«لسنا دولة فاشلة... فعددنا 180 مليون نسمة، وهو عدد يفوق بكثير عدد المقاتلين في سوات». هذا ما اجاب به رئيس الوزراء الباكستاني يوسف رضا جيلاني عندما سئل عن سلامة المواقع النووية في باكستان في سياق الحرب التي يخوضها الجيش ضد «طالبان باكستان». جواب جيلاني هذا لا يبعث على الطمأنينة، اذ ان الإشارة الى الكثافة السكانية غالباً ما يراد منها تأكيد الفشل لا نفيه. والجواب الصحيح ان باكستان ليست دولة فاشلة (حتى الآن) لأن ليس من مصلحة احد في العالم ان تكون فاشلة، وهي على رغم الجهود الكبيرة المبذولة لمنعها من الفشل، سائرة باتجاهه! ربما كان طبيعياً وبديهياً ان تُنظم الحكومة حملة عسكرية لاستعادة السيطرة على منطقة اقدمت جماعات أهلية على انتزاعها منها، لكن هذا الأمر لا ينطبق بالكامل على اقليم الحدود الباكستاني حيث تدور معارك هناك بين الجيش والمتمردين البشتون (طالبان باكستان). فهؤلاء الأخيرون ليسوا قوات احتلال، ولم ينتزعوا المناطق التي يسيطرون عليها (38 في المئة من مساحة اقليم الحدود بحسب «بي بي سي») من الجيش الباكستاني. فالعرف منذ تأسيس الدولة في باكستان عام 1947 ان يُحكم اقليم الحدود من جانب العشائر البشتونية، وأن يبقى الجيش خارجه، وأن يُستعاض عن حضوره بسلطة محلية (فيدرالية) تتولى العلاقة مع مؤسسات الحكم. اما الجديد الذي أدى الى اعتبار المنطقة خارج نفوذ الدولة فيتمثل في ان طالبان والمجموعات المتطرفة الموازية لها صارت الذراع العسكرية للعشائر البشتونية، وهو فشل مركّب تسببت به وقائع كثيرة، منها باكستانية داخلية، ومنها اخفاقات الحرب على الإرهاب، ومنها إيواء «طالبان باكستان» قيادات «تنظيم القاعدة» وعناصره الفارين من الطرف الأفغاني للحدود. اما ذروة الإخفاقات فتمثلت في توقيع الحكومة المحلية في اقليم الحدود اتفاقاً يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في الإقليم مقابل قبول العشائر هناك بسلطة الحكومة، وهو اتفاق ترافق مع تسرب معلومات لأطراف محلية بأن الأميركيين صاروا على قناعة بضرورة عقد صفقات مع «اتجاهات معتدلة» في طالبان، فتولى مولانا صوفي محمد، وهو زعيم حركة تطبيق الشريعة التي تتمتع بنفوذ في الاقليم، عملية وساطة افضت الى ما سمي «اتفاقية سوات». كان واضحاً ان الحكومة الاتحادية غير قادرة على القبول بالاتفاقية لأسباب كثيرة، ثم ان طالبان نفسها لم تنتظر كثيراً حتى بدأت ب «تطبيق شريعتها» عبر أعمال جلد لنساء وتهديد لمسؤولين... فكان اختبار الاتفاق سيئاً، وما كان احد يتوقع النجاح. اليوم الحرب بدأت، وباكستان تشهد اكبر عملية نزوح داخلي منذ انفصالها عن الهند. التقديرات ان عدد النازحين تعدى المليون، وباشر «الإغاثيون» أعمالهم في المخيمات! ومن يذكر منا ما تعنيه الإغاثة في باكستان عليه ان يتوقع مزيداً من العنف. فحركة طالبان نفسها تأسست من أعمال إغاثة اللاجئين الأفغان في مدينة بيشاور الباكستانية، والديوبندية (مذهب طالبان) تسربت الى افغانستان عبر مخيمات اللاجئين في اقليم الحدود. جماعة الدعوة المحظورة، وهي الذراع الدعوية والاغاثية ل «لشكر طيبة»، والمتهمة بالوقوف وراء تفجيرات مومباي في الهند العام الفائت، هي ابرز الجماعات الاغاثية التي تعمل في اوساط اللاجئين من سوات هذه الأيام. انها الأقدار طبعاً التي ترمي بهؤلاء الفقراء في احضان الجماعات المتطرفة مجدداً، وعلى المرء ان يتوقع ارتفاعاً في عدد المدارس الدينية جراء موجة النزوح الجديدة. فالفتية النازحون يحتاجون اليها تماماً كما احتاج اليها النازحون الأفغان البشتون في بيشاور، ولن تبخل الجماعات الاغاثية الديوبندية بها، وربما نكون قريباً امام نسخة ثالثة من طالبان في ظل توافر معادلة (بشتون – لاجئون – إغاثة). ما أشبه اليوم بالأمس في باكستان، فالمأساة هي الحقيقة الثابتة في ذلك البلد. الجيش (البنجابي) يلاحق المتمردين (البشتون): أليست هذه هي الحال منذ عقود؟ المعارضة غير الإسلامية (نواز شريف) تقف الى جانب الحكومة، فيما الأحزاب الإسلامية التي يشارك بعضها في الحكم (جماعة علماء الإسلام بقيادة مولانا فضل الرحمن) إضافة الى الجماعة الإسلامية (الاخوان المسلمون... تقريباً) فيتهمون الحكومة بتوريط الجيش بخطة اميركية وجرّ البلاد الى حرب اهلية. اما الإسلاميون الحركيون فباشروا عملياتهم ضد الجيش في محيط بيشاور، فيما تهدد حركة طالبان بإرسال 8 آلاف انتحاري الى انحاء البلاد وقتل رئيس الوزراء و»عائلته». من يعرف باكستان يدرك ان هذه التقسيمات ليست دقيقة، فطالبان ليست بشتونية بالكامل والجيش ليس بنجابياً، ومولانا محمد صوفي (الوسيط بين الحكومة وطالبان) ليس حيادياً، فقد قتل نجله قبل ايام قليلة في معركة بين الجيش وطالبان. اما الأحزاب الإسلامية المشاركة في السلطة والممثلة في البرلمان فليست بريئة من أعمال العنف سواء في اقليم الحدود أو في غيره من المناطق. والشيء الوحيد المستجد في المشهد الباكستاني هو ذلك الانسجام النادر بين الحكومة والجيش، وهو انسجام أملته على ما يبدو رغبة أميركية، وضمت اليه نواز شريف الحائر بين التزامه الوقوف الى جانب الحكومة وبين الاكلاف الشعبية لقبوله بالحرب. الارجح ان يتمكن الجيش من السيطرة على مدينة سوات، لكن ذلك لن يعني القضاء على طالبان، تماماً مثلما تمكن الاميركيون من احتلال افغانستان وفشلوا في القضاء على طالبان فيها. فقد اضيفت الى مناطق البشتون بفعل الحرب في سوات مناطق جديدة، هي مخيمات اللاجئين، وهؤلاء اذا ما اضيفوا الى ما تبقى منهم في سوات والى الشتات البشتوني في الأقاليم الأخرى (في كراتشي يعيش نحو مليوني بشتوني) نصبح امام توسع في رقعة «احتمالات الانفجار»! انها عملية مراكمة للأخطاء لا يجود القدر بغيرها على الباكستانيين. لا تزيد أعداد البشتون في باكستان عن عشرة ملايين نسمة بكثير، وهو رقم ليس كبيراً اذا قيس بعدد سكان باكستان البالغ 180 مليون نسمة. وهذا التفاوت بين الحجم والفعل يبدو موازياً لتفاوت مشابه بين حجم الأحزاب الاسلامية في البرلمان وبين قدرتها على التأثير، اذ ان هذه الأحزاب تمثل اقل من 10 في المئة من القوة الناخبة، وعلى رغم ذلك تطغى على المشهد الباكستاني. ثم ان لانخفاض أعداد البشتون دلالة اخرى تتمثل في القدرة على احتوائهم اذا ما توافرت النيات والإرادة، وهذا مدخل وحيد لبدء معالجة المعضلة البشتونية في باكستان النووية.