في فيلم "حدوتة مصرية" 1982، وهو احد أجزاء ثلاثية السيرة الذاتية ليوسف شاهين، يصرخ المخرج "يحيى شكري مراد" نور الشريف في دور شاهين نفسه في وجه "نعيمة" رجاء حسين حين تقترح عليه أن يخرج أفلاماً بسيطة سهلة يفهمها الجمهور، وان يبتعد عن أفلامه المعقدة غير المفهومة على الاطلاق، في رأيها: "إنتي عايزاني أبيع أحلام زي الأميركان، اشتغل مسلواتي يعني؟". انها القضية الحقيقية التي اثارها شاهين دائماً خصوصاً في فيلمه هذا من دون مواربة. وهي لم تأت في السياق العام للفيلم قصداً، وإنما تؤكدها امور عدة لا تحتاج إلى أي إضافة أو تعليق، ومنها موقف يوسف شاهين المعلن والمضمر في الوقت نفسه، المتمسك بمبادئه التي لا يفرط فيها أبداً، وهو الذي يناضل إلى آخر لحظة كي ينفذ ما يطمح إليه ويحقق ما يحبه لنفسه، او لشباب السينما المصرية التي ترفض أن تموت. فهذا بالنسبة الى شاهين تعبير عن أزمة السينما الراهنة التي نبّه إليها باكراً، ولم ينتبه أحد إلى صيحته الاستغاثية أو يلتفت إليها مجرد التفاتة، ما دعاه إلى الاعتماد، بعض الشيء، على الآخر الأوروبي والابتعاد عن المنتج المصري أو العربي اللذين يفرضان نجوماً معينيين، ومواضيع معينة لا يقبلها ذوقه الفني. فالرجل، على رغم سنوات عمره الأربعة والسبعين، ما زال واقفاً في خندق الدفاع عن السينما المصرية والسينما العربية، حتى يستطيع السينمائي العربي التعبير عن نفسه على فضاء الشاشة السينمائية الساحرة، وفق ما يريده هو، لا ما يريده الآخرون، وحتى لا يكون مصير السينما الانقراض كغيرها من الفنون الأخرى التي أتى عليها الدهر وأصبحت في ذمة التاريخ. في مطلع عقد التسعينات، خرج جيل جديد من عباءة آباء الثمانينات المعروفين ب"مخرجي الواقعية الجديدة" أو "الواقعيين الجدد"، من مثل عاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وداود عبد السيد وغيرهم، كامتداد له، ما يؤكد حيوية مصر السينمائية الدافقة. فسينما التسعينات امتازت بتقنيات سينمائية أكثر حداثة وتطوراً وحساسية مما كان اتيح لجيل الثمانينات، وابدت اهتماماً أكبر بطبقات المهمشين المنسحقة، معبراً عنها في إطار إنساني دافئ ومفعم بالأحاسيس والمشاعر النبيلة. ونتج هذا التحول من تبدل الظروف المجتمعية والحياتية، وكان أبرز مخرجي هذا الجيل الجديد رضوان الكاشف في "ليه يا بنفسج؟"، ومجدي أحمد علي في "يا دنيا يا غرامي"، وأسامة فوزي في "عفاريت الأسفلت". وقبل أن يوشك قوس القرن الاكتمال، برزت على الساحة السينمائية المصرية أسماء أخرى تدلي بدلوها في الإخراج السينمائي، ربما للمرة الأولى، من خلال أفلام تسجيلية أو روائية قصيرة. وجاءت وسائل اصحابها التعبيرية مبشرة وكاشفة عن حس سينمائي عال لدى هذا الجيل السينمائي الوليد، ونذكر منها سعد هنداوي وعاطف حتاتة وأحمد عاطف وأحمد ماهر وأحمد رشوان وكاملة أبو ذكري وساندرا نشأت ورشا الكردي وإيهاب لمعي وعادل أديب وهالة جلال وهالة خليل... إلى نهاية القائمة الحافلة بأسماء كثيرة ينتظرها مستقبل كبير في شأن الإخراج السينمائي. اذاً، منذ أواخر عقد التسعينات في مصر، يلحظ المتابع الدقيق للساحة السينمائية المصرية، مولد تيار سينمائي جاد يواجه تياراً آخر أكثر عبثية واستهتاراً بعقل المشاهد المصري والعربي، عرف اصطلاحاً باسم تيار "الكوميديين الجدد". وهو قام وسط مناخ سينمائي يوحي بموت السينما المصرية. ومع هذا ها هي تنبعث، من الرماد المتأتي من نار الحريق، موجة سينمائية جادة جديدة، قوية وشابة، تعرف ما تريد وأين تضع قدمها، وإلى أين تتجه، بعيداً من أفلام تدعي أنها كوميدية، وهي أبعد ما تكون عن الكوميدية الحقيقية التي يتندر عليها "الكوميديون الجدد" قائلين إن الكوميديا التي تتحدث عنها هي الموجودة في بطون أمهات الكتب والمراجع الأكاديمية، وليست تلك التي في القاعات السينمائية والتي يريدها جمهور يأتي إلى دار العرض - في رأيهم - كي "ينبسط" بطريقتهم الخاصة في الضحك!! وفي المواجهة الثلاثية التي اجرتها "الحياة" 29/9/2000 مع ثلاثة من أبرز ممثلي تيار الكوميديين الجدد محمد هنيدي وعلاء ولي الدين وأحمد السقا، قال ولي الدين: "أحلامنا تكمن في تقديم سينما مبهجة إلى جمهور يدخل دار العرض ويخرج وهو يضحك من دون إسفاف أو ابتذال، "نقدر نقول" إننا حققنا تلك المعادلة الصعبة في أفلامنا". فيما يقول السقا: "هذا الجيل يقصدالكوميديين بالطبع مستمر بفضل ربنا، سبحانه وتعالى، ثم بفضل الجمهور الجميل". مشكلة إضافية أياً يكن الأمر، فإن الجيل الجديد الواعي من مخرجي القرن الجديد والذي يمثله أفضل تمثيل الفنانان أحمد عاطف وعاطف حتاتة وخالد يوسف في فيلمه المقبل "العاصفة"، تواجهه مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن الصراع الكبير بينهم وبين تيار الكوميديين الجديد الصاخب. وأعني بذلك الارتماء الجماهيري في أحضان الفيلم الاميركي المدمر، أياً تكن قيمته، نظراً إلى الآلة الإعلامية الجبارة والساحرة في الوقت نفسه التي تدعم وجوده في كل أرجاء المعمورة، خصوصاً في منطقتنا العربية. إذ تشكل السينما الأميركية، بكل تراثها الإعلامي العريق، تياراً مضاداً آخر يضاف إلى قائمة التيارات المناوئة لقيام سينما عربية عريقة تدافع عن القيم الجمالية وتناقش عدداً آخر من القيم المجتمعية التي خرجت بغير رحمة من ذاكرتنا السينمائية الآن. وتسعى هذه السينما الجديدة التي يتزعمها العاطفان أحمد عاطف وعاطف حتاتة، في شكل أو آخر الى الخروج من عباءة الأب والتمرد عليه، أي يوسف شاهين الذي يعد أبا الحداثة في السينما العربية ورائد التجديد وشيخ السينمائيين في الوقت نفسه، وهو أيضاً الذي يحمل هذه المهمة على عاتقه في النصف الثاني من القرن العشرين، ويعمل بعزيمة لا تلين على تحقيق الأحلام التي لا يجد لها مكاناً في هذا الواقع العقيم، على رغم أنه هو الذي ساعدهما كثيراً وأتاح لهما الفرصة لتشكيل وعيهما الجمالي والاجتماعي، من خلال سينماه الإنسانية والجمالية الراقية في الوقت نفسه. ويتضح هذا التأثر في فيلم "عمر 2000" لأحمد عاطف الذي جرب فيه كل الجنون السينمائي الشاهيني، وأراد أن يصنع فيلماً "لم يصنع من قبل" وكان يحلم بأن يشترك به في مهرجان "كان" ويحصل على جائزته. وتأتي هذه المحاولة من هذين السينمائيين الشابين بمثابة صرخة ميلاد جديد في واقع السينما المصرية المنهارة الآن، وهي تحدث بين مدة وأخرى، محاولة منهما للقتل الرمزي للأب والخروج على التقاليد المرعية في السينما المصرية. ولعل من أبرز سمات سينما بداية القرن الجديد، أنها سينما المخرج المؤلف، أي أنها سينما ذاتية خالصة من الألف إلى الياء، وهذا تأثر شاهيني أيضاً. وهي تعتمد الوجوه الجديدة التي لم تشوه وتستهلك بعد، وتعيد في الوقت نفسه اكتشاف القديم منها في ثوب جديد أحمد فؤاد سليم في "عمر 2000" على سبيل المثال. وتعود إلى الاهتمام والاحتفال بالهموم المجتمعية مرة أخرى بعد طول غياب، وملاحقة الخيال بأجمل طريقة ممكنة والدخول في عمق التجريب الفني واتباع الوسائل الإبداعية الممكنة والانفتاح على سينمات العالم المختلفة والإفادة منها دون أن تفقد صلتها الوثيقة بتراث الآباء المجددين الموجود، والتجديد فيها. "عمر 2000" فاز فيلم "عمر 2000" لمخرجه وكاتبه الشاب أحمد عاطف بجوائز عدة في أول مهرجان يشارك فيه، وهو مهرجان الاسكندرية السينمائي الأخير. وكانت الجوائز، في المسابقة الدولية: أحسن تصوير سعيد شيمي، وفي المسابقة المصرية:أحسن انتاج وأحسن فيلم وأحسن مخرج في فيلمه الأول، وأحسن سيناريو وأحسن تصوير وأحسن مونتاج منى ربيع وأحسن موسيقى هشام نزيه وأحسن فيلم جائزة وزارة الثقافة المصرية، والفيلم في حد ذاته يستحق أكثر من هذا فهو جريء وجميل ومختلف. تخرج أحمد عاطف في المعهد العالي المصري للسينما عام 1993، ثم أخرج عدداً من الأفلام القصيرة للسينما والتلفزيون، فضلاً عن كتابته مقالات النقد السينمائي خصوصاً في جريدة "الأهرام إبدو" الناطقة بالفرنسية والصادرة عن مؤسسة "الأهرام" القاهرية، ومساهماته المتنوعة في إنجاح عدد من المهرجانات السينمائية المصرية، بفضل تشجيع اثنين من المشغولين بالشأن السينمائي في مصر، وهما: الراحل الكبير سعد الدين وهبة والناقد السينمائي البارز سمير فريد. وفي محاولة من المخرج للتشبه بسينما الآباء أو لعدم وجود سيناريو آخر مكتوب جيداً يعبر عن الهواجس التي ينوء بها صدره ويتأخر بها حلمه، كتب أحمد عاطف فيلمه بنفسه حتى أنه ألف الأغنيتين اللتين وردتا في المقدمة وقرب النهاية. وهو عبر من خلال ذاك الفيلم المليء بالأسئلة والداخل في الكثير من المناطق الملغومة التي تعد في نظر كثيرين محرمات يجب الا تمس، عن رؤيته العميقة لواقع مصر والعالم المتموج في نهاية القرن العشرين وبداية ما يعرف بالنظام العالمي الجديد الذي ما زال في ضوء التشكل، من خلال بطله "عمر" الذي قارب الثلاثين من عمره، ويحلم بالسفر إلى العالم الجديد: الولاياتالمتحدة الاميركية حيث الثراء والتقدم والديموقراطية وكل الأشياء الجميلة التي يتخيل وجودها فيها وحدها. ويضرب الفيلم بمهارة فائقة على الحلم الاميركي المبشر به من عدد من الأنظمة السابقة والحالية والأجهزة والجماعات والأفراد معاً، من خلال نقاط كاشفة تدعو إلى فضح الواقع ورفع الحجب عنه وكشف الستر الشفيفة والكثيفة على السواء. ويشارك "عمر 2000" في هذا أفلاماً أخرى عزفت على الوتر الحساس نفسه، مثل "أميركا شيكا بيكا" للثنائي مدحت العدل كاتباً وخيري بشارة مخرجاً. لكن المعالجة هنا جاءت في شكل مختلف تنقد الحلم على أرض الواقع المصري من دون حاجة إلى السفر في رحلة مأسوية للكشف عن زيف ذاك الحلم. لكن الفيلمين في النهاية يشتركان في كراهية الحلم الاميركي البغيض وإدانته. ومن خلال رحلتنا في فيلم احمد عاطف الممتع، يدفع بنا إلى آفاق جديدة من التعبير السينمائي المدهش، فنتعرف إلى عمر وأصدقائه، وعالمه المثير. ولم يعتمد المخرج - الكاتب في بناء فيلمه بناء عادياً يقوم على الحبكة الأرسطية التقليدية، بل أطلق لخياله العنان في بناء خيالي تتجاور أحداثه، من دون ان يربط بينها سوى وجود بطلنا عمر خالد النبوي وثلة أصدقائه: بيبو منى زكي وسعيد أحمد حلمي وحسام قسط محمد شورى. وعلى رغم حمل الفيلم في بعض المواقف شيئاً من المباشرة، فإنها مباشرة ملزمة فيه للإفصاح عن الأشياء التي يريد المخرج إيصالها إلى جمهوره. وقد نجح في صناعة جو شديد التألق السينمائي شكلاً ومضموناً في الوقت نفسه. الأبواب المغلقة فاز فيلم "الأبواب المغلقة" لمخرجه وكاتبه الشاب عاطف حتاتة ابن الكاتبين المصريين البارزين شريف حتاتة ونوال السعداوي بجوائز عدة مذ انتهى منه، وتقدم به إلى عدد من المهرجانات السينمائية في مصر وخارجها، وكان آخرها نيله جوائز عدة في مهرجان الإسكندرية السينمائي الأخير، وهي على النحو الآتي: في المسابقة الدولية أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن سيناريو وأحسن ممثلة سوسن بدر واحسن ممثلة ثانوية منال عفيفي، وفي المسابقة المصرية: أحسن انتاج وأحسن فيلم وأحسن مخرج في فيلمه الأول وأحسن سيناريو وأحسن تصوير سمير بهزان وجائزة لجنة التحكيم الخاصة سوسن بدر، وشهادة تقدير لبطل الفيلم الوجه الجديد المبشر أحمد عزمي. ويكشف الفيلم عن مخرج سينمائي متمكن من أدواته وطريقة ادارته طاقم ممثليه، وكتابة موضوعه، ومعالجته فن الاطياف الساحر في شكل يُثير الاعجاب ويحمل في ثناياه الإبهار والدهشة. ويؤثر المخرج - المؤلف، العودة الى الأفلام ذات المغزى الاجتماعي والسياسي في الوقت نفسه، بعد طول غياب اعتقدنا معه انقراض هذه النوعية من الأفلام الجادة التي تحمل هموماً مجتمعية إلى الأبد. وتشكل أحداث حرب الخليج الثانية 1990 - 1991 خلفية ثرية للبناء الدرامي لأجواء هذا الفيلم، من خلال تناول حياة مراهق ومشكلاته الحياتية المتعلقة بهذه المرحلة السنية الشديدة الخطورة وصعوباته الدراسية والتقلبات الكثيرة التي يصادفها. ويضيف غياب الأب في الفيلم أبعاداً نفسية متنوعة وبالغة الدلالة في ذاتية البطل المراهق، فتتجسد أحلامه في أمه التي تشكل كل عالمه في الحقيقة، من هنا تبزغ عقدة أوديب الاغريقية الشهيرة لدى البطل ويتعلق بأمه ثم يقع في براثن الجماعات المتطرفة التي تميل إلى العنف وتكفير المجتمع المدني، زاعمة امتلاك الحقيقة المطلقة. وتكون النهاية قتل الابن أمه بعد شكه في سلوكها ومعرفته قصة الحب بينها وبين مدرسه. يحذر عاطف حتاتة من الذي يحدث في المجتمع بكل صدق، ويدق ناقوس الخطر ولا يناور، او يقدم انصاف حقائق، بل كل الحقيقة. فلا سبيل إلى الإصلاح. وهو يقول لنا ان العنف والتطرف توأمان، تغذيهما تربة شديدة التخلف، ومترعة بالفقر والأفكار المغلوطة وعدم وجود عقل نقدي يقوم الأمور ويفرق بين الغث والثمين. ويغلب على الفيلم الاسلوب الواقعي برؤية وجمالية وفكرية شديدة الشفافية. نجح العاطفان عاطف حتاتة وأحمد عاطف في رفد السينما المصرية بدماء جديدة هي في اشد الشوق إليها، حتى ينقذاها من عثرتها، الأول من خلال أسلوبه الواقعي الجاد الذي يذكرنا بسينما الراحل الكبير عاطف الطيب، ولكن برؤية أواخر التسعينات وبدايات القرن الجديد، والثاني من خلال وسائله التجريبية الكثيرة التي تشي بامتلاكه كل وسائله التفكيرية والتنفيذية التي تتجاوز الواقعي، وتطمح الى تقديم سينما مغايرة للسائد والمألوف، وتحلق في آفاق الفانتازيا. ويعبر هذان المخرجان الشابان عن الواقع المصري المعيش، وعن جيل جديد وواعد من شباب السينمائيين في مصر الآن.