في خضم مراجعة واشنطن سياستها تجاه العراق، يبقى الرقم الاصعب هو التعامل مع المعارضة العراقية، او كما سمّاها مساعد وزير الخارجية الاميركية ادوارد ووكر ب"السلة الثالثة"، باعتبار السلة الاولى هي العقوبات، والثانية منطقتا الحظر الجوي وأسلحة الدمار الشامل وحماية مصالح اميركا في المنطقة. تؤكد تصريحات المسؤولين الاميركيين قناعتهم بفشل العقوبات في تحقيق هدفها في عودة المفتشين الدوليين ناهيك عن اسقاط النظام. والاقتراحات المطروحة باسم "العقوبات الذكية" تبحث عن بديل يسقط ورقة "الحصار" من الترسانة الاعلامية للنظام، وجعل النظام وليس الشعب هدفاً لها، وذلك بضبط عدم استخدام عائدات النفط لأغراض عسكرية مع رفع القيود عن السلع المدنية. ولكن اي اجراء يعتمد على تعاون او بغداد موافقتها سيكون مصيره الفشل ايضاً، وذلك لعدم استعداد الاخيرة للتعاون ما دامت عائدات النفط خارج سيطرتها. من هنا تبرز اهمية دول الجوار أداة لضبط قنوات التهريب التي يعتمد عليها النظام العراقي. انصب جهد وزير الخارجية الاميركي كولن باول ومساعده ووكر خلال زيارتهما المنطقة على اقناع الاردن وسورية وتركيا بالتعاون في هذا الشأن، وعاد باول بعد زيارته الاولى للمنطقة متفائلاً بتجاوب هذه الدول بقوله ان هناك "اجماعاً واسعاً وأساسياً". ويبدو ان الادارة الاميركية في صدد اعداد صيغة لا تضر اقتصاد هذه الدول المجاورة، وذلك باعتماد "نظام سيطرة" على ما يدخل العراق، او يصدر حسب الأسس التالية: السماح للدول المجاورة باستيراد او مدّ انابيب نفط لاستيراد النفط العراقي وبالسعر المناسب لها. ومن مصلحة الدول المستهلكة للنفط زيادة طاقة العراق الانتاجية في هذه المرحلة. اعتماد نظام لتعويض هذه الدول في حال قرر العراق وقف تصدير نفطه مع توفير بدائل مناسبة. فتح حسابات خاصة في مصارف تلك الدول وليس نيويورك او باريس لسداد قيمة العقود الموقعة مع العراق. السماح بحرية التجارة للبضائع غير العسكرية بين العراق وتلك الدول المجاورة. تساهم هذه الدول في المقابل عملياً في نظام سيطرة عبر وضع مراقبين محليين على الحدود مع العراق من خلال اجهزتها الحكومية ونظام الجمارك والمراقبة المحلية وليس دولية او اجنبية مع امكان تزويدها الاجهزة والمعدات اللازمة لذلك. وفي هذا الصدد صرح ووكر في انقرة بتاريخ 23 نيسان ابريل الماضي بعد جولة في عمانودمشق، ان "ما نتحدث عنه هو التأكد من ان اي شيء نفعله لا يضر، بل يساعد نمو اقتصاد المنطقة، وهذا احد اهدافنا". استطاع الرئيس صدام حسين استبدال "اعلان دمشق"، الذي اعتمد "المكافآت" لمصر وسورية مقابل الالتزام بعزل العراق، باتفاقات تجارية تكافئ مصر وسورية على المساعدة في خرق العقوبات. وعليه يحتاج نظام السيطرة الاميركي المقترح الى الكثير من "المكافآت" لدول الجوار قد تتجاوز الاقتصاد، خصوصاً بالنسبة الى سورية التي تملك ورقة "حزب الله" اضافة الى العراق. وقد يكون ثمن التجاوب السوري على وقف التعاون مع العراق دعم واشنطن لوضع سورية الخاص في لبنان، واسترجاع الجولان. وكذلك الحال على الصعيد التركي، فأنقرة تتوقع مساعدة في انقاذ اقتصادها المتدهور، اضافة الى تعزيز دورها اقليمياً، خصوصاً في كردستان العراق. يتعين على واشنطن، قبل مناقشة موضوع العقوبات في حزيران يونيو المقبل في مجلس الامن، اقناع الدول دائمة العضوية في المجلس بتأييد مقترحاتها او على الاقل الامتناع عن التصويت من دون الرفض، وهذا قد يتطلّب مساومات اهمها فصل مسألة العقوبات عن عملية التغيير في العراق بما يستجيب مع رغبات فرنسا وروسيا والصين، وهذا ما يوحي به قول باول في القاهرة بتاريخ 24 شباط فبراير الماضي: "اننا نقدم الدعم للمعارضة العراقية وسنواصل تقديم الدعم لها، وسنقوم باستمرار بمراجعة جهودنا في هذا الصدد، لكن علينا ان نتذكر ان هذه مسألة منفصلة بعيدة عن الاممالمتحدة ونشاطها". ان محاذير هذا الخيار، اضافة الى خطر الابتزاز السياسي والمالي من جانب بعض دول الجوار، تكمن في قدرة صدام حسين على الصمود واثارة المشاكل للآخرين ان لم يكن باسم "الحصار" فباسم "تحرير فلسطين" او اي سبب آخر ك"سرقة الكويت نفط العراق" ناهيك عن استمرار اضطهاد شعبه من دون عودة المفتشين الدوليين. ان اي تعديل للعقوبات لا يضعف النظام بل سيزيده قوة اعلامياً وسياسياً. اما سلة "الحظر الجوي" فهي الاكثر وضوحاً في السياسة الاميركية نظراً الى ضرورتها في حماية المنطقة الكردية في شمال العراق، وضمان سلامة الكويت والسعودية من اي تهديد، اضافة الى اهمية استمرارها في غياب المفتشين الدوليين لمراقبة احتمال اعادة صدام بناء ترسانته من الاسلحة المحظورة. وتؤكد الضربة الجوية لمواقع عسكرية قرب بغداد في منتصف شباط الماضي وما تبعها اخيراً من قصف مناطق في شمال العراق استمرار سياسة الحظر الجوي، مع الاستعداد لتوجيه ضربة قاسية لأي اجراء تقوم به بغداد تعتبره واشنطن تحدياً لمصالحها. لكن استمرار هذه السياسة من دون ان تكون جزءاً من استراتيجية شاملة لتغيير النظام، سيجعل منها ورقة بيد الاخير للظهور كضحية لعدوان اميركي يفتقد الشرعية الدولية مجلس الامن لم يقر منطقتي الحظر الجوي، الى جانب اثارة المشاعر العربية والاسلامية، اضافة الى خطر سقوط طائرة اميركية او بريطانية نتيجة اصابة او خطأ طبيعي. كما تترك لبغداد توقيت المواجهات الجوية عبر تحريك الرادارات او المضادات الجوية. واذا كانت الادارة الاميركية قطعت شوطاً في اعادة النظر في الملفات السابقة، فإنها لا تزال تراوح في شأن ملف التغيير في العراق. وفي شهادة كولن باول امام الكونغرس 8 آذار/ مارس حاول التملص من الاجابة المباشرة عن السؤال عما اذا كانت الادارة تسعى في سياستها الى اطاحة صدام حسين مكتفياً بالقول: "مما لا شك فيه ان العراق من دون صدام حسين ونظامه سيكون افضل مما هو الآن". وما تقوم به واشنطن من خطوات تقديم الدعم المالي ل "المؤتمر الوطني العراقي" هو تنفيذ لإجراءات سبق ان اعتمدتها الادارة السابقة التي تعاملت مع المعارضة العراقية مجرد اداة اعلامية في استراتيجية الاحتواء المبنية على العقوبات والحظر الجوي. ان اعتماد نهج التغيير في العراق سينعكس اولاً على طريقة التعامل الاميركي مع قوى المعارضة، باعتبارها الاداة الاساسية في اي عملية تغيير محتملة. وأدت مشاعر الخيبة من السياسة الاميركية السابقة الى تخلي معظم وأهم القوى السياسية العراقية عن "المؤتمر الوطني". أما استمرار المشاركة الكردية في "المؤتمر" فتعود لاعتبارات خاصة لا علاقة لها بالتغيير في العراق. الجديد في ادارة بوش تطلعها - حسب تصريحات المسؤولين الاميركيين نحو قوى اخرى الى جانب "المؤتمر الوطني" لدرس الخيارات المتاحة. يفرض هذا التحوّل على المعارضة العراقية، وبالذات القوى الفاعلة ميدانياً، اخذ المبادرة في بلورة تصور عراقي مشترك. وتحتل كردستان العراق موقعاً نادراً كأرض عراقية غير خاضعة لسيطرة صدام حسين بالامكان تطويرها الى قاعدة للعمل الوطني العراقي المناهض للديكتاتورية. وهذا يتطلب، من دون شك، اضافة الى الارادة الكردية قناعة اقليمية ودولية بجدوى مثل هذا التحوّل، وبالتالي حماية تلك المنطقة من قوات النظام العراقي. ان التقارب الكبير بين الحزبين الكرديين الرئيسيين برئاسة مسعود بارزاني وجلال طالباني، والتصريح الجريء للسيد محمد باقر الحكيم رئيس "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية" بالاستعداد للدخول في حوار مباشر غير مشروط مع واشنطن على قاعدة حماية الشعب العراقي، يوفر الارضية لمبادرة الزعماء الثلاثة الى دعوة الاطراف العراقية الاخرى للالتقاء على ارض عراقية من اجل مراجعة مسيرة العمل الوطني العراقي المناهض للديكتاتورية، والبحث عن صيغة عمل مشتركة تفرز قيادة عراقية تحظى باحترام اوسع الدوائر الاقليمية والدولية. ان غياب القناعة بالبديل العراقي المناسب كان ولا يزال احد أهم عوامل استمرار حال "الاحتواء" الاميركية والتردد الاقليمي في قبول التغيير. ان تجاوز سلبيات تجربة "المؤتمر الوطني" التي تتحمل الادارة الاميركية السابقة الكثير من وزرها، لا يتم بإلغائه بل في تطويره اذا أمكن، او بإيجاد البدائل العملية من دون اقصاء أي طرف. ويعتبر نجاح المعارضة العراقية في ترتيب بيتها ورقتها الاساسية في كسب احترام الآخرين، بدءاً بالعراقيين، وهذه مهمة لن ينوب بها عنهم اي طرف اقليمي او دولي. لم يعد الانفراد الاميركي بالملف العراقي ممكناً، واذا توصلت واشنطن الى قناعة بضرورة التحرك بصيغة اقليمية لانجاح "العقوبات الذكية"، فمن باب اولى اعتماد الصيغة ذاتها في مساعي التغيير، وهنا تحتل السعودية وتركيا مكانة الصدارة، خصوصاً لدورهما في ضمان وحدة واستقلال عراق ما بعد صدام حسين. لكن مشاركة هذين البلدين او غيرهما في عملية التغيير غير ممكنة ما لم تتوافر القناعة الكاملة بجدية الموقف الاميركي والاطمئنان الى البديل العراقي المقترح. * كاتب وسياسي عراقي مقيم في لندن.