حقوق الانسان والديموقراطية كوجه الورقة وقفاها. لا حديث عن حقوق الانسان في بلد لا ديموقراطي. والديموقراطية تكتسب شرعيتها من احترام حقوق الانسان بتعريف الحد الادنى على الاقل. صحيح ان الديموقراطية تستمد شرعيتها من الشعب السيّد الذي لا تعلو على سلطته التشريعية سلطة. لكن تجارب القرن العشرين السياسية مع الشمولية تتطلب من الفكر السياسي اعادة تعريف ارادة الشعب لتعزيزها بشرعية اضافية حماية لهذه الارادة من الانزلاق في الاهواء السياسية من مركزية اثنية ونرجسية قومية وتعصب ديني. هذه القيمة الشرعية المضافة للشرعية الديموقراطية تتمثل في ضرورة تطابق قوانين السلطة التشريعية مع مواثيق حقوق الانسان التي تصلح كمرجع يضفي الشرعية النهائية على هذه القوانين. اعتبار ارادة الشعب السيد قانون نفسها كان ضرورياً في مطلع الحداثة لتحرير هذه الارادة من الحكم الغيبي الذي كانت تتذرّع به الكنيسة لادامة النظام الاقطاعي. حقوق الانسان تمثل حاجزاً رمزياً واخلاقياً وقانونياً احياناً ضد انحراف ارادة الشعب السيد. لماذا؟ لان حقوق الانسان هي الحق الطبيعي الذي يتأسس عليه القانون الوضعي المجسد لارادة الشعب. معيارية الحق الطبيعي متأتية من تطابق الحق الطبيعي مع الارادة البشرية غير الخاضعة للمصلحة الانانية تعريفاً، ومع احترام القيم الاخلاقية العقلانية اي التي يسلّم بها كل عقل سليم، واخيراً المتطابق مع احترام الانسان كغاية في حد ذاته وكقيمة مطلقة. مهمة ارادة الشعب السيد هي تشريع قانون عادل يضبط علاقة الحاكم بالمحكوم. لكن المشكلة ان القانون العادل لا يعرّف نفسه بنفسه. فقط تطابقه مع حقوق الانسان هو الشهادة له بأنه عادل تعزيز الشرعية الشعبية القومية بشرعية حقوق الانسان العابرة للقوميات شرط ضروري وكافٍ، في عصرنا على الاقل، لتأطير القوانين المحلية والسهر على حماية السلطة التشريعية من الانزلاق في ما اسماه المؤرخ الفرنسي ميشلي "طغيان الاغلبية" في الديموقراطية الاميركية الوليدة، والذي طالما تحول خاصة طوال القرن العشرين الى هذيان دموي. احترام حقوق الانسان، التي تمثل اليوم عقداً اجتماعياً عالمياً يضبط علاقة الحاكم والمحكوم، يجب ان يكون خطّاً احمر لا تستطيع اية ارادة شعبية حقيقية ام افتراضية ان تتخطاه دون ان تفقد شرعيتها. وهذا ما يجري الآن في مهد حقوق الانسان: اوروبا. خلال بضعة شهور نقضت "المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان" حكمين نهائيين اصدرهما القضاء الفرنسي ضد جان ماري لوبن يحرمانه نيابته في البرلمان الاوروبي وضد مهرّب مغاربي حُكم عليه باعترافات انتُزعت منه تحت التعذيب. لو وُجدت محكمة عربية لحقوق الانسان - ما زلت اطالب الجامعة العربية بإنشائها - لنقضت 90 في المئة على الاقل من الاحكام التي يصدرها قضاء خاضع للسلطة التنفيذية التي تلفّق التهم السياسية وتحدد عقابها. اما القضاة فمجرد ممثلين في مسرحية سيئة الاخراج. تقارير منظمة العفو الدولية تدعم هذا الرأي. اعتبار حقوق الانسان مرجعاً اسمى للشرعية يبرره تاريخ حقوق الانسان منذ "اعلان حقوق الانسان والمواطن" 1789 الذي أسس للشرعية الديموقراطية. لخّصت مواد "الاعلان" ال17 الافكار الكبرى لفلسفة الانوار التي هي بمثابة الاسطورة المؤسسة للحداثة السياسية، باعلانها لاول مرة في التاريخ عن خروج الانسان من سنّ القصور الى سنّ الرشد: حكم نفسه بنفسه بقوانين من صنعه. احلال التسامح محل التعصب الذي أسسه فولتير وتبنته المادة 10 من "الاعلان"، اعلان القضاء على جميع اشكال التعصب الديني الذي اصدرته الاممالمتحدة سنة 1981 كان في الواقع تحييناً لكتابي فولتير "رسالة في التسامح" و"المعجم الفلسفي"، الفصل بين السلطات التشريعية، القضائية والتنفيذية الذي تضمنته المادة 16 مأخوذ من واقع الملكية الدستورية الانكليزية ومن "روح القوانين" لمونتسكيو حيث "يجب ايقاف السلطة بالسلطة" كما يقول طبق روح الانوار المنادية بضرورة "حدّ الحرية بالحرية والحق بالحق"، اي لا يجوز الحدّ من الحرية او الحق بحرية اخرى او بحق آخر. حقوق الانسان مشروع لا يمكن تعريفه الا على نحو ديناميكي اي مفتوح دائماً على مزيد من التحديث. لذا تداركت حقوق الانسان منذ نهاية الحرب الباردة المآخذ التي طالما وُجّهت اليها: سهرها على الحقوق المدنية والسياسية "الشكلية" على حساب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. الجيل الاول من حقوق الانسان 1789 انكبّ على حماية الحقوق المدنية السياسية لحماية الانسان من التعصب الديني والاستبداد السياسي وحماية الملكية الخاصة من الضرائب والمصادرة لأن هذه الممارسات كانت سائدة، وما زالت حتى الآن سائدة في مجتمعاتنا وما زالت هذه الحقوق تلقى معارضة شرسة من النخب الحاكمة والتقليدية. "الاعلان العالمي لحقوق الانسان" 1948 دشن باحتشام الجيل الثاني من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية كالحق في العمل، الاضراب، التنظيم النقابي، الضمانات الاجتماعية، التعليم، الاعلام الحرّ... يشرح مدير "قسم التنمية الاجتماعية والقضاء على الفقر في برامج الاممالمتحدة"، لومارسكيي، كيف "أضرّت الحرب الباردة بالمبدأ الاساسي لعدم الفصل بين حقوق الانسان التي تشكل كلاً لا ينفصم. طوال الحرب الباردة، كما يقول، الحّت البلدان الغربية على اولوية الحقوق المدنية والسياسية مُصرّة على ان هذه الحقوق هي وحدها التي يمكن ان تتأتى منها الحقوق الاجتماعية والاقتصادية تلقائياً ... هذا الفصل بين حقوق الانسان الى اصناف منفصلة افضى الى وقت قريب الى الدفاع عن حقوق الانسان المدنية والسياسية ... دون حقوقه الاقتصادية والاجتماعية". منذ نهاية الحرب الباردة عادت الاممالمتحدة الى المفهوم الشامل لحقوق الانسان فأضافت الى حقوق الجيل الثالث الحق في التنمية. وحدّثت الجيل الاول باتفاقية حق الطفل و"اتفاقية الغاء جميع اشكال التمييز ضد المرأة" وحماية حقوق الاقليات اللغوية والثقافية والدينية وانشاء "محكمة الجزاء الدولية" التي تمثل ارهاصاً واعداً بعدالة كونية لا تدع لاعداء حقوق الانسان مكاناً آمناً. خطاب مدير قسم التنمية الاجتماعية في الاممالمتحدة مؤشر قوي على ديناميكية حقوق الانسان اليوم: "يملك العالم، كما يقول، ما يكفي من الموارد لتسريع تحقيق التنمية البشرية للجميع. وهي اكثر من كافية للقضاء على الاشكال الاقسى للفقر في العالم كله باحترام الاستحقاقات التي حددتها القمة العالمية للتنمية الاجتماعية"، مضيفاً: "حسب التقديرات الاممية اضافة 40 بليون دولار سنوياً قد تسمح خلال عقد بتأمين حصول الجميع على الخدمات الاجتماعية الاساسية. هذا المبلغ يمثّل 0.16 في المئة من اجمالي الدخل العالمي. اما المبلغ الاجمالي المطلوب، كما يقول، لمدة 10 سنوات فهو 400 بليون دولار تمثل نصف ما أُنفق على التسلح في العالم سنة 1995 وحدها". ولمزيد من التحديث يقترح على الامم المتحد مطالبة مجلس الامن الدولي بمناقشة وقع العولمة على حقوق الانسان وتحميل الشركات المتعددة الجنسية مسؤولية انشطتها عندما تشكل تهديداً لحقوق الانسان او تنتهكه. وهكذا فحقوق الانسان بمفهومها الشامل غدت منذ الآن متمحورة حول تحديث الحداثة في المجتمعات الحديثة وتوطينها في المجتمعات نصف التقليدية. وهما المهمتان المركزيتان الراهنتان. الا تصلحان بديلاً واقعياً للطوباويات الفصامية التي استنزفت جهود قطاع من المثقفين حتى نهاية الحرب الباردة واكلت شبابهم؟ فلماذا لا تكون حقوق الانسان هادياً لنضال النخبة في سبيل تذليل عوائق توطين الحداثة عبر دعم منظمات حقوق الانسان المحلية والعالمية وترجمة مواثيقها وتعميم قيمها في الاعلام لترسيخها في الوعي الجمعي عسى ان تتحول الى ثقافة اي استعداد ذهني دائم. هذه العوائق هي على التوالي: 1- "الفقر الذي يشكل، يقول لومارسكيي، العدو رقم 1 للتنمية البشرية بل نفياً كاملاً للاختيارات التي يمكن ان يقوم بها البشر. بل هو انتهاك بأتم معنى الكلمة لحقوق الانسان". مصدر الفقر الاول هو الانفجار السكاني. تحديد النسل هو اذن في مجتمعاتنا حق من حقوق الانسان. 2- غياب قوانين ومحاكم حديثة ومستقلة لتسهر على احترام حقوق الانسان. 3- الحلف الموضوعي بين النخب السائدة والحركات الاسلامية ضد توطينها . البعض من الحكام يقاومها ك"ترف" غربي لا حاجة له. والبعض يقبلها لفظياً وينتهكها عملياً. اما الحركات الاسلامية فتحاربها بما هي جزء من الحداثة "اللعينة" كما عند الترابي وعبدالسلام ياسين مثلاً لا حصراً: عند الترابي: "حقوق الانسان مجرد كفالات ضد البورجوازية والاقطاع ... تكشفت في النهاية عن زيفها". وعند ياسين: "الديموقراطية كلمة من كلمات نظام استكباري وحقوق الانسان شعار من شعاراته ... ولدت على فراش واحد من شقيقتها الديموقراطية العلمانية. وهي ليست سوى استلاب لشخصيتنا من ديننا ومن حريتنا". 5- غياب محكمة دستورية حقيقية في كل دولة تراقب دستورية القوانين وتطابق الدستور نفسه مع مواثيق حقوق الانسان. لو وُجدت مثل هذه المحكمة "المستقلة" في مصر مثلاً لبادرت الى الغاء قرار مجلس الشعب في السبعينات حرق "الف ليلة وليلة" ومصادرة "الفتوح الملكية" لابن عربي. ولو كانت موجودة الآن في ايران لما ترددت في الغاء بنود الدستور التي وضعت مرشد الثورة فوق الدستور وفوق القانون وفوق السلطات الثلاث وفوق البشر. ولو كان في "امارة افغانستان الاسلامية" قضاء حديث لما طُبق القانون القروسطي الذي يرغم غير المسلمين على وضع شارة تميزهم عن عامة المسلمين. الحلم ايضاً انساني. فهل آن لنا ان نحلم اخيراً بعالم متحرر من الرعب؟