الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام عن المرأة غالباً ما تكون منحازة وهذا ما تندّد به منذ أكثر من قرنين المناضلات الغربيات اللواتي تمكّنَّ من ادخال تعديل على ملامح تلك الصورة بفضل توافر مناخ عام ركيزته الديموقراطية. أما في بلدان الجنوب حيث لا تزال التجربة الديموقراطية طريّة العود والأعراف الاجتماعية المثقلة بالعصبيات والمحرّمات سائدة فالصورة المذكورة أقل اشراقاً بطبيعة الحال. ولذلك تبدو صورة المرأة الجنوبية مقهورة ومسلوبة الارادة ومسحوقة الشخصية. لكن هناك وجه آخر للقمر، في بلدان الجنوب بالذات، يسمح لنا ايضاً باستخلاص نتائج اكثر ايجابية وأقل سوداوية من تلك التي يروّجها الاعلام التقليدي. ففي البلدان غير الصناعية وغير المتقدمة هناك نساء جديرات باحترام كبير، لشدة ما بذلن من جهود في سبيل تأمين حقوق اخواتهن المستضعفات. ففي الهند مثلاً، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، بعض من هذه الوجوه المميزة التي مشت على خطى غاندي، تصادفها في قطاعات العمل كافة. من هذه الوجوه شابانا عزمي، الممثلة والنائبة، المدافعة في المجال السينمائي كما تحت قبة البرلمان، عن ذوي الحقوق المهضومة. تطل شابانا كالسوسنة المتوهجة، صريحة في ابتسامتها وصادقة في نظرتها. وهي النجمة اللامعة في ما يُتفق على تسميته بالبوليوود أي هوليوود بومباي. تصريحاتها على الدوام تتصدر صفحات الجرائد وهي حاضرة في التظاهرات والمهرجانات السياسية وفي البرلمان. والتزامها السياسي - الاجتماعي هذا لم يقف عند حدود الكلمات، بل تعدّاه بالغاً مهنة الممثلة التي تمارسها منذ أكثر من عشر سنوات. وشابانا عزمي هي جاين فوندا هندية، بمعنى انها تختار المشاركة في أفلام يفوح منها عبير الالتزام. من أبرز مساهماتها في هذا المجال، فيلم بعنوان "ماء" في اخراج ديبا مهتا. هذا الفيلم قامت شابانا بحلق رأسها كلّياً لتجسّد دور ارملة هندوسية تحوّلت الى البغاء في الجبل المقدّس كي تتمكن من تأمين معيشتها ومعيشة أولادها القاصرين. وكان "لماء" وقع الصاعقة في الهند، ذلك انه مسّ مجالين حسّاسين في آن، المجال الاجتماعي، المبني على مفهوم العيب، والمجال الديني، المبني على مفهوم المقدَّس. فقد دنّست شابانا هذين المجالين في نظر المحافظين وأثارت سخطهم وشجبهم لها من دون ان يتمكنوا من منع توزيع فيلمها لا في الهند ولا خارج البلاد. وربما ان توزيع هذا الفيلم خارج الهند هو الذي كان موضع التحفظ الأكبر. فالسياسيون الهنود يحرصون على ألاّ يُنشر غسيلهم الداخلي على سطوح الغرب. إلاّ ان "الأزمة" مرّت، وعُرِضَ الفيلم مستكملاً مسيرته ونجاحه الكبير، جاذباً مزيداً من الأصوات المؤيدة للنائبة - النجمة التي سمحت لشريحة النساء المعذَّبات بصمت في الهند بإطلاق صوتهن عالياً بموقف سياسي طالما بقي مطموراً تحت التراب، تجنباً للفضيحة. الا ان اخفاء الداء لم يسمح في أي يوم من الأيام بمعالجته. وأفضل طريقة للتعرف على مرض والعمل على معالجته هي الكشف عنه، مع كل الصعوبات التي تبديها في بلداننا كوابح العقلية المنغلقة. علماً انه تجدر الاشارة هنا الى انه لا مثيل في العالم العربي المعاصر ولا في العالم الأفريقي المعاصر لهذه النجمة السينمائية والسياسية. فهذا مجال لم يُقتَحَم بعد في مجالنا الثقافي. ومن الوجوه المشرقة أيضاً في الهند، في مجال الدفاع عن حقوق المستضعفين والمستضعفات نذكر ايلا بهات، النقابية التي أسست، عام 1972، رابطة النساء العاملات المستقلات، ثم بعدها، المصرف التعاوني "سيوا". أما فكرة هذا المصرف فنبعت من احصائية اظهرت ان 90 في المئة من النساء العاملات في الهند يعملن من دون أي تغطية اجتماعية وفي ظل استغلال فاحش لعملهن. وتقول ايلا بهات: "في السابق كانت النساء العاملات في مجال بيع الخضار في الشوارع يقترضن 50 روبية من تاجر الجملة عند الصباح ويعدنها عند المساء 55 روبية ان بعن ما اقترضنه من بضائع أم لا. وكن يدفعن خوّة رسماً غير قانوني للشرطة التي كانت تدعي حماية عملهن. فالكل كان يستفيد، في عالم الرجال، من استضعاف المرأة العاملة". أما اليوم فبات المصرف التعاوني الذي انشأته ايلا بهات يساعد مئتي ألف امرأة عاملة في الهند، من خلال قروض صغيرة وميسّرة جداً تسمح للمرأة بتجنّب الابتزاز والاستغلال. وهذه النقابية الفذّة والهادئة، البالغة من العمر 72 عاماً، تتابع بهدوء عملها الإنساني الذي تأسست عليه مذ شاركت كمناضلة شابة، وفي سياق فكر غاندي، بحصول الهند على استقلالها. حازت ايلا بهات على شهادات تقدير عدّة، في المجالين الانساني والاقتصادي، من منظمات عالمية وهندية. فالتحرّر الاقتصادي أساسي في نظرها، ذلك ان حق مشاركة المرأة في الانتخابات لا يفيد النساء كثيراً العاملات في البلاد، لحاجتهن الى ركيزة فعلية في حياتهن اليومية والعملية الى جانب حقوقهن الانتخابية. أرونداتي روي، من ناحيتها، شابة هندية تناضل في سبيل حماية أبناء بلدها المستضعفين بالكتابة. بدأت بكتابة سيناريوات للسينما الهندية بعدما درست الهندسة. ثم صدر لها عام 1997 كتاب سرعان ما تحوّل الى "بست - سيلر"، تحت عنوان "سيّد الأشياء الصغيرة"، عن حياة فقراء الهند الذين لا عون لهم سوى ايمانهم، هذا الإيمان الذي ينطلق من الأشياء الصغيرة في الحياة اليومية ليبلغ بعدها التزهد والتصوف الذي طالما اشتهر به سكان بلاد نهر الغانج. ومنذ عام 1998، ها قد كرّست أرونداتي روي نفسها للدفاع عن صنف جديد من المستضعفين في الهند، هم سكان وادي نهر نارمادا الذي قررت اخلاءهم الحكومة الهندية، بالتنسيق مع البنك الدولي، صاحب القرض الذي سيسمح بإنشاء سدّ هائل لتوليد الطاقة الكهربائية. الا ان المشكلة ليست في السدّ، بل بما سيؤول اليه مصير أكثر من ثلاثة ملايين شخص يعيشون ويعملون في هذا الوادي الذي ستغمره المياه وتقضي على قراه ومدنه كلياً. وهنا تقول الكاتبة المتحسسة لآلام أبناء شعبها المقهورين: "ان هذه السدود الضخمة هي في الواقع مناجم ذهب بالنسبة الى أبناء الطبقة السياسية في بلدنا الذين يستغلونها بالتعاون مع كبار الموظفين الحكوميين والشركات الملتزمة لمصلحتهم الخاصة. فما لا يُشار اليه في هذا المجال والذي أعمل على اظهاره ونشره هو ان 60 في المئة من الأشخاص الذين يطالهم هذا الاخلاء أي عملياً مليونا نسمة هم من طائفة المنبوذين أو من سكان الأدغال. وبالتالي فإن التعويضات لن تطالهم لأن لا حقوق رسمية لهم. من هذا المنطلق فإن هذه السدود الكبيرة تشبه في فعلها مفعول القنابل الذرية، لأنها تبيد في شكل عشوائي مصائر ومستقبل أناس حرمهم النظام الاجتماعي السائد من أبسط حقوقهم. ومشكلة هذه "القنابل" انها سلاح الحكومة ضد أبناء شعبها بالذات". أما الضجة التي أثارتها أرونداتي روي، المتحدرة من أسرة علماء هندوس تعود الى كونها محسوبة اجتماعياً للسلطة، لا عليها فهي مثقفة ثقافة رفيعة وتكتب باللغة الانكليزية وتجيد الاطلالات الإعلامية وتلمع في المعلوماتية. فهي "بنت عائلة" تقوم عملياً بخيانة أبناء طبقتها. ولذلك فإن النقمة التي تلفّها عارمة. الا ان حسّها الديموقراطي مدعاة احترام، حتى من أعدائها. وهذا شأن لافت في بلد البليون نسمة! على رغم تناقضات نظامها الاجتماعي، المتضمن طبقات اجتماعية مهضومة أو معدومة الحقوق كالمنبوذين وسكان الادغال والخصيان فإن الهند تبقى أكبر ديموقراطية في العالم من حيث عدد السكان. لذلك، وعلى رغم تهم العمالة للخارج وحبّ الظهور التي يتهم به أعداء أرونداتي روي هذه المرأة الشجاعة، يبقى الطعن بما تقوم به ضعيف الحجة. وأعداؤها يعلمون ذلك تماماً، فيقومون بتوجيه انتقاداتهم لشخصها، لا للأفكار التي تحملها وتدافع عنها، لعلمهم انهم، في هذا المجال، خاسرون حتماً، ولعلمهم ان ما تقدّمه ارونداتي روي من حجج مدعَّم وموضوعي. الا ان هذا هو مصير المرأة في بلدان الجنوب عندما تبدأ برفع صوتها والمطالبة بالحقوق لبني جنسها أو شعبها: يُطعن بها في الظهر، لكونها امرأة، لكونها مفكرة. لكن ميزة الشعب الهندي انه يقيم وزناً لموقع المرأة بقدر ما تفرض هذه الأخيرة نفسها في المجال العام، فعلى خطى انديرا غاندي المسالمة والمنادية بالمساواة، تمشي انديرات جديدات في الهند اليوم، مطالبات بمزيد من المساواة في مناخ من الحرية النسبية يفتح الأمل امام المستقبل. مركبة الحضور النسائي في الهند تيسر ببطء ولكن في ثبات مطرّد.