ينزل عنوان الفيلم على باب مدرسة مغلق، يقفز تلميذ من فوقه - بحذائه الممزق - متجاوزاً أسواره، لتبدأ أحداث "الأبواب المغلقة" داخل بيوت القاهرة وشوارعها، عامي 1990 - 1991 وهو الاسم المبدئي للعمل الذي يتابع تلك الحقبة الزمنية في تاريخ البلاد بالرصد والتحليل، ويكشف عن أبواب كثيرة مغلقة تحيط بنا من كل حدب وصوب. كان أقصى طموحاتنا في الماضي محاولة الاقتراب منها أو جعلها مواربة، في حين يطرقها عاطف حتاتة - وان لم يفتحها - في فيلم الأول من خلال قصة مراهق، هو المحرك الرئيس لأحداث الفيلم، وما يحيط به من ظروف. هذه الظروف شكلت في مجموعها "الظرف العام" أو السياق الخارجي" للعمل في سابقة تحسب للفيلم وللمخرج الذي يمنح بطولة شبه مطلقة في فيلمه لفتى مراهق بدا نجماً ساطعاً على الشاشة. بل وأشاع نجوميته على من حوله لتتشكل أمامنا بانوراما سينمائية لا تخلو من ألق. يقوم بدور المراهق "حمادة" في الفيلم الممثل الصاعد أحمد عزمي الذي يعيش مع أمه سوسن بدر بعدما هجرهما الأب وتزوج من فتاة صغيرة، وسافر أخوه الأكبر للعمل في العراق. حتى الآن لا جديد يميز ذلك "الحمادة". فأغلب الأسر المصرية لديها صبي أو تلميذ يحمل الاسم نفسه ويعيش الظروف نفسها. أما الجديد في "حمادة" عاطف حتاتة فهو انه العنصر الفاعل الذي يحرك الأحداث في الفيلم من أول مشهد، الى آخر لقطة في النهاية. ويتوغل المخرج في جِدّة واقتدار داخل نفس ذلك "الحمادة" ليظهر مزيداً ثرياًَ الى أبعد حد. يذهب الصبي الى أمه، بحذائه الممزق، يشكو أستاذ اللغة العربية محمود حميدة الذي يطالبه - في شكل غير مباشر - بدرس خصوصي، تعد الأم بتدبيره، كما دبرت ثمن الحذاء الجديد لولدها، من خدمتها لدى أسرة مصرية عائدة من الكويت بعد الغزو العراقي، لتعيش حياة مفرغة يقضي خلالها الزوج سيف عبدالرحمن أوقاته في التجوال بين حجرات المنزل المتعددة والمتسعة ينظر في هذه المرآة ثم في تلك، في شرود معدوم الهدف، وان حاول - بين حين وآخر - تحصيل شيء من الاثارة ولو مع خادمته. المخدومة الزوجة "سلوى محمد علي التي لا تقل سفاهة واغتراباً عنه، تمضي معظم أوقاتها على الهاتف، تشاهد نشرات الأخبار وأخبار حرب الخليج الثانية. ولا مانع من ان تجلس مع خادمتها لتبادل الأحاديث النسائية التي تسري قليلاً عن النفس وتملأ وقت الفراغ. تُطرد الخادمة سوسن بدر بعد مضايقات متلاحقة من الزوج، أحست بها الزوحة بحدس أنثوي، لتعيش في النهاية بلا مورد للرزق وليتجه حمادة الى العمل والدخول في معترك الحياة متجاوزاً براءته وممارساته الطفولية التي جسدها، في اقتدار، مشهد التلصص على الجنس الآخر عبر ثقب الحائط في فصل المدرسة... وهو البديل الوحيد المطروح أمامه في ظل ثقافة قمعية ونظم تعليم الزامية تفصل الصبية عن الفتيات بحجج تسقطها ثقوب الحوائط المتهالكة في انتصار حتمي لقوانين الطبيعة! ومع بداية تعقد خيوط الفيلم وأحداثه يسد حمادة ثقب الحائط - منفذه الوحيد الى الحياة والبهجة والحلم - ليبدأ الصراع البشري، صراع الوجود واللعب مع الكبار خارج جدران المدرسة. ينزل حمادة الى الشارع، بحذائه الجديد، ويصادق بائعاً متجولاً الممثل الشاب ماهر عصام الذي أصبح منفذه الجديد في حياته الجديدة، بل ونافذته التي يتعرف من خلالها الى أشياء لم يكن يعلم بوجودها قبلاً. يتجول الطفلان "الرجلان" في ميادين القاهرة، يبيعان الورد والكلام المعسول للزبائن في استجداء واهدار لا يخلوان من مكر، ويسوق خلالهما المخرج مشهداً بديعاً يشكل في مجمله بانوراما واقعية لقاهرة 1990 - 1991 ضمت كل شيء متنافر في تناغم عجيب، وبدا أقرب الى "فيترينة" عرض بشرية عن كل ما هو مهدور ومجاني، بدءاً بالباعة والشحاذين والمجانين، وانتهاءً بالمركبات ومن في داخلها من فتيات في عمر الزهور، لتباع الفتاة مع الزهرة للسياح الذين جاءوا الى القاهرة في ذاك الصيف هرباً من حرارة أوطانهم. يموت رفيق الدرب ماهر عصام فتظلم الدنيا في عيني "حمادة"، ويتملكه ضياع ممزوج بقسوة وعنف يترسخان في ذهنه، بعد رؤيته صديقه غارقاً في دمه، إذ صدمته سيارة في خضم زحام القاهرة، ومشهد قتل رجل زوجته على باب احدى دور السينما، بعدما ضُبطت تتنزه مع آخر. ووسط هذه الأجواء المهيأة، نمت وتوغلت سلطة الجماعات المتطرفة في تربة الضياع الخصبة. الجماعات التي تطرح دائماً سياقاً بديلاً للحياة، كان قوامه هذه المرة "التعليم" ومنح الدروس المجانية للطلبة في المدارس والمساجد، ولا مانع من تقديم الطعام والشراب اثناء جلسة العمل، وتأمين مرتبات شهرية لهم أيضاً. وأهم من كل ذلك طرح "الحلم" أمام هؤلاء المراهقين، لا الحلم بالنجاح والاستقرار في الحياة، بل الحلم بالموت ودخول الجنة بأنهارها وجواريها وأبكارها. وهو طرح واعٍ وجديد يحسب للفيلم الذي أتى على عوالم الرياء، في عمق خلا من أي سذاجة أو تنميط ساد أعمالاً سابقة. ولكي يظهر عاطف حتاتة، في قوة، حال الضياع التي سيطرت على الفتى وعلى جيل بأكمله، هو جيل 1990 - 1991، ساق لنا مشهداً لشاب قروي عائد من العراق حيث قتل شقيقه أمام عينيه في موقعة حفر الباطن التي تقابل فيها الجيش المصري مع الجيش العراقي، وهو يحرق بنفسه حذاء أخيه وملابسه - آخر رابط وذكرى له منه - ليقطع بدوره أي صلة تربطه بأهله وأرحامه، قائلاً "أنا مليش أهل ولا وطن، الإسلام هو وطني". ويبكي "حمادة" في شدة، للمرة الأخيرة في حياته ليتحول بعدها مسخاً هائماً يبحث عن روابطه وأرحامه، ليقطعها هو الآخر، يذهب الى بيت أمه فلا يجدها، وعند الجارة مصدر الفتنة بالنسبة اليه طوال الفيلم فلا يجدها. يهرع الى بيت أستاذه ويجده مع أمه فيقتله ويقتلها. وبنزول عنوان النهاية "مصحوباً بصوت طرق الباب المغلق، يكون عاطف حتاتة طرق بدوره أبواباً أغلقت علينا ومن حولنا، من دون ان نشعر نحن بوجودها، أبواباً كثيرة مغلقة، تبدأ بنظام التعليم "المغلق" على عنف مستتر ومقنن يباح فيه الضرب البدني، وتمتد الى باب السفر الى الخارج لكسب العيش وتجاوز أبواب الفقر والاغتراب، التي يؤدي تجاوزها الى الدخول في دروب ودهاليز أكثر فقراً وغربة، وأبواب أكثر احكاماً في وصدها وقسوتها. ويطرق في دربه حرب الخليج التلفريونية التي لم نعرف شيئاً عنها أو عن أحداثها وان عشنا نتائجها التي أتت على كل شيء، خصوصاً على نفوس شباب يمثلون جيلاً بأكمله هو الجيل 1990 - 1991. وباب الجماعات المتطرفة التي تتبنى وتحتضن لتدفع الى مزيد من الغربة والتغييب باسم الدين. وهو ما حدث ل"حمادة" بعدما غاب الأب والأخ فكانت الجماعات له أسرة، وسلطة بديلة من سلطة الأب والأخ. سلطة لها وقع محبب طالما تاق اليها قلبه. وعندما ذهب "حمادة" الى شيخ الجماعة، وقص عليه "احلام المراهقة"، فسرها له الشيخ - الذي صار بالطبع أباً وأخاً - بأنها "نفح من الشيطان" عليه تجاوزها، واعداً اياه بحور العين والبكارى في الجنة بعد الموت طبعاً ودافعاً اياه الى الزواج من ابنته المنقبة "سماء" التي لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها، في صفقة طرفها الآخر تزويج أمه من "أمير الجماعة" العائد من الجهاد في أفغانستان، بدعوى الصون والسترة. وهو الشعار نفسه الذي استخدموه في تهديد الجارة والزامها ارتداء الحجاب مع السماح لها بممارسة الدعارة في شكل مقنن تحت رايتهم. ومع ذلك العرض الغني للظرف الخارجي العام المحيط بالفتى، نجح الفيلم أيضاً - في سابقة أخرى تحسب له - في اختراق دهاليز نفس المراهق بوعي واقتدار كبيرين، عبر عنها المخرج بتفاصيل علمية دقيقة جسدت في مشاهد حرجة مع أمه وهي تسير معه ممسكة بيده أمام زملائه، أو مناداته ب"حمادة"، ومتابعته خظوات أمه بقلق وتوتر في كل جيئة أو ذهاب واحساس الذنب والحيرة الذي لازم "حمادة" بعد احتلامه ليلاً وتزامن ذلك مع سماعه صوت الآذان، وأحلام اليقظة المستمرة بالزعامة واستعراضه القدرات الخطابية وتقليد الطغاة والتلذذ بفكرة القتل. كل هذا الى جانب مشهد آخر نقل خلاله المخرج شعور المراهق الفطري بالغيرة على أمه عندما ركض مسرع الخطى لاحضار شراب لأستاذه وترك الباب مفتوحاً ليعود اليهما لاهثاً مسرعاً، كذلك مشهد القفز على الجارة بعد حال استثارة اصابته، أثر حديث الشيخ عن ملذات الجنة، الأمر الذي أدى الى نتائج عكسية. ولمزيد من الرغبة تجسدت - للمرة الأولى - في فعل جسدي عنيف استعاض به الشاب عن الحلم.