أهوى التجارب الجديدة والخروج عن المعتاد، لذلك عندما اقترح عليّ إجراء حوار مع المخرج عاطف حتاتة لمناسبة تكريمه في مهرجان الاسكندرية، قلت لنفسي لماذا لا يُحاور الأب ابنه في مناسبة مثل هذه؟ هكذا وجدت نفسي جالساً أمامه في تلك الأمسية. وهنا نص الحوار. ما الخواطر التي جاءتك عندما علمت أن اللجنة المكونة من مئة ناقد وصحافي سينمائي اختارت فيلمك «الأبواب المغلقة»، الذي تم عرضه عام 2001، ضمن أهم عشرة أفلام مصرية أُنتجت في السنوات العشر الماضية؟ - شعرت بالسعادة وبالرضا عندما جاءني نبأ هذا التكريم، فقد أكد عندي هذا الاختيار أشياء مهمة بالنسبة إليَّ، أشياء كنت مؤمناً بها وما زلت، هي أن النفس الطويل والصبر على الجهد لا بد أن يُؤتيا ثمارهما، وأن العمل الذي أُنجزه إن كان جيداً فسينال التقدير حتى إن مرت عليه سنون وبدا كأن الناس نسيته. هل هناك خواطر أخرى مرت بذهنك في هذه المناسبة؟ - أحسست أن هذا التكريم جاءني في توقيت مناسب، فأنا أُعد الآن لفيلم جديد. لذلك بدا لي أن الأمور الخاصة بي صارت تتقدم بعد فترة من الانتظار الصعب. حكاية مراهقة كيف جاءتك فكرة هذا الفيلم، وكيف تطورت في ذهنك؟ - سأحاول أن أسترجع ما مضى منذ عشر سنين. وقتها كنت أريد أن أكتب فيلماً عن المراهقة، أو بالأحرى عن شخصية شاب مراهق. في هذا الوقت كنت في العشرينات من العمر، ومرحلة المراهقة لا تفصلني عنها مسافة طويلة. كانت هناك علامات مميزة، ومشاكل عالقة بذاكرتي وقريبة مني أُريد أن أُعبر عنها، فجعلتني أُفكر في كتابة سيناريو عن شخصية شاب مراهق لأُجسد أشياء كانت لا تزال إلى حد بعيد حية في نفسي. بعد ذلك طرأ على ذهني سؤال: ما الذي يُمكن أن أكتبه عن المراهقة، فهي ليست مسألة يُمكن الحديث عنها في شكل عام، وإطلاقها. لا بد من تناول زوايا أو عناصر مميزة، لها خلفية خاصة بها، خلفية سياسية واجتماعية، وتاريخية حتى تكون للموضوع أعماقه. هكذا تطور فكري في نوع من التسلسل عبر شرائح متتالية: المراهقة نفسها، ثم الشريحة السياسية، تليها الجوانب الاجتماعية والتاريخية. على هذا النحو بُني السيناريو خطوة بعد خطوة. أفهم من كلامك أنك كنت خارجاً من تجربة المراهقة باعتبارك شاباً، والمسألة كانت إلى حد ما متعلقة بذاتك. هل يعني هذا أنك تعتقد أنه عندما ترتبط المسائل بذاتك، في شكل مباشر أو غير مباشر، أن هذا يُسهل عملية الإبداع الفني، أم ترى أن الأفضل أن يكون الموضوع الذي تُعالجه مفصولاً عنك بمسافة؟ - إحساسي أنه لا تُوجد قاعدة. طبعاً الأمور تكون أقل صعوبة عندما أجد نفسي قريباً من الشخصية، أو من الموضوع الذي سأتناوله، ففي هذه الحالة يستقي الإنسان الأشياء من مخزونه الداخلي. لكن ليس من الضروري أن تكون هذه هي القاعدة في كل عمل. يُمكن أن يكون الإنسان بعيداً ولو بقدر من موضوعه ثم يُعبر عنه بإتقان. البعد أو القرب مسألة نسبية فيُمكن أن أكون قريباً جداً من موضوع، ومع ذلك لا أراه جيداً، ويُمكن أن أكون بعيداً من الموضوع أو الشخصية التي أتناولها ومع ذلك أراها وأُدركها على نحو جيد. أعتقد أن هذا يعتمد على الشخص الذي يقوم بكتابة السيناريو، أو إخراج الفيلم، على حساسيته، ورؤيته للمجتمع، وعلى مدى نضجه. ففي هذه الحالة يُمكن أن يُعبر عن أشياء بعيدة منه، ومع ذلك تكون نظرته إليها وإحساسه بها حميمين. في الفن لا تُوجد قواعد مطلقة. تعاون هل تجنح إلى كتابة سيناريوات أفلامك بنفسك؟ - بالعكس أعتقد أن من المفيد التعاون مع كتاب آخرين. لكن في ما يتعلق بأعمالي السابقة «الأبواب المغلقة»، ومشروع فيلم «المنفى» الذي لم يُنتج، والفيلمين القصيرين «عروسة النيل»، و «كمنجة» قمت بكتابة السيناريوات الخاصة بها وحدي لأنني أحسست بدافع قوي للتعبير عنها بنفسي، كأنها موجودة داخلي وتنتظر الفرصة لكي تخرج مني. لكن تكويني ليس تكوين كاتب. لذلك أُريد أن أتعاون مع كتّاب آخرين وأشعر أنها ستكون تجربة ممتعة وخصبة. لكن كونك تميل إلى التعاون مع كتاب آخرين في تأليف السيناريو يُوحي بأنك ما زلت تعتقد أن من الأفضل إخراج أفلام كُتب السيناريو خصيصاً لها، وليست مشتقة من روايات أحد الكتاب. ما وجهة نظرك في هذا الموضوع؟ - في هذا أيضاً لا أرى أن هناك قاعدة. إن السيناريو سواء كتبته بنفسي أو مع آخرين خصيصاً للفيلم، ولم يُؤخذ عن رواية من الروايات يُمكن أن يكون مُرضياً. لكن، لكل مشروع أو عمل بناؤه وشخصيته وقواعده الخاصة به. إذاً، لا نستطيع أن نقول إن السيناريو المكتوب خصيصاً ليظهر على الشاشة من دون أن يستند إلى رواية سيكون بالضرورة أفضل. قد يكون السيناريو المشتق من عمل أدبي ناجحاً للغاية. هذا على رغم أنه في مثل هذه الحالات كثيراً ما يُقال إن الرواية الأصلية كانت أفضل من الفيلم الذي اقتبس عنها. مع ذلك هناك أفلام قامت بتطوير الروايات التي أخذت عنها وأضافت إليها آفاقاً جديدة. في هذه الحالة قام السيناريو بصُنع أبعاد لم تكن موجودة في الرواية التي استند إليها. كم من الوقت استغرقت كتابة سيناريو «الأبواب المغلقة»؟ وهل عدّلت فيه أثناء الإخراج؟ - على ما أتذكر الآن استغرقت كتابته سنتين وربما ثلاثاً حتى انتهيت منه. لم أُعدل فيه أثناء التصوير. كان لا بد عند مرحلة معينة أن أتوقف عن كوني كاتب سيناريو وأنتقل تماماً إلى مهمة إخراج ما كتبته. طبعاً يستطيع المخرج أن يُجري تغيرات إن أراد ذلك، لكن في هذا الفيلم لم يحدث تغيير. كنت راضياً تماماً عما كتبته وبعد ذلك ركزت جهودي على الإخراج. هل استغرقت هذه المدة لأنك تكتب ببطء، ولماذا تقول إنك لست كاتب سيناريو؟ - أجد متعة في كتابة السيناريو، لكن ما أقصده أن ليس من الضروري أن أكون أنا كاتبه. ربما ستكون النتيجة أكثر ثراء إن تعاملت مع كتّاب للسيناريو وأركز أنا على الإخراج. الموضوع يتوقف على إحساسي وعلى ظروف كل مشروع. في فيلم «الأبواب المغلقة» صورت مشاكل حياة شاب مراهق فقير يعيش في المناطق العشوائية مع أمه المطلقة، ومختلف المشاكل التي يتعرض لها، ما يُؤدي به إلى الارتباط بجماعة إسلامية سياسية. هذه المجالات بعيدة من حياتك، فكيف أمكنك ذلك؟ - هناك عناصر كثيرة تناولتها في الفيلم كانت قريبة مني. مسألة المراهقة مثلاً، بالإضافة تعرضت أنا أيضاً في شكل أو في آخر كطفل ومراهق وشاب لتأثير التيارات الدينية السياسية التي انتشرت في المجتمع. وليس من الضروري أن أكون عشت شخصياً كل ما سعيت إلى تصويره. يُمكنني أن أستشف أشياء من طريق الآخرين. بالإضافة أن للخيال دوراً مهماً. أحياناً يكون الخيال أكثر صدقاً من الواقع الذي أستشفه مباشرة. كانت لي تجارب وأصدقاء ولقاءات مع أشخاص مختلفين قربتني من الموضوع. المسألة ترتبط بإدراك الكاتب والمخرج، ومدى اهتمامه بما يدور حوله. المهم هو القدرة على الملاحظة والاهتمام والتعمق. خيالي وملاحظاتي واهتماماتي تتجه بطبيعتها إلى الظواهر التي تشغلني. تتغذى منها في شكل شبه تلقائي طالما أن الموضوع استولى على تفكيري وولّد عندي رغبة في التعبير عنه. هل قمت بعمل أي أبحاث سابقة قبل كتابة السيناريو وما هي؟ - لم أكن في حاجة إلى ذلك، فأنا لم أسع إلى توثيق أية أحداث أو وقائع، وإنما أساساً إلى تحليل الشخصيات المختلفة، وتتبع تصرفاتها وارتباطها بظروف المجتمع الذي تعيش فيه. في هذا الفيلم صورت إحدى الجماعات الإسلامية. ما الذي حرصت عليه في تصويرك لهذه الجماعة؟ - تناول الفيلم أساساً موضوع الإرهاب الفكري الذي تُمارسه هذه الجماعات، لكنني حرصت على الابتعاد من الكليشهات، من النمطية التي سادت في بعض الأفلام الخاصة بهذا الموضوع. حرصت على أن أبتعد مما قد نتصوره عن هذه الجماعات، عن المحركين لها، والمنضمين إليها. لا أعرف إلى أي مدى نجحت في هذا، لكنني سعيت إلى تفادي التصوير الفج والتبسيط وأن أقترب منهم كبشر حتى وإن لم أكن متفقاً مع وجهات نظرهم وأفكارهم. قام بدور الشخصية الرئيسة في الفيلم، أي بدور «حمادة» الممثل أحمد عزمي. كان هذا أول دور مهم يقوم به في مجال السينما. كيف كانت علاقة العمل بينك وبينه حتى أمكنه القيام بدوره على هذا النحو المتقن؟ - علاقتي بأحمد عزمي بدأت قبل هذا الفيلم، فقد لعب دوراً رئيسياً في «عروسة النيل». إنه ممثل جيد، وكان في السن المناسب. عقدنا جلسات متعددة وطويلة بيننا. أردت منها أن نقترب، وتنشأ بيننا علاقة ود وحميمية تُؤدي إلى الراحة في التعامل. غالبية الوقت لم يكن الكلام يدور حول الفيلم في شكل مباشر. كانت الجلسات عبارة عن تعارف، وتبادل وتفاهم حتى وإن كنا نتحدث عن الفيلم في بعض الأوقات. الارتياح في العمل وفي التعامل هو أهم شيء لأنه يُعطي الممثل فرصة لإظهار موهبته. تعامل كيف تعاوملت مع «ماهر عصام» الذي قام بدور «عوضين» صديق «حمادة» المتشرد والمهرج الذي يكسب عيشه بوسائل عشوائية في الشوارع؟ - طبعاً كان هناك اختلاف لأن كل ممثل له شخصيته. كان التعامل مع ماهر عصام سهلاً وبسيطاً لأن دمه خفيف جداً، والدور الذي قام به كان مناسباً تماماً لشخصيته. ما الذي استفدته أو عانيته من العمل مع ممثلين مخضرمين مثل سوسن بدر ومحمود حميدة؟ - هنا أيضاً كان التعامل سهلاً، ولم نكن في حاجة إلى جلسات طويلة. أجرينا بعض المناقشات لتوضيح الأدوار، لكن حدث في بعض الأحيان أن وجهات نظرهما كانت أقرب إلى السيناريو عني أنا على رغم أنني كنت كاتبه. قامت منال عفيفي بدور المومس صديقة «أم حمادة». تعاطفنا مع تصويرك لهذه الشخصية. ما الذي راعيته لكي تنجح في ذلك؟ - هنا أيضاً حرصت على الابتعاد من النمطية، على التعامل مع الشخصية بأبعادها المختلفة. راعيت هذا مثلاً في الملابس والتصرفات التي قامت بها. لم أُرد أن أُغازل تخيل المتفرج العادي لشخصية المومس، بالعكس عكست بعض التصورات الشائعة عن المومس، وجعلتها تتصرف بعيداً من استعراض مفاتنها. تعاملت معها كإنسانة تُعاني لأن من يعشن حياة المومس معرضات أكثر من غيرهن لقسوة المجتمع. هل يُمكن أن تحدثنا عن الموسيقى، والمؤثرات الصوتية والتصوير في هذا الفيلم؟ عن طريقة العمل بينك وبين مدير التصوير سمير بهزان؟ - في الموسيقى تحديداً أردت ألاَّ تطغى على موضوع الفيلم، أن تكون مثل الخط الذي نضعه تحت كلمة لإبرازها، لكننا نجعلها رفيعة تكاد لا تُرى، أن تُساعد الموسيقى على تكثيف بعض المشاعر والأحاسيس، أن تُجسد دراما بعض المشاهد من دون أن نشعر بها، وحيث لا يُدركها ربما سوى المتخصصين في الفن السينمائي. هدفي الأساس هو أن أختار الموسيقى والمؤثرات الصوتية بحيث لا يشعر بها المشاهد الجالس في الصالة. لذلك هناك احتمال أن عدداً كبيراً من المشاهدين لم يُلاحظوا وجود موسيقى أو مؤثرات صوتية، وكان هذا هو الهدف الذي سعيت إليه. كان دورها تجسيد المشاهد وخدمتها وتقوية تأثيرها على نحو شبه خفي. استخدم البيانو في الفيلم في شكل أساسي والكمنجة، ولكن في أجزاء قليلة وللحظات قصيرة. أم المصور سمير بهزان فقد تعاونا من قبل في الفيلمين القصيرين. إنه مصور عينه رائعة، وصوره جميلة يحرص فيها على ألاَّ تكون براقة، فأنا أرتاح لأسلوبه الحساس البعيد من الصوت العالي والذي يجعل ألوانه تتسرب إلينا هامسة. هذا فضلاً عن الصداقة التي تربط بيننا، وتجعل العمل بيننا دافئاً. فيلم «الأبواب المغلقة» كان صعباً ومؤلماً للغاية. لماذا لم تخفف من وطأته بإدخال بعض «المشهيات» المعتادة لكي تُريح الجماهير التي اعتادت رؤية أفلامنا؟ - طبعاً أنا موافق على أن «الأبواب المغلقة» كان فيلماً قاسياً وصادماً. بذلت بعض الجهود للتخفيف من هذا، مثلاً في وجود شخصية «عوضين»، لكن طبعاً موته كان مؤلماً للغاية، وربما زاد الأمور قسوة، لكن أسلوب الفيلم كان في رأيي هو التعبير الملائم عن موضوعه، عن الواقع الذي أردت تصويره. أحسست أنني لا أستطيع أن أُقحم عليه أشياءً ستكون نشازاً مقارنة باتجاهه الأصيل الذي كان من المهم الحفاظ عليه، والذي فرض نفسه عليَّ إلى حد كبير. اخترت موضوعاً وكان لا بد من أن أسير فيه حتى نهايته مهما كان مؤلماً وإلا كان عليَّ أن أختار موضوعاً آخر. لماذا مرت عشر سنوات منذ فيلم «الأبواب المغلقة» قبل أن تشرع في الإعداد لفيلم جديد؟ - أثناء هذه السنوات العشر كتبت سيناريو فيلم «المنفى» لكنه لم ير النور. كما أنه طُلب مني إخراج فيلم لكاتب سيناريو آخر. بذلت جهداً في تعديل السيناريو قبل إخراجه لكن لم تُقبل هذه التعديلات، ولم أرد أن أخرج الفيلم من دون أن تُجرى عليه تلك التعديلات. * روائي وطبيب * كتب هذا النص أصلاً لينشر لمناسبة تكريم عاطف حتاتة في مهرجان الاسكندرية.