الأنظمة التوتاليتارية تقضي سياسياً وجسدياً على معارضيها أي على كل بديل لها من خارجها. لكن الحاجة التاريخية لفتح الانسداد أي عجزها عن ادارة المجتمع على نحو مختلف تخلق حفاري قبرها من داخلها. هكذا نفهم لماذا ظهر غورباتشوف من قلب النخبة السائدة ليشيع الشمولية السوفياتية الى مثواها الأخير. بالمثل ظهر سيد محمد خاتمي في ظروف مشابهة وتتضافر الدلائل على انه مرشح لمهمة مماثلة: رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة لم تتآكل شعبيته، لم يغب ذلك عن بال التيار الاصولي الذي لجأ، لوضع العصا في عجلة خاتمي، الى حلول يائسة مثل فضيحة محاكمة وسجن أكثر رموز تيار خاتمي شعبية ووعياً برهان القطيعة الهادئة مع الخمينية، عبدالله نوري، بتجريده من حقوقه السياسية لحرمانه من قيادة الاصلاحيين في تشريعات 18 شباط فبراير الجاري، ومثل رفض مجلس صيانة الدستور ترشيح 300 مرشح على قوائم الاصلاحيين وأخير لا آخراً مثل رفع المجلس الذي يسيطر عليه المتشددون لسن الحق في الاقتراع من 16 الى 17 عاماً لحرمان 1.5 مليون شاب من التصويت. ومن سخرية التاريخ ان الاصولية التي طالما تباهت - على غرار الفاشية في الثلاثينات - بأنها "حزب الشباب" ارغمتها خيبة أمل الشباب فيها على اللجوء الى الحيل القانونية لاقصائه من الحياة السياسية! نقطة العطب في المشروع الأصولي الاسلامي الذي دشنت ايران منذ 1979 محاولة تطبيقه هي ماضويته التي جعلت تحقيقه مطلباً بعيد المنال. تتجلى هذه الماضوية في حنينه الجارف الى عصر ذهبي تخييلي كتعبير عن قطيعته الواعية مع العالم المعاصر، في تقديسه للماضي على حساب الحاضر والمستقبل، في تغليبه الأعمى للقدامة على الحداثة، للطائفة على الوطن، وللمؤمن على المواطن، لتقاليد عصور الحريم على حقوق المرأة المعاصرة، للنقل على العقل، للعقوبات البدنية على حقوق الانسان، للارهاب على الديبلوماسية، للتفاوض السهل مع الذات على التفاوض الصعب مع الآخر، للانغلاق على الهوية على الانفتاح على العالم كما هو لا كما يحب المرء أن يكون، للحمائية الثقافية على التلاقح الثقافي، للثيوقراطية على الديموقراطية بما هي تداول سلمي على السلطة عبر الاحتكام النزيه الى صناديق الاقتراع. عاملان متضافران ساعدا على استمرار هذا المشروع الماضوي طوال عقدين هما الحرب العراقية - الايرانية التي شغلت الايرانيين عن وعي أبعاد وعواقب هذا المشروع، وكاريسمائية الإمام الخميني الذي غطى بظله العملاق تناقضات مشروعه المتفجرة، وبذلك لم يترك فرصة لمساءلته النقدية. ما ان انتهت الحرب بهزيمة ايران ورحل الإمام حتى بدأت القوى الايرانية الحية تفتح أعينها على النتائج السلبية لمحاولة تطبيق مشروع يرفض العصر ويرفضه العصر مما اضطره الى استخدام أقصى درجات العنف ضد جميع معارضيه أي معظم السكان. رفض النساء التشادور وتحريم الماكياج وارتداء الملابس الزاهية الألوان أحمر، وردي، بنفسجي، أبيض. اللون الأسود رمز الحداد على الإمام الحسين هو وحده المسموح، كما رفضن بقوة أشد العقوبات البدنية. رفض الاعلاميون والمثقفون بدورهم قطع صلتهم بالثقافة العالمية وارغماهم على مكايدة الرقابة الذاتية والرقابة الدينية فضلاً عن رقابة حزب الله التي لا يمكن التنبؤ بالممنوع والمسموح فيها، والذي كثيراً ما أحرق كتبهم والدور التي أصدرتها رغم سماح الرقابة الرسمية لها، تمرد رجال الدين المتنورين ومنهم الرئيس خاتمي على التأويل الأصولي للاسلام ورفض أية قراءة تعددية أخرى. وأخيراً ثار الشباب على مشروع البند الأول فيه قتل الجسد. القاسم المشترك بين هذه القوى الاجتماعية هو خيبة توقعاتها من انتصار الأصولية شبه الإجماعي. هذا الشعب - المحب المصدوم هو الذي حمل خاتمي للرئاسة منذ أكثر من سنتين ويتأهب اليوم لحمل أنصاره الى المجلس. طليعة القوى الرافضة لماضوية المشروع الأصولي والمتحمسة لمشروع خاتمي البديل هي الشباب، خاصة المتعلم لأنه الأقدر، على قراءة، سماع ومشاهدة الميديا العالمية التي ايقظت بين جوانحه غرائز الحياة مما جعل شباب التسعينات يختلف نوعياً عن شباب السبعينات والنصف الأول من الثمانينات المتحمس للشعارات الجهادية وللموت في سبيل الأوهام الكبيرة. اذن استطاعت العولمة، المحمولة بالثورة الاعلامية العالمية، ان تجعل شباب العالم يستبطن التعلق بمباهج الحياة، بالعمل وبالتسلية ويعطيها الأولوية على جميع الأولويات. لماذا؟ لأنه أعاد اكتشاف جسده بفضل ما تبثه الفضائيات من مشاهد الاستمتاع بالحياة في شتى مظاهرها الاستهلاكية، الثقافية والعاطفية. ايقظت هذه الثورة الاعلامية في ملايين الشباب الايرانيين 20 مليوناً من الشريحة العمرية 16-30 سنة حب الاطلاع، حب السفر، حب الاختلاط بالأجانب، حب الألبسة التي ليست كفنا للجسد، حب الألوان التي تسر الناظرين، حب الموسيقى الغربية المحرمة بفتوى من الإمام الخميني الذي اعترف بأنه لم يستمع اليها قط. اصطدمت هذه الرغبات المشروعة بمشروع اكتئابي يحث الشباب على التفكير حصراً في ماضيه البعيد وفي مستقبله بعد الموت! بالامكان القول اذن بأن المشروع الأصولي مات في رؤوس الشباب بموت اديولوجيا التضحية على مذبح الاوهام الكبيرة التي بدأت تسود العالم منذ الحرب العالمية الأولى لتبلغ ذروتها خلال الحرب الباردة التي انتهت بسقوط جدار برلين في 9/11/1989. سايكولوجيا شباب ما بعد الحرب الباردة وما بعد الأصولية أي ألوان سلوكه وتفكيره محكومة بالبهجة مثل التجمع في المهرجانات لا في المظاهرات الا عندما تكون آخر ما تبقّى له للاحتجاج على الحرمان. وهكذا توارت قيم التضحية أمام قيم الاستمتاع الفوري الفردي والجماعي بالحياة التي ما انفك المتشددون في ايران يخنقون كل ما يعبر عنها، مثلا تحريم الشطرنج الذي يلعبه مليون ايراني في المقاهي والحدائق بفتوى ثانية في 14/1/2000 لأنه "لعبة ملكية وحربية"! شباب العولمة الايراني تعرَّف على نفسه في الرئيس خاتمي لأنه فهم وتفهم مطالبه: "من الخطأ، يقول خاتمي، ان نقول للشباب لازم المسجد كامل اليوم". الثورة الاعلامية التي انتشلت الشباب من أوهام المشروع الأصولي هي نفسها التي جعلت أكثر مناضلي الخمينية اخلاصاً وحماساً في السبعينات والثمانينات ينضمون لمشروع خاتمي مثل حجة الاسلام محتشمي وزير داخلية الإمام وعباس عبدي "بطل" تحويل ال521 ديبلوماسي أميركي الى رهائن لمدة 444 يوماً بأمر من الإمام وآية الله صادق خلخالي الذي ارسل بأمر منه ايضاً ألوف "أعداء الثورة" الى الموت. بنفس حماسهم بالأمس استقبلوا اليوم مشروع خاتمي المنادي بدولة القانون، بالمجتمع المدني وبحوار الحضارات، أي فتح ايران أبوابها للتلاقح الثقافي وتفاعل الحضارات بعضها مع بعض، أي تبني الحداثة وقيمها، بما هي قيم عقلانية وانسانية كونية تاقت اليها جميع الحضارات منذ أقدم العصور. بل ان روح العولمة الطاغية حملت التناقضات التي تشق الآن تيار المتشددين نفسه الى فريق يحاول من دون جدوى على الأرجح ايجاد تسوية ما مع خاتمي عبر تحالف الاصلاحيين مع حزب كوادر البناء التابع لهاشمي رفسنجاني والى "نواة صلبة" لا ترى غير الاقصاء والعنف رداً على خاتمي وتياره، مثل علي أكبر ولايتي الذي يدعو الى اقصاء الاصلاحيين من "الحلبة السياسية قبل التشريعات" وآية الله يزدي الذي يعتقد أن من "حق الاسلام ان يدافع عن نفسه بالعنف" وآية الله خازالي الذي قال في احدى خطب الجمعة في الخريف الماضي: "إذا قال لك أحد انه يوجد اسلام غير الاسلام الأصولي فاصفعه"... لأن هؤلاء وأمثالهم من المتطرفين لم يفهموا عالمهم ولا بلدهم نفسه كما لم يفهمهما الشاه قبلهم بعقدين. وهذا مفهوم لأن من يتعاطى منشطاً ايديولوجياً لا يستطيع التمييز بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، بين التخييلي والحقيقي في السياسة مما يجعله يختار لحل التناقضات الاجتماعية أسهل واسوأ الحلول مغبّة: العنف. عشية هذا الاستحقاق الانتخابي الحاسم تقف ايران أمام احتمالين، متفائل ومتشائم. السيناريو الأول يتوقع نجاح مشروع خاتمي، في نقل ايران سلمياً من الأصولية الى الديموقراطية المتدرجة وهو مشروع تلخصه جملة واحدة "عولمة ايران" التي تعني مصالحة مزدوجة: مصالحة ايران مع نفسها بتوقيع عقد اجتماعي جديد مع مواطنيها يضمن لهم الأمن المفقود على نحو فاجع وأيضاً فضاءاً معقولاً من الحريات الفردية والاجتماعية تتيح لهم فرص التعبير عما يقبلونه وما يرفضونه دون مجازفة بالحرية أو بالحياة، ومصالحة ايران مع عصرها بتكييفها مع متطلبات مجتمع المعلومات النافي لكل انغلاق بات فضلاً عن ذلك ضرباً من المحال مع تحول الاقتصاد القومي - لأول مرة في التاريخ - الى جزء لا يتجزأ من الاقتصاد العالمي بكل ما ينطوي عليه ذلك من فرص ومخاطر، تكييفها مع الارادة الدولية الاشكالية والمتحيزة احياناً المتمثلة في الهيئات العالمية ومجلس الأمن لكن بدونها يسقط العالم أكثر فأكثر في الفوضى الدامية، وتكييفها أخيراً مع مشروع السلام العربي - الاسرائيلي المليء بالثغرات والحامل مع ذلك لاحتمال ظهور شرق أوسط جديد يحكمه المستثمرون - وربما يوماً ما المواطنون - العسكريون والاصوليون كما هو الآن. اما السيناريو المتشائم فنلخصه بكثافة اسئلة معقدة لا ادعي أن عندي اجوبة واضحة عليها منها مثلاً لا حصراً: كيف سيكون رد عتاة المتشددين على فوز الاصلاحيين؟ هل سيستسلمون أخيراً ويسلمون بمبدأ التداول السلمي على السلطة مع جناح من داخل الخمينية قال عنه صحافي ايراني: "لو عاد الإمام الخميني الى الحياة لقاده بنفسه لأنه لم يفعل غير ملاءمة الخمينية مع متطلبات الظرف التاريخي"؟ من الصعب الجزم بذلك لأن المفهوم الأصولي يعتبر الحكم واجباً شرعياً لا يقبل التداول وليس، كما هو في الواقع، دوراً اجتماعياً يجوز للفاعلين السياسيين ان يتداولوا عليه بكل بساطة. هل سيغتَّر المتشددون، كما حدث ذلك كثيراً في التاريخ، بميزان القوى الكمي المواتي لهم ظاهرياً اذ يتحكمون في الأجهزة الأمنية الاخطبوطية وفي الجيش والميليشيات العديدة فيقدمون على تزوير الانتخابات أو رفض نتائجها علماً بأن انضباط قواعد تلك الأجهزة غير مضمون. فقد صوت في الرئاسيات 65 في المئة من قواعد الحرس الثوري لخاتمي رغم توصية المرشد بالتصويت لنوري؟ ما هي درجة العنف التي قد يرد بها الناخبون على التزوير الفاضح لارادتهم أو رفض نتائجها خاصة وان حركة الطلبة في الصيف الماضي ارسلت اشارة قوية على أن صبر 20 مليون شاب على وشك النفاد، ومن الواضح انه لولا الآمال التي ما زال الشباب يعقدها على خاتمي للجأ الى العنف للتعبير عن رفضه العميق للنظام الاسلامي. هل سيكون تزوير الانتخابات أو رفض نتائجها الصاعق الذي سيفجر الحرب الأهلية؟ وعندئذ ماذا سيكون موقف الجيش؟ هل سيقفز على السلطة للحيلولة دون تفكك الجمهورية الاسلامية في الفوضى والدم على الطريقة الافغانية وهي الحالة التي تتنبأ فيها السوسيولوجيا السياسية بتدخل الجيش لانقاذ النظام القائم اذا ما أحدق به خطر الموت؟ علينا أن ننتظر الى ما بعد 18 شباط فبراير لنرى ما ستتمخض عنه ليالي ايران الحبالى بكل عجيب. * كاتب تونسي.