قبل بضع سنوات زار الكاتب البريطاني باتريك فرنش صومعة المهاتما غاندي على ضفاف نهر سابارماتي على مشارف مدينة أحمد أباد في ولاية غوجارات الهندية. من هنا انطلق المهاتما ليقود مسيرة الملح إلى البحر في عام 1930. غير ان فرنش راعه المنظر المؤذي للمراحيض الملحقة بالصومعة مما دفعه لسؤال أمينها عن دوره في نظافة المكان الذي يعد مزاراً للهنود رجالاً ونساء يضربون إليه أكباد الأبل . واوضح له الأخير أن هنالك امرأة تأتي لمدة ساعة كل يوم لتنظيفها وبعد ذلك تضرب الفوضى والقذارة أطنابها في المكان. وهنا يطرح السؤال نفسه بقوة: ألم تشكل النظافة الشخصية إحدى الركائز الأساسية لتعاليم المهاتما غاندي الذي كان يحث أتباعه ومريديه على النظافة وتنظيف المرافق العامة بعد استخدامهم لها؟. أجابني أمين الصومعة" نحن نقوم بتنظيف المراحيض معا في يوم عيد ميلاد غاندي كرمز لإظهار فهمنا لرسالته". كانت لغاندي العديد من الرسائل. البعض تم تجاهلها والبعض اسيء فهمها والأخرى ما تزال مناسبة لزماننا مثلما كانت مناسبة على أيامه. معظم الأمريكيين، كما هو حال العديد من الهنود المنتمين للطبقة الوسطى، لا يذكر المهاتما عندهم إلا تتداعى أمام صورة الممثل السينمائي بن كينغسلي الذي جسد شخصيته في فيلم غاندي الذي حاز على جائزة الاوسكار في عام 1982 ومن بعدها جائزة القولدن غلوب عن نفس الدور. فقد توقفت معرفتهم بغاندي بحدود الدور الذي لعبه الممثل البريطاني. كان أداء بن كينغسلي للدور رائعاً ومذهلاً ولكن السيناريو المح بالكاد إلى التعقيد المحير في شخصية الرجل الحقيقي الذي كان راهباً متعبداً وفي ذات الوقت سياسياً مراوغاً ومدافعاً عن حياة العزوبية والتبتل ومهندساً للساتياغراها(قوة الروح أو فلسفة وممارسة القوة السلمية) وصحوياً وثورياً ومصلحاً اجتماعياً. سعى لتحقيق حرية الهند وانهيار الحكم الأجنبي.. وانتهى الاستعمار لكن الفتنة وعدم المساواة ازدادا سوءاً في كتابه "الروح الكبير" الذي صدر حديثاً يركز المؤلف جوزيف ليليفيلد على ما يسميه ب"الرؤية الاجتماعية لغاندي" ونضاله اللاحق لفرض هذه الرؤية على الهند باسرها. ويعتبر ليليفيلد مؤهلا للكتابة عن حياة غاندي على جانبي المحيط الهندي فقد غطى اخبار جنوب أفريقيا لصحيفة نيو يورك تايمز(حاز على جائزة بوليتزر عام 1986 عن مؤلفه"حرك ظلك" والذي تناول فيه سياسة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا) ، وقضى عدة سنوات في أواخر الستينيات وهو يكتب من الهند. كتاب ليليفيلد لا يعد سيرة ذاتية كاملة كما أنه ليس للمبتدئين لأن الكاتب يفترض في قرائه أن يكونوا على علم بالخطوط العريضة والأساسية لحياة غاندي. وبينما يتضمن الكتاب تسلسلا زمنيا للأحداث في جنوب أفريقيا والهند ويتحرك إلى الأمام وإلى الخلف في كثير من الأحيان إلا انه من الصعب أكثر مما يجب متابعة مسار التحول في فكر غاندي. ولكن برغم كل ذلك يظل "الروح الكبير" كتاب جدير بالقراءة لشفافيته وحيويته ودقة معلوماته ونظرته الثاقبة. وكثيراً ما ينظر للعقدين من الزمان اللذين قضاهما غاندي في جنوب أفريقيا كمجرد مقدمة. لكن ليليفيلد تعامل مع هذه الفترة بالجدية التي تستحقها. وقد كتب غاندي ذات مرة في خضم واحدة من حملاته ضد التقسيم الطبقي للمجتمع وبخاصة طبقة المنبوذين يقول" اؤمن جازماً بان جميع الناس يولدون متساوين. لقد خضت المعركة ضد مبدأ التفوق خطوة بخطوة من قبل في جنوب افريقيا." الزعيم الهندي في أيامه الأخيرة وفي الواقع استغرق المهاتما وقتا طويلاً لتحويل هذا الاعتقاد الضمني إلى فعل واضح ملموس كما يذكرنا ليليفيلد. عندما وصل المهاتما غاندي إلى ديربان من بومباي في 1893 ، كان شاباً انيقاً في الثالثة والعشرين من العمر تلقى تدريبه كمحام في بريطانيا واستعين به لتمثيل تاجر هندي مسلم ثري في دعوى مدنية ضد تاجر آخر. وكان غاندي مهتم في المقام الأول بالقضايا الدينية والنظام الغذائي وليس السياسة. وفي إعلان نشر في وقت مبكر نصب غاندي نفسه "وكيلاً للاتحاد المسيحي النخبوي وجمعية نباتي لندن". لكن ليليفيلد كتب يقول" لقد دفعته جنوب أفريقيا منذ البداية لتوضيح ما يفعله هناك من أجل أبناء جلدته السمر". في البداية ، أحس غاندي بالمهانة لأن القوانين والعادات التمييزية المتعصبة لم تفرق بين المتعلمين الهنود من أمثاله وعمال المناجم والمزارع والسكك الحديدية الفقراء الذين يشكلون السواد الأعظم لسكان المنطقة من المهاجرين الهنود. وقال ليليفيلد إن حملات عدم اللجوء للعنف التي قادها لتحقيق المساواة بين البيض والهنود على مدى السنوات العشرين التالية قادته- ببطء وبشكل غير مستقر ولكن بعناد وتصميم – إلى الدعوة للمساواة بين الهنود والهنود أولا عبر الخطوط الطبقية والدينية ومن ثم بين الأغنياء والفقراء. "ارتباطه بتطلعات الشعوب السوداء لم يأت إلا بعد فترة طويلة من مغادرته لأفريقيا". وكما يظهر ليليفيلد، لم تكن نتائج حملات غاندي في جنوب افريقيا واضحة المعالم ولم تدم طويلاً. ففي إحدى المرات تعرض غاندي للضرب على يد مؤيديه لأنهم اعتقدوا بانه قبل بسرعة كبيرة جدا بالتوصل الى تسوية مع الحكومة لكنهم علموه كيف يحرك الجماهير -- ليس فقط المهاجرين الهندوس والمسلمين من الطبقة الوسطى ولكن أفقر الفقراء كذلك. وقال إنه، كما ذكر ذلك هو بنفسه، وجد لنفسه "مهنة في الحياة". المهاتما في شبابه وبعد عودته الى الهند في عام 1915، قام غاندي بالفور على وضع ما أسماه "القواعد الأربعة التي تقوم عليها "سواراج" أو ما يعرف ب "الحكم الذاتي": تحالف ثابت بين الهندوس والمسلمين. هذه القواعد شملت القبول العالمي لمذهب اللاعنف كعقيدة وليس تكتيكاً ووضع نهاية لمفهوم النبذ والمنبوذين الشرير واستعرض ليليفيلد معارك غاندي النبيلة من أجل تحقيق هذه المبادئ. وخلال مسيرته أوجد غاندي لنفسه مجموعة من الأعداء مثل الهندوس المتشددين الذين كانوا يعتقدون بأنه متعاطف تعاطفاً مفرطاً مع المسلمين والمسلمين الذين رأوا دعوته للوحدة الدينية كجزء من مؤامرة هندوسية والبريطانيين الذين اعتقدوا أنه دجال والثوريين الراديكاليين الذي وصموه بالرجعية. ولكن الد خصومه كان بيمراو رامجي امبيدكار زعيم المنبوذين النزق، لا يزال مجهولاً إلى حد كبير في الغرب، الذي كان يرى جهود غاندي للقضاء على النبذ مجرد عرض جانبي في أحسن الأحوال. وحتى أنه أعترض على كلمة" الهاريجان " التي أطلقها غاندي على المنبوذين وكان يفضل عليها كلمة"الداليت" التي تعني في اللغة السنسكريتية "المسحوقين أو المعدمين". وقال غاندي ، في بعض الأحيان ، إن الحرية لن تتحقق إلا بالقضاء على سياسة النبذ والمنبوذين وجادل أحياناً بان القضاء على النبذ لن يتم إلا بعد نيل الاستقلال ولكنه لم يعتذر عن هذا التناقض وكان يقول" لا أستطيع أن أكرس نفسي تماما إلى النبذ" وقال لأحد اصدقائه ذات مرة" الوحدة بين الهندوس والمسلمين أو سواراج كل هذه الامور مرتبطة بعضها ببعض. ستجد في وقت من حياتي أن تركيزي منصب على قضية واحدة وفي وقت آخر على قضية أخرى مثل عازف البيانو الذي يركز على مقطع موسيقى واحد وفي وقت آخر على مقطع اخر". مثل أي سياسي كان غاندي دائما حريصاً على تحقيق التوازن بين مطالب هذه المجموعة وتلك. وكما كتب ليليفيلد في "حرك ظلك" ، "كان غاندي يأمل في تحقيق حرية الهند كانجاز اخلاقي لملايين الهنود وكنتيجة للثورة الاجتماعية وأن يكون انهيار الحكم الاجنبي فقط منتجا ثانويا للكفاح من أجل الاعتماد على الذات والمساواة الاقتصادية". وقد انهار الحكم الاجنبي في نهاية المطاف ولكن الفتنة وعدم المساواة بين الهنود ازدادت سوءاً. ولا يزال غاندي يسمى بشكل روتيني "والد الأمة" في الهند ، ولكن من الصعب أن نرى ما تبقى منه أبعد مما سماه ليليفيلد ب "الهالة النورانية" فقد تخلت الهند منذ زمن طويل عن افكاره حول العلاقة بين الجنسين وصناعة الغزل والنسيج والحياة البسيطة. كما أن نيران التوتر بين الهندوس والمسلمين ما تزال تستعر تحت الرماد. كما أن التقسيم الطبقي وطائفة المنبوذين ما تزال موجودة وما تزال تماثيل أمبيدكار وهو يرتدي حلة زرقاء وربطة عنق حمراء تفوق في عددها تماثيل غاندي في ثيابه التي بالكاد تستر عورته في الأماكن التي لا يزال "الداليت أو المسحوقين" يشكلون الغالبية. كل هذا رآه غاندي قادماً وأصابه القنوط أحياناً. المأساة الحقيقية في حياته ، كما يجادل ليليفيلد لم تكن "اغتياله" ولا أن صفاته النبيلة اوغرت صدر قاتله. عنصر المأساة تمثل في أنه اضطر، مثل الملك لير، في نهاية المطاف أن يرى حدوداً لطموحاته لإعادة تشكيل عالمه. كانت فكرة ثورية من غاندي عندما حث في بداية مسيرته الهنود على التوحد ضد مضطهديهم في جنوب افريقيا قبل نهاية القرن العشرين. وكان ثوريا عندما عاد إلى الهند في وقت الحرب العالمية الأولى، وكان ثوريا في عام 1947 عندما تحررت الهند وفي ذات الوقت مزقتها الكراهية الدينية التي خاطر بحياته مراراً من أجل اخمادها ولكنها للأسف ما زالت قائمة في الهند وفي العالم على نطاق اوسع.