سؤال يطرح باستمرار هذه الايام: هل ضيع الفلسطينيون فرصة عقد اتفاق مع حكومة ايهود باراك؟ أقول لا قاطعة، وأعرض ما عندي معتمداً على ما رأيت بنفسي فقط او سمعت من الرئىس ياسر عرفات، ومن وزير خارجية مصر في حينه السيد عمرو موسى، ومن المفاوضين الفلسطينيين امثال السادة محمود عباس ابو مازن ورأيه مسجل وسمعته منه، ومحمد دحلان ابو فادي ومحمد رشيد ابو ياسر، والدكتور صائب عريقات الذي رأيته خلال ساعات من انتهاء المفاوضات في طابا، وكان يحمل خرائط للقدس العربية وتقسيم الاحياء فيها، وما اتفق عليه، وما لم يتفق. اقول بكل مسؤولية، واعتماداً على المصادر السابقة كلها منفردة ومجتمعة، ان حزب العمل الاسرائيلي، بمساندة مباشرة من ادارة كلينتون، حاول خداع ابو عمار بعرض صفقة سيئة عليه يضيع فيها الحرم الشريف والحق العربي في فلسطين الى الأبد. وعندما رفض ابو عمار ان يبلع الطعم، وان يستسلم بالتفاوض، جاء ليكود، مع وقوف الاميركيين جانباً، ليحاول ان يفرض على الفلسطينيين بالقوة المسلحة الحل الذي هو إلغاء حقوقهم او وجودهم... يعني ان ما نرى الآن هو استمرار بالسلاح للمحاولة الاسرائىلية التي لم تنجح بالتفاوض. لنبدأ في كامب ديفيد في حزيران يونيو الماضي، فقد ألقت حكومة بيل كلينتون بثقلها كله وراء ما وصف بأنه تنازلات اسرائىلية غير مسبوقة. وقدم باراك فعلاً عرضاً بالانسحاب كان خطوة متقدمة جداً على كل خطوة اسرائىلية سابقة. الا ان العرض هذا كان "الطعم" فالانسحاب بقي وحده، من دون حديث عن عودة اللاجئين خارج نطاق لم شمل العائلات، او حوالى 500 شخص في السنة على مدى 20 سنة، ومن دون خوض في موضوع الأماكن المقدسة الاسلامية والمسيحية. وفي اهمية ما سبق ان المفاوضات كلها بقيت افكاراً غير مدونة، وقد حاول ابو عمار جهده الحصول على شيء مكتوب وعجز، فقد كان مطلوباً منه ان يقبل هذا الكلام العمومي غير الملزم والناقص. هل يصدق القارئ انه خلال قمة كامب ديفيد التي طالت حوالى اسبوعين لم يعقد اجتماع ثلاثي واحد بين بيل كلينتون وياسر عرفات وايهود باراك؟ تبع القمة تلك شهران من العبث، وأخذ الجانب الاسرائىلي يسرب معلومات عن استعداده للانسحاب من 94 في المئة من الارض. وزار ابو عمار وكبار المسؤولين الفلسطينيين الرئيس حسني مبارك، في اواخر آب اغسطس على ما اعتقد وعرضوا على الرئىس المصري ما عندهم، وسلم الرئىس مبارك بنفسه الرئىس كلينتون في مطار القاهرة، حيث توقف في 27 آب، عائداً من جولة افريقية الى بلاده ورقة ضمت الاسئلة الفلسطينية والمصرية على المعروض. وبعد تموز يوليو وآب ضاع ايلول سبتمبر من دون ان يصل رد اميركي على الاسئلة. وقابل السيد موسى وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت قرب نهاية الشهر، وسألها عن الاجوبة، ولم يكن عندها جواب، وفي الوقت نفسه، وعلى هامش دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة قابل الرئيس كلينتون ابو عمار وباراك، كلاً على حدة، واتُفق على اجتماع لم يعقد. وهكذا وبعد تضييع شهرين آخرين قدم الرئىس كلينتون في 23 كانون الاول ديسمبر الماضي ما عرف باسم Parameters، اي حدود او ضوابط للاتفاق وصفتها اولبرايت بأنها صندوق يدخله الفلسطينيون، ويتفاوضون من داخله مع الاميركيين على ما يريدون. مرة اخرى كان الموضوع خدعة، لا محاولة اتفاق حقيقية، والطعم كان مرة اخرى الانسحاب من 94 في المئة من الارض، ولكن عودة اللاجئين بقيت مجرد عملية لم شمل خاضعة لشروط السيادة الاسرائىلية، اي ان تطبق اسرائىل تماماً ما قد تطبقه كندا او استراليا في قبول مهاجرين اليها، وتقسم القدس بحسب الغالبية السكانية، فيعطى الفلسطينيون المناطق التي لهم فيها غالبية، والاسرائىليون المناطق التي لهم فيها غالبية. وزاد الاميركيون حق اسرائىل في العودة الى احتلال وادي الاردن لأسباب الأمن من دون تشاور مسبق. ومع هذا كله فلا حديث البتة هذه المرة او قبل او بعد، وحتى طابا، عن سيادة فلسطينية على الحرم الشريف، وقد تحدث الاميركيون والاسرائيليون عن سيطرة، غير ان الفلسطينيين يمارسون السيطرة الآن، وللمفتي عكرمة صبري مكتب داخل الحرم الشريف، بل ان الاسرائيليين قطعوا السيطرة الموجودة بالنصف، عندما بدأوا يتحدثون عن سيطرة فوق الارض، لا تحت الارض. ماذا فعل الاميركيون والاسرائىليون بعد ان اضاعوا النصف الثاني من السنة ألفين؟ اخذ الاميركيون يخوفون ابو عمار، بالقول: امامك 19 يوماً للموافقة... امامك 18 يوماً للموافقة، وهكذا، والمقصود الايام الباقية من ولاية بيل كلينتون. ولما كانت مفاوضات طابا آخر سهم، فقد اصبح الاسرائىليون يحذرون المفاوضين الفلسطينيين من انه بقي امامهم عدد متناقص من الايام قبل الانتخابات ومجيء آرييل شارون. وهكذا اصبحت القضية الفلسطينية كلها، بما فيها المسجد الأقصى، تحت ضغط انتهاء ولاية رئىس اميركي، وخوض رئىس وزراء اسرائىلي الانتخابات. مرة اخرى، ما سبق هو ما حدث كما رأيته بنفسي، او سمعته من المسؤولين الذين سجلت اسماءهم، وكل حديث آخر هو جزء من عملية علاقات عامة اسرائىلية ليبدو الفلسطينيون، وكأنهم ضيعوا فرصة اخرى من نوع التقسيم وعدم قبوله. واليوم تحاول حكومة آرييل شارون ان تفرض بالقوة المسلحة، ما عجزت حكومة ايهود باراك عن فرضه بالخدعة، ولعبت الولاياتالمتحدة دور المساند لاسرائىل، فشاركت بنشاط في الخدعة، وهي تقف جانباً اليوم لتمكين شارون من محاولة انتزاع النتيجة نفسها بوسائل اخرى.