} يعيش سبعون ألف لاجئ أفغاني في مخيم جلوزي الذي يبعد أربعين كيلومتراً عن بيشاور منذ كانون الاول ديسمبر الماضي، ولم يعد في وسعهم احصاء الايام التي قضوها هناك، ما دامت النتيجة واحدة وهي استمرار الكارثة. لكن اولئك الذين تمكنوا من عبور الحدود أفضل حالاً من الذين حوصروا في الداخل وعلقوا بين الأطراف الأفغانية المتحاربة. وزارت "الحياة" المخيم وتفقدت اوضاع اللاجئين وخرجت بالتحقيق الآتي: يحتضن مخيم جلوزي للاجئين الافغان عدداً ضخماً منهم، لكنه يفتقد إلى أبسط مقومات الحياة اليومية من ماء وكهرباء وصرف صحي، فضلاً عن التعليم والصحة . وقالت مصادر إغاثة عدة في أحاديث ل"الحياة" ان سبب ذلك خطة باكستانية تهدف الى اقامة مخيمات جديدة بعيدة من بيشاور، وذلك في ضوء خطة جديدة لتوسيع المدينة لاستيعاب الزيادة السكانية الباكستانية. كما تهدف الخطة الباكستانية إلى إبعاد اللاجئين عن المدينة خوفاً من الجرائم التي ربما ينغمسون فيها، ذلك أن مصادر الأمن الجنائي الباكستاني تقدر نسبة السرقات التي يتورط فيها اللاجئون الأفغان في بيشاور ب61.22 في المئة من مجموعها العام، فيما تصل نسبة جرائم الخطف إلى 44 في المئة من المجموع العام، في مقابل 59 في المئة لاعمال التهريب في المنطقة. وتحتضن مدينة بيشاور أكبر تجمع للاجئين الافغان في العالم، إذ يصل عددهم هناك إلى 700 ألف شخص. وبحسب إحصاءات المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة، فإن عدد اللاجئين في العالم يتعدى ال12 مليون شخص بينهم 3,6 مليون في جنوب آسيا، بينهم 2,2 مليون أفغاني يقيمون في باكستان و70 الفاً في مخيم جلوزي وحده، ما يجعل باكستان تضم أكبر تجمع للاجئين في العالم. وسجل العام الماضي نزوح بشري أفغاني غير مسبوق، ذلك أن عدد النازحين داخل أفغانستان من ولاية إلى أخرى بسبب القحط والمجاعة، تعدى النصف مليون شخص. غير أن البعض يرى أن لتواجد اللاجئين في باكستان منافع، اذ يوفر لها مداخيل من أقارب هؤلاء المقيمين في الخارج والذين يحولون لهم أموالاً تعينهم على مصاعب الحياة، فمنطقة حياة آباد النموذجية قرب بيشاور أكثر من 85 في المئة من سكانها أفغان، ما يوفر لباكستان دخلاً يقدر بخمسة ملايين دولار شهرياً، أي بمعدل سبعين مليون دولار سنوياً من ايجارات المنازل وحدها. والمخيم الذي زارته "الحياة" في جلوزي ليس الوحيد من نوعه الذي أقيم حديثاً في أطراف بيشاور، بعدما قذفت المحنة الأفغانية المتواصلة بمئات الآلاف من المهاجرين إلى بيشاور، أملاً في أن يكونوا في دائرة الضوء العالمي ثم الدعم الدولي، لكن ما أن يخرج مصور الكاميرا لالتقاط بعض الصور التي ربما ستحكي جزءاً من المأساة، حتى يتحلق حوله العشرات وكلهم يسأل: هل ستفيدنا كل هذه الصور، فيومياً يأتي الصحافيون لكن احداً لا يكترث بمأساتنا. ويجمع الكل في هذا المخيم أن السبب الرئيسي الذي دفعهم إلى الهجرة هو القحط والجفاف واستمرار القتال. لكن أحدهم ويدعى سيد حسين 22 عاماً يطرح أسباباً جوهرية خلف هذه الهجرة التي قذفت بثلث سكان الشعب الأفغاني إلى خارج بلده والثلث الآخر يعاني من هجرات داخلية، والسبب بنظر سيد حسين الذي وصل حديثاً من بغلان يتمثل في انهيار البنية الأساسية للدولة الأفغانية، لذا لا دراسة ولا مستشفيات ولا تعليم. ومخيم جلوزي عبارة عن خيام بلاستيكية وسط صحراء قاحلة، لا مياه ولا أنهار، وعلى الجميع أن يتأقلم مع هذه الظروف الجديدة. وفي منطقة لا تتعدى البضعة كيلومترات مربعة تتكدس هذه الأعداد الضخمة من البشر. صحافي أفغاني رافق "الحياة" خلال هذه الرحلة، قال ان السلطات الباكستانية تلعب دوراً سيئاً في هذه المأساة إذ "وعدوا الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان خلال زيارته الأخيرة إلى باكستان في آذار مارس الماضي بإيجاد مكان جديد للاجئين الجدد لكن لم يحصل شيء حتى الآن، ما دفع المنظمة الدولية إلى توجيه الاتهامات إلى باكستان اخيراً على أساس أنها لا تحسن معاملة اللاجئين". ولعل ما يساعد باكستان على هذا التصرف أنها لم توقع حتى الآن على اتفاق حماية اللاجئين في العالم . ويشكو الاجئون من قلة الدعم الدولي، اذ بدأت تتفشى الأمراض بحسب منظمات الإغاثة الإسلامية. ويقول مسؤولو لجنة الدعوة الإسلامية الكويتية الناشطة في مخيمات اللاجئين الجدد أن الوضع مأسوي جداً ولا بد من تحرك إسلامي ودولي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وفي الشهر المقبل، سيواجه حوالى ثلاثمئة ألف مهاجر أفغاني يقيمون في مخيم ناصر باغ القريب من بيشاور مأزقاً جديداً، إذ عليهم أن يخلوا المعسكر، بينما لم تحدد السلطات الباكستانية مكان المخيم الجديد. تعليم وصحة وبطالة وبحسب مجلس التنسيق الأفغاني لمنظمات الإغاثة فإن عدد الطلبة الأفغان الذين يدرسون في مدارس بيشاور والمخيمات لا يتعدى ال90 ألف طالب و ذلك في 155 مدرسة، يتهدد بعضها الإغلاق، بعد مطالبة الحكومة بنقلها من مناطق سكنية وهذا الأمر في غاية الصعوبة للشعب الأفغاني بينما المدارس الباكستانية باقية في المناطق المأهولة بالسكان. وكانت الحكومة الباكستانية أغلقت عدداً من هذه المدارس بهذه الذريعة، لكن يلعب كثير من المنظمات الإغاثية العربية مثل لجنة الدعوة الإسلامية الكويتية وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية ولجنة إحياء التراث الكويتية ولجنة قطر الخيرية ومستشفى الكويت، دوراً رائداً في إقامة مدارس ورعاية الأيتام ومجالات الإغاثة العاجلة. و تتكفل هذه الجمعيات الخيرية بتطبيب اللاجئين مجاناً، ما يخفف الكثير من متاعبهم ومشكلاتهم، لكن لا يزال البعض من الأفغان يعاني من ظروف الحرب بسبب بتر أطرافه من دون أن يأبه به أحد، حتى أن منظمات الإغاثة الإسلامية لم تول مسألة توفير الأطراف الصناعية لهؤلاء أولوية في أعمالها، الأمر الذي يتركهم عالة على الآخرين، ويدع عوائلهم في مهب الريح من دون دعم أو مساندة أو معيل. ويشكو الباكستانيون الذين التقتهم "الحياة" في مخيمات المهاجرين وما حولها، من استمرار وصول الأفغان الذين ينافسونهم على فرص العمل. وتفيد احصاءات ان نسبة العمال من الأفغان في بيشاور تبلغ العشرة في المئة فقط، أما نسبة المهرة أصحاب الخبرة فتتعدى 50 في المئة من العمال في كل المدينة. وينافس الأفغان الباكستانيين في الحرف الأخرى ومجال المواصلات ونحوها. لماذا الهجرة؟ عانت أفغانستان موجة جفاف أخطر من الحالية بكثير في أواخر الستينات، من دون أن يرغم الشعب الأفغاني على الهجرة وهو الذي يعد نفسه حضارياً الأكثر تفوقاً وتطوراً بين شعوب المنطقة كونه حكم معظمها إن لم يكن كل هذه المنطقة بدءاً من أجزاء من إيران وآسيا الوسطى والهند وباكستان، فلماذا هذه الهجرة الآن؟ المثقفون الأفغان الذين تحدثت "الحياة" إليهم في بيشاور طرحوا القضية من منظار آخر وهو أن السبب الرئيسي لهذه الهجرة هو تآكل البنية التحتية وعدم وجود مقومات الدولة التي يمكن أن يركن إليها الشعب العادي في بقائه إلى جانب السلطة، ولعل هذا ما يؤكده اللاجئون إذ يجيبون عن سبب الهجرة: "كيف نبقى في أفغانستان، ولا توجد مدارس ولا مستشفيات ولا طرق ولا فرص عمل، وفوق هذا القتال مستمر، والقحط يلاحقنا؟ لذا فالبديل الوحيد هو الهجرة والنزوح". ويعلق أحد المهاجرين على ذلك: "إنني متأكد لو سمحت طالبان بتعليم البنات لعاد نصف المهاجرين الأفغان، فكيف نخلف بنات جاهلات و أميات و نحن في الألفية الثالثة". وحين يطرح على بعض المهاجرين والمثقفين الاقتراح الذي قدمه الحاكم التنفيذي الباكستاني الجنرال برويز مشرف مؤخراً بضرورة إقامة مخيم للمهاجرين داخل أفغانستان في جلال آباد شرق أفغانستان، يأتي الجواب سريعاً على الشكل التالي: "إن مشرف يعرف أن معظم المهاجرين لا يريدون العيش تحت ظل طالبان، فكيف لمن قتل أولاده ودمرت محاصيله بسبب قتال طالبان مع المعارضة سيقبل العيش تحت حكمهم، وإن الحل الوحيد هو حكومة مقبولة لكل الأطراف وقادرة على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد". مهاجرون بلا مرجعية يشعر المهاجرون المقيمون في باكستان بأنهم منسيون من ساستهم المنهمكين في لعبتهم اليومية المفضلة وهي الحرب، أما المثقفون الأفغان فمعظمهم فرّ هارباً إلى الخارج لينعم بالدولارات والحياة الرغيدة بينما ينظرون للمهاجرين من بعيد، ولا يكلفون أنفسهم عناء زيارة مخيم أو دفاع عن حالة المهاجرين في باكستانوإيران، خوفاً من إغضاب هذا النظام أو ذاك، وبالتالي يمكن أن يضر بمستقبله السياسي. فالمثقفون الأفغان داخل الغرف المغلقة والصالونات البعيدة عن أعين المخابرات الباكستانية يقولون كل شيء ويتهمون باكستان بتذويب الشخصية الأفغانية، وارتكاب أعمال منافية لكل الأعراف الدولية، لكن هؤلاء المثقفين نفسهم لا يتجرأون على الحديث علناً بل يثنون على باكستان حين اللقاء مع المسؤولين. ولذا يرى هؤلاء المثقفون أن الحل الوحيد هو إدماج الأميركيين في أفغانستان من أجل الضغط على الأطراف الإقليمية والمجاورة لتسوية الأزمة الأفغانية. وينقل عن أحد المثقفين قوله لمسؤول أميركي في اجتماع ضمه مع هؤلاء المثقفين: "نحن فرحون أن أسامة بن لادن في أفغانستان، وإلاّ فلولاه لنسيتنا أميركا وتركتنا للباكستانيينوالإيرانيين الذين يواصلون لعبة تدمير بلادنا منذ عشر سنوات".