة بعد حجب الثقة عنه، ووجهوا الى رئيس بلدية طهران السابق غلام حسين كرباستشي اتهامات عدة بينها الفساد وسوء استخدام السلطة ودين وأودع السجن، وفي هذا السياق ايضاً تمت ادانة وزير الداخلية السابق الشيخ عبدالله نوري بتهمة التطاول على المقدسات وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات. ومن الواضح تماماً أن هذه المحاكمات التي تعرض لها النشطاء من الاصلاحيين ورجال الصحافة المستقلة ذات طبيعة سياسية بقصد تخويف أنصار خاتمي واقصائهم عن مواقع التأثير والنفوذ. وازاء هذا الهجوم الكاسح من جانب المحافظين بادر الرئيس خاتمي إلى اعادة رص صفوف انصاره ومؤيديه في هجوم سياسي وإعلامي وتعبوي معاكس وأثمر هذا التحرك فوزاً لأنصاره في الانتخابات البلدية المجالس المحلية ثم في الانتخابات التشريعية الأخيرة. - الدلالة الرابعة: هي ان اطروحات خاتمي حول المسائل الجوهرية التي ترتبط بحاضر الشعب الايراني ومستقبله شقّت طريقها، فهي تدعو الى الانفتاح واحترام التعددية السياسية والثقافية، وصون الدستور وتطويره، واحترام القانون، وارساء دعائم الحوار والتفاعل بين الأديان والثقافات والحضارات المختلفة وهو ما استدعى بالضرورة العمل من اجل فك العزلة والحصار والانفتاح على العالم بما في ذلك دول الجوار على وجه الخصوص من خلال التأكيد على احترام خصوصيات الآخرين وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير والانطلاق نحو تأسيس علاقات جديدة مبنية على الثقة والتعاون البناء في مختلف المجالات... من هنا ان انتخابات الرئاسة عام 97 ثم الانتخابات التشريعية الأخيرة مثلت بحق حركة تصحيحية في مسار الثورة وتجربة الحكم بعد مضي اكثر من عقدين على اندلاع الثورة الشعبية التي شارك فيها معظم فئات المجتمع الايراني بتياراته ونخبه السياسية والفكرية والثقافية المختلفة، وبالتالي كان للجميع الحق في أن يجدوا لهم مكاناً ودوراً في نظام الجمهورية الإسلامية الفتية. ومن دون الدخول في الملابسات واستعراض التطورات التي حدثت واصبحت تاريخاً من حق المؤرخين والساسة والمفكرين تقويمها والحكم عليها، فإن الرئيس خاتمي اعاد تأكيد المسلمات الأولى والمنطلقات الأساسية للثورة في عدم جواز الاستمرار في سياسة الاقصاء والابعاد عن طريق استخدام العنف المادي أو الرمزي للآخرين من منطلقات آيديولوجية أو سياسية أو ثقافية، خصوصاً أن سياسة التعالي على حقائق الجغرافيا السياسية جيوبولتيك لم يعد لها مكان في نظام العولمة حيث تداخلت مفردات القوة والهيمنة والمصالح والتكتلات العالمية والاقليمية وأصبحت الخيارات المتاحة خصوصاً بالنسبة الى بلدان الجنوب محدودة، فإما المشاركة الفاعلة والانخراط في نظام العولمة عبر تحسين الشروط وتهيئة القوى والإمكانات الذاتية المتاحة والكامنة والتفاعل البناء مع الآخر المغاير وإما التهميش والانزواء والانكفاء على الذات بحثاً عن هوية وخصوصية مزعومة والتي تعني الموت والنهاية الأكيدة. لقد فعل التيار المحافظ خيراً عندما سلم بنتيجة الانتخابات الايرانية الأخيرة والتي عكست تحولاً في ميزان القوى لمصلحة قوى التجديد والتحديث والانفتاح، وعسى أن تبلور الانتخابات الأخيرة مفهوماً جديداً لديمقراطية حقيقية تستمد مقوماتها من الخصائص والتجربة التاريخية الملموس وليست مجرد صدى باهت واجراءات شكلية لاستعادة ديموقراطية غربية مبتورة من سيقانها التاريخية الخاصة على غرار الانتخابات الديموقراطية في العالم العربي حيث نتائجها المقررة سلفاً في مطبخ "الحزب الحاكم" أو "القائد الضرورة"، هذا إذا كانت هناك ضرورة لهذا "الترف" الزائد عن الحاجة بالنسبة الى العديد من الأنظمة العربية. نتحدث هنا عن مهزلة الانتخابات في البلدان العربية حيث يفوز الرئيس أو حزبه الحاكم ب 9،99 في المئة ويتفضل بترك النسبة الباقية دلالة على نزاهة الانتخابات بل وصلت "الديموقراطية" في احدى البلدان العربية حد أن تنافس مرشحان من الحزب الحاكم نفسه على منصب الرئاسة في حين منع مرشح المعارضة من المشاركة بحجة عدم أهليته وعدم وجود شهادة حسن سيرة وسلوك، أما في بلد ديموقراطي عريق يطبق مبدأ التداول في السلطة فان التركيبة السياسية لم تتغير منذ الاستقلال حيث هيمنة ما سمي بالاقطاع السياسي أو حفنة من العائلات على مقدرات البلد السياسية والاقتصادية. وفي الواقع فإن الغرب الذي يعتبر منبع الديمقراطية وحقوق الانسان وحكم المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني تعاني المجتمعات فيه من غياب أو تدني المشاركة والشعبية والعزوف عن ممارسة الحق الانتخابي وعدم الثقة بصدق وأمانة ونزاهة الأحزاب السياسية وزعامته وحيث يلعب النفوذ المالي والماكينة الإعلامية وأساليب الدعاية دوراً مركزياً في العملية الانتخابية وذلك على حساب البرامج والانجازات والشعارات المطروحة غير أن ذلك لا ينتقص بأي حال من الانجازات الكبرى التي حققتها تلك المجتمعات على صعيد الديموقراطية وحقوق الانسان وتشكل المجتمع المدني بمنظماته وهيئاته. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل تدشن ايران مرحلة الولاية المطلقة للشعب بعد أن دشنت أكبر وأعظم ثورة شعبية عرفها العالم خلال نصف القرن الماضي؟ * كاتب سعودي