أصبح من شبه المؤكد ان تشهد الفترة المقبلة تعديلات جوهرية في سياسة العقوبات التي تفرضها الاممالمتحدة على العراق. وآخر الادلة ما اعنله نائب الرئيس الاميركي قبل مرضه الاخير من ان بلاده في صدد رسم سياسة واضحة ازاء بغداد. والمؤكد حتى الآن ان هذه السياسة لا تزال غير واضحة عدا بعض ملامحها العامة، ومنها عزم الادارة الجديدة، بعد جولتي وزير الخارجية كولن باول ومساعده ادوارد ووكر في الشرق الاوسط والخليج، على تحقيق خطوتين رئيسيتين: حشد تحالف اقليمي جديد وراء موقفها من صدام. وادخال تعديلات على العقوبات وتحويلها "عقوباتٍ ذكية" تستهدف النظام السياسي لا المدنيين العراقيين. هنا يمكن القول ان الادارة الجديدة ربما كانت منشغلة في الوقت الحالي بنقاشات حامية داخل اروقة البيت الابيض في شأن ما يمكن عمله. لكن الارجح ان الغلبة هي، على الاقل حتى الآن، لدعاة استحالة التعامل مع المشكلة العراقية بأساليب العنف والقوة راهناً. وفي نظر هذا الفريق ان التحالف الدولي والاقليمي المطلوب لأي عمل باتجاه تغيير النظام، لا يمر في احسن حالاته، فيما العقوبات في صيغتها الحالية تتجه نحو انهيار كامل. اما الرئيس العراقي الذي ظنت الادارة الديموقراطية السابقة انها حبسته في صندوق معزول، فيكاد يتحول لاعبا رئيسيا على رقعة الاحداث السياسية والاقتصادية للمنطقة. لذلك كله، يصح الترجيح ان السياسة المقبلة للادارة الاميركية ستبنى على مبدأ اساسي: هو اعادة انشاء تحالف اقليمي ودولي جديد حول مواقف واشنطن ازاء بغداد، على ان يؤخذ في الاعتبار عدد من الاساسيات: أولاً، تأجيل اي مواجهة عسكرية ممكنة مع النظام العراقي، بسبب الخلخلة التي احدثتها ازمة المواجهات الاسرائيلية الفلسطينية في بنية الشرق الاوسط، وهي خلخلة عميقة الى درجة ان اي صدام آخر في المنطقة، خصوصاً مع بغداد، قد لا يخدم مصالح واشنطن وحلفائها. ثانياً، تقليص الشعارات الداعية الى اطاحة النظام في تصريحات المسؤولين الاميركيين، وتقليص التعاون العلني مع جماعات المعارضة العراقية، اضافة الى خفض وتيرة الدعوة الى محاكمة المسؤولين العراقيين في محكمة دولية. والاسباب ان حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط، لم يستسيغوا، طوال السنوات العشر الماضية، ولا يمكن ان يستسيغوا لعشر سنوات اخرى، شعارات ودعوات كهذه، لا لخوفهم من التورط في مخططات اميركية لاطاحة النظام العراقي، بل لتخوفاتهم من تأسيس امثلة وسوابق كهذه في المنطقة. كذلك لا بد لواشنطن، بحسب فريق باول، ان تأخذ في الاعتبار اوضاع الشرق الاوسط الحالية واستحقاقات حلفائها فيه. فهؤلاء بإعتبارهم دولاً عربية او اسلامية، لا يمكنهم الانشغال بمشكلة العراق في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بالمواجهات الاسرائيلية والفلسطينية، خصوصاً ان انشغالهم هذا لا تمليه الشراكة القومية والدينية فحسب، بل في الدرجة الاولى مصالح الامن والاستقرار والسلام في المنطقة. وارتباطاً بهذا يصح القول، بحسب فريق باول، ان الغياب العربي والاسلامي الرسمي عن الانشغال، أولاً، بعملية السلام وتداعياتها قد يدفع العملية السلمية برمتها الى انهيار مرعب وخروج كامل عن نطاق السيطرة الاقليمية والدولية. وهذا في حال تحققه لا يمكن ان يفضي الا الى خسارة استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الاوسط. هنا لا يخفي بعض مسؤولي الادارة الاميركية، كما الحال مع تشيني، التأكيد على ان المشكلة العراقية اصبحت ترتبط بشكل حيوي بمعايير اقليمية حساسة، ربما بسبب نجاح صدام حسين في حربه الدعائية ضد سياسة العقوبات، او نتيجةً لاخطاء اقترافتها الادارة الاميركية السابقة. مع هذا كله، من الخطأ الاعتقاد بأن هذه الافكرة التي يقول بها فريق باول، ويرحج تحولها الى سياسة رسمية اميركية في مستقبل غير بعيد، تبطن رغبة خفية في التخلي عن هدف تغيير النظام، او اعادته الى الشرعية الدولية والاقليمية. فالواضح ان اعادة بناء التحالف التي تتحدث عنها الادارة هي مجرد تأجيل الى مرحلة لاحقة بحيث تنقشع الغيوم الحالية في المنطقة، ويعود التحالف الدولي والاقليمي الى قوته السابقة في اطار "عقوبات ذكية" لا تستهدف المدنيين. ايا تكن الاسباب وراء التوجه الاميركي الجديد ازاء المشكلة العراقية، لا بد من الاقرار بوجاهة الفكرة. وهذا على رغم الحقيقة القائلة بصعوبة الحصول على آلية تضمن التمييز بين النظام والمواطنين خصوصاً في ظل نظام استبدادي كنظام صدام حسين. لكن الوجاهة في الموضوع هي ان الملامح العامة لنظام العقوبات الجديد توحي بالابقاء على مراقبة قدرات العراق العسكرية والاستمرار في فرض الحظر الجوي على شماله وجنوبه، اضافة الى وضع الاموال والعائدات العراقية تحت رقابة دولية صارمة. وهذه النقاط الثلاث هي في الحقيقة جوهر العقوبات المفروضة على العراق. اما بقية الامور كمنع الرحلات المدنية والتضييق على التجارة المدنية وحركة النفط، فإنها تفاصيل قد يمكن السيطرة عليها في حال وجود تفاهم دولي واقليمي واضح لمراقبتها. بل اكثر من ذلك، يمكن حتى لهذه النقاط الحيوية ان تشهد تعديلات في اطار نظام جديد للعقوبات. فأنظمة التفتيش الميداني عن اسلحة الدمار الشامل وتصنيعها وانتاجها، عن طريق مفتشين في بغداد، اثبتت عدم نجاحها في ظل براعة النظام في سياسة الإخفاء طوال السنوات العشر الماضية. لهذا يمكن الاستعاضة عنها بنظام مراقبة فضائية وجوية سرية ربما جعلتها التقنيات الرفيعة المتوافرة اكثر فاعلية من التفتيش الميداني. كذلك حماية مناطق حظر الطيران في شمال العراق وجنوبه، يمكن الاستعاضة عنها بنظام مراقبة من خارج الحدود العراقية قد تكون اقل كلفة واكثر فاعلية اذا تم ضمان موافقة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الامن على ضرورة استمرارها، الى حين الحصول على تأكيد من الاكراد في الشمال، ودول خليجية محددة معنية بالجنوب، بأن الحاجة لم تعد قائمة للحماية وان الجميع وجدوا طريقهم الى التفاهم مع بغداد على حل المشاكل. اما النسبة الى لاموال، فإن تخفيف القيود المفروضة على تعاملات العراق التجارية المدنية والسماح لقطاعه الخاص بإستيراد عدد اكبر من المواد الانسانية من دون انتظار موافقة لجنة العقوبات وخفض النسبة المستقطعة من عائداته النفطية لدفع تعويضات غزو الكويت، والسماح بحصوله على نسبة محددة من عائداته النفطية في نطاق ضوابط محددة، قد لا تضر بموضوع مراقبة امواله ومنعها من التوجه الى الانفاق العسكري المحظور. وفي السياق نفسه، يندرج الغاء مصطلح العقوبات وإستبداله بمصطلح اقل وقعاً وايذاءً من الناحية الانسانية. وكان الفرنسيون المعروفون بتراثهم الكبير في التعامل مع الثقافات والروحيات في الشرق الاوسط، اول من افطنوا الى ضرورة استبدال مصطلح العقوبات بآخر اكثر مراعاة للجوانب النفسية. في مقابل هذا كله، يمكن لواشنطن الحصول على موقف دولي واقليمي داعم لمواقفها حيال بغداد، خصوصاً في ما يتعلق بمسائل التسلح المحظور والاموال ومناطق الحظر الجوي العسكري، اضافة الى تجريد صدام من سلاح تجويع شعبه، فضلاً عن تهيئة العوامل التي تتيح ردّا دوليا قويا في حال رفضت بغداد التزام القرارات الدولية. ايا تكن الحال، تبدو واشنطن عازمة على ادخال تعديل عميق في اسلوب تعاملها مع العراق، بما في ذلك تعديل نظام العقوبات. لكن الامل في نجاح هذا الاسلوب ضئيل على رغم محاسنه. والسبب لا يعود الى التعديل او تفاصيله او درجته، وانما الى العراق نفسه الذي يتهيأ، من جهة، لرفض التعديلات، ومن جهة اخرى، للاحتفال بإنتصاره على الارادة الاميركية!