الحوار كلمة شاع استخدامها على نحو عشوائي في الآونة الأخيرة، حيث بدت الكلمة وكأنها لا تعبر عن أي مدلول بذاته، فقد جعلها البعض تدور في فلك المناورة، فيما اختزلها البعض الآخر الى فريضة إملاء، وهناك من جعلها وقفاً على مناجاته الداخلية. تأتي وثيقة قرنة شهوان، بالمقابل، وفي جعبتها منذ البداية، نقطة إيجابية لمصلحتها. فلم يعد الحوار بموجب هذه الوثيقة، مناورة أو إملاء بل اعتبر أسلوباً عاماً للخروج من حال التناحر الى حال التفاعل، وللاعتراف بوجود خلافات بين اللبنانيين، بدلاً من طمسها أو جعلها معيقة لشرعية تحقيق السيادة، والمصالحة، والديموقراطية. تقرن الوثيقة الحوار بالاعتراف بالآخر، وتقبل الرأي المغاير، وعدم ادعاء احتكار الحقيقة، فتطلق الحوار بدل الاكتفاء بالدعوة إليه، وتقترح إيقاع الجولة المقبلة من السجال اللبناني. بخلاف بيان مجلس المطارنة في أيلول سبتمبر تتميز الوثيقة الصادرة عن لقاء قرنة شهوان، والمباركة من قبل البطريرك صفير، بأنها لا تتكلم باسم اجماع اللبنانيين، بل باسم الموقعين عليها. وهي تكتفي بهذه الصفة التي لا يحتاج المرء لكبير عناء كي يدرك انها تعبّر حقاً عن الغالبية الساحقة من مسيحيي لبنان. وبعد قراءة هذه الوثيقة، يمكن القول إن الخطاب السياسي الماروني شهد عملية تصويب داخلي ذات شأن. أصبح بإمكانه مخاطبة الجميع لأنه لم يعد يتكلم باسمهم. أدرك إمكان الجمع بين طائفية المنشأ، ووطنية التوجه، واستحالة الجمع بين النطق باسم جميع اللبنانيين وتقسيمهم في الوقت نفسه الى طائفة الصراحة، وطائفة الهمس. لقد حاولت وثيقة قرنة شهوان ان تتلافى خطأ بيان أيلول الذي لم يتمكن من ربط ملف السيادة بملف الوفاق الداخلي على نحو سليم. إن اي تقويم جدي للوثيقة رهن بتقويم ما تقدمه من تصور لجهة العلاقة بين التسوية الداخلية، والتسوية التاريخية اللبنانية - السورية، خصوصاً أنها أناطت بالأخيرة ضمان استقرار البلدين. يجمع لقاء قرنة شهوان مسعى التوحيد السياسي للمسيحيين بمسعى توسيع الدائرة الاستقلالية، وهو يرى في اتفاق الطائف السقف المناسب لذلك. تحت هذا السقف، يسلم مجلس المطارنة قيادة الأركان الى "مجلس المقدمين"، الذي يضم في ما يضم، تسعة نواب في البرلمان، وأحزاب مسيحية بعضها محظور أو ملاحق. إنه ائتلاف يبدأ من تحت قبة البرلمان وينتهي في سجن وزارة الدفاع، وهو يوحد بين وجهه البرلماني، ووجهه المحظور، في إطار خيار الانفتاح، الذي لا يعرج إليه من باب التكتيك المرحلي بل من باب تأمين شروط قيام الائتلاف واستمراره. لذا يجب إرفاق خيار الانفتاح بنقد ذاتي يختص بأداء المسيحيين بعد الحرب، وما وقع فيه هذا الأداء من إلغاء الديموقراطية ضمن العلاقات المسيحية - المسيحية، ومن اعتماد لنغمة المقاطعة إزاء الانتخابات النيابية، ومن الانغماس في نوستالجيا الجمهورية الأولى. تتبع ضرورة قيام هذا النقد الذاتي من استمرار أزمة القيادة في الوسط السياسي المسيحي، وهي أزمة لم تكفل قيادة البطريرك لطائفته بتجاوزها، بل جاءت هذه القيادة بمثابة تتويج للأزمة. لقاء قرنة شهوان قطع شوطاً كبيراً لجهة تحديد مقاييس القيادة والنخب المطلوبة، بيد ان مسافة ما زالت تفصله عن تجاوز أزمة القيادة، خصوصاً أن لتلك الأزمة الإطار الدستوري الذي يدعمها، فوفقاً لتعديلات الطائف أصبح من الطبيعي ان يكون زعيم الشيعة رئيساً لمجلس النواب، وزعيم السنة رئيساً لمجلس الوزراء، في حين وجب على رئيس الجمهورية الماروني ان يكون ضعيفاً في طائفته كي يكون رمزاً لوحدة البلاد. المهم في هذا المجال، ان وثيقة قرنة شهوان تحاول معالجة أزمة القيادة في الوسط المسيحي، في ضوء صيغة الطائف، أي أنها تسعى الى تغيير المعادلة من خلال ثلاثية السيادة والديموقراطية والخيار العربي. استهل اللقاء وثيقته معتبراً أن الخوف على المصير لدى اللبنانيين، لا يقل اليوم، عما كان عليه الوضع اثناء الحرب، مرفقاً ذلك بوجوب ان تكون المعالجة على نقيض منطق الحرب، ومن وحي اتفاق الطائف. بهذا المعنى، تكون الوثيقة اول نص طائفي مرموق يتجاوز لغة الحرب، إذ ليس بالإمكان اعادة نص الوثيقة الى أي صنف من أدبيات المسيحيين خلال الحرب، بل هي تفصح عن متغير في الإيديولوجيا اللبنانية نفسها، فتقوم بتأكيد صيغة "الوطن النهائي لجميع ابنائه" كمسلمة، ولكن من دون ردها الى كون لبنان استثناء أو فرادة ما بعدها فرادة، بل لكونه دولة لها كامل الحق في الاستقلال والسيادة "أسوة بدول العالم كلها"، أي أن نهائيته مثل نهائية الأوطان الأخرى. أين وثيقة قرنة شهوان من أسطورة الاستثناء اللبناني، ومن مقررات سيدة البير والتعددية الحضارية؟ يلاحظ بوضوح اكتفاء الوثيقة بتنوع المجتمعات العربية وتعددها السياسي، من دون ان تجعل للتنوع اللبناني صفة مفارقة للمجتمعات المجاورة، وهذا أمر يستحق الثناء بقدر ما يطرح مشكلة مواكبة الثقافة السياسية اليومية لهذا الطرح، فليس من الطبيعي بعد اليوم ان يرحب المسيحيون بمضامين هذه الوثيقة التي تربط الاستقلال اللبناني بالعروبة الديموقراطية الحضارية، وأن يرحبوا في الوقت نفسه بالمواقف المتطرفة لشخصيات من نوع الأب سليم عبو، فإما هذه أو تلك، وعلى الموارنة الاختيار. يبدو حتى الساعة انهم حزموا امرهم لمصلحة مضامين الوثيقة، في حين جاء رد النائب البعثي عاصم قانصوه على الوثيقة، وزعمه أن في لبنان ثقافة عربية تنتج مقاومين وأخرى غربية تنتج عملاء، ليدخله في رابطة مشتركة مع أفكار الأب سليم عبو. انقسمت بنود الوثيقة بين تحديد القضايا العالقة، وتثبيت المسلمات، وتعيين الأهداف الأساسية. تمت الاستعانة بصياغات معهودة، وجرى التراجع عن أخرى، كما عمد في أماكن معينة الى الابتكار أو الاقتباس. وفي حين وردت المصالحة في مقدمة القضايا العالقة، ثم تبعها استفحال الأزمة الاقتصادية، ومخاطر الظرف الشاروني، وتجميد السلطة لآليات استعادة السيادة، جاءت قضية تطبيق بند إعادة الانتشار بموجب اتفاق الطائف، في مقدمة الأهداف الرئيسية، واعتبرت بمثابة تمهيد للانسحاب السوري الكامل من لبنان، "وفقاً لجدول زمني محدد". خلت الوثيقة، كما كان متوقعاً، من أي إشارة للقرار 520، ولم تطالب بإقامة علاقات ديبلوماسية بين البلدين، إلا أنها حصرت المسألة بالجدول الزمني، من دون التمييز بين الوجود الدفاعي الاستراتيجي، والوجود الأمني المنتقص من سيادة لبنان، فالأول ينبغي تدعيمه اليوم أكثر من أي وقت مضى، والثاني ينبغي انهاء مظاهره، خصوصاً في العاصمة السياسية، في أسرع وقت ممكن. تحسب الوثيقة انها بالجدول الزمني ترد على معزوفة "الوجود الموقت" لكنها في الحقيقة تقع في المشكلة نفسها، أي في المماهاة بين ما هو دفاعي استراتيجي، يتعلق بالصراع مع إسرائيل، وبين ما هو أمني، يتعلق بتدجين الشارع السياسي المحلي. من شأن الأول تدعيم السيادة اللبنانية ساعة يزول الثاني، تماماً مثلما ان انضمام كتيبة من الجيش اللبناني لمساندة السوريين في مرتفعات الجولان لا تشكل اي انتقاص من سيادة سورية، بل تدعمها، في حين ان فتح مكتب لمخابرات الجيش في دمشق ينتقص من سيادة سورية، ولو كانت الأخيرة وصية على لبنان. شغلت قضية المصالحة حيزاً اساسياً في الوثيقة. جرى ربط مطالب إعادة الانتشار، وعودة المنفيين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وقانون الانتخاب الضامن لصحة التمثيل، بإعلان نهائية الإصلاحات التي أدخلت بموجب الطائف على دستور البلاد. جهدت الوثيقة كي تقدم ضمانات للشريك الآخر في الوطن، معلنة انتقاء أي نية لاستعادة الطائفة المارونية دورها القيادي الحصري في المجتمع والدولة، بيد أن الوثيقة اعتمدت المبالغة في هذا الشأن، وبدت أكثر ملكية من الملك. لم تكتف بالاعتراف باتفاق الطائف والدعوة الى تنفيذ أحكام الدستور، بل أوصدت الباب أمام راهنية الإصلاح السياسي والابتكار الدستوري، وسبغت قاعدة المثالثة بصفة القدسية، وكأن تلك الأخيرة اكثر فاعلية من الثنائيات السابقة لجهة انهاء منطق الاستقواء بالخارج. لنكن صريحين، ان المبالغة في تقديم ضمانة للشريك الآخر، وعلى هذا الشكل، تندرج في سياق محاولة تأجيل مشكلة الصلاحيات الدستورية الى ما بعد معركة السيادة. مقابل "المدينة الفاضلة" التي وعد بها خطاب القسم، تطالب الوثيقة بدولة طائفية عصرية، اكثر ديموقراطية وسيادة، "دولة قادرة على رعاية صيغة العيش المشترك وحمايتها وتطويرها مواكبة للعصر"، مشيرة بذلك الى ما جاء في مقدمة الدستور، حول انتفاء أي شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. كذلك تسجل الوثيقة خطوة متقدمة، تتمثل في الدعوة لإلغاء الطائفية الوظيفية. أما الشأن الاقتصادي فقد بقي من دون العناية المطلوبة، وجرى الاكتفاء بإيراده ضمن القضايا العالقة مع الإشارة الى مسؤولية الحكومات المتعاقبة، وعدم الدخول في جدل المسببات، ومن دون لحظ اي إشارة لأشكال مقاومة الأزمة، أو للأولويات الاقتصادية الموجبة. ترسم بنود الوثيقة الحد الفاصل بين تيارين في المجتمع السياسي المسيحي، تيار الأكثرية الاستقلالية وتيار الأقلية اللحودية. يبدو تيار الأكثرية أكثر قدرة على الحركة السياسية من تيار الأقلية، فهو في الوقت نفسه اكثر تجانساً، وأكثر تعدداً، كما انه يجمع في برنامجه سيادة لبنان بديموقراطيته وعروبته، مشدداً على أن إسرائيل هي الخطر الرئيسي على الأرض والشعب، ومفرداً مكانة خاصة للانتفاضة الفلسطينية. تنحاز الوثيقة الى الانتفاضة، وأهدافها المشروعة في الدولة المستقلة وعاصمتها القدس، متجاوزة الموقف الملتبس لمجلس المطارنة في الخريف الماضي، والذي دعا الى وقف دوامة العنف وتدويل المدينة المقدسة. يتعامل لقاء قرنة شهوان بأسلوب راق مع مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فهو حين يرفض التوطين، يربط مسؤولية حل مشكلة اللاجئين بإسرائيل والمجتمع الدولي، ولا يلقي المسؤولية على اللاجئين الفلسطينيين. بالمقابل، نجد التهويل بخطر التوطين وقد أضحى الخبز اليومي لتيار الأقلية اللحودية التي لا تنفك عن استخدامه لتأكيد حضورها المسيحي، وتحسب ان عروبتها لا يمسها شيء حين ينهض وزير الداخلية السابق ميشال المر صبيحة عيد الفصح، ويربط شرعية الوجود العسكري السوري بمقاومة الوجود البشري الفلسطيني. ينقسم السجال اللبناني حول الوصاية السورية الى سلسلة جولات. لكل جولة نكهة وإطار وحصيلة، وبين كل جولة وأخرى لحظة تهدئة وحساب، يجري تعاقب الجولات بالتوازي والتشابك مع تجربة قلقة، ومسيطر عليها سورياً، من التعايش اللحودي - الحريري. وتأتي وثيقة قرنة شهوان في هذا المجال، لإطلاق جولة جديدة من السجال، وتقترح ان تكون الجولة حوارية، بيد انه من الواضح ان الجولة الجديدة ستكون أكثر تشابكاً مع أزمة التعايش اللحودي - الحريري، التي هي في مظهرها الخارجي أزمة خيارات، في حين انها في العمق أزمة الفراغ في التصور الاستراتيجي السوري اللبناني بعد الانسحاب الإسرائيلي، وهو فراغ تكتفي مزارع شبعا بأن ترمز إليه ليس إلا. * كاتب لبناني.