ينطلق الكاتب والمخرج المصري سامح مهران في مسرحيته "دوديتللو" من حكاية الحب المأسوي الذي عاشته الأميرة ديانا والشاب المصري دودي الفايد ليبني عرضاً مشهدياً عماده العبث والسخرية السوداء. وفي العرض يستحضر الكاتب - المخرج شخصيات شكسبيرية عدة في سياق طريف وعبثي. أظنها البداية الحقيقية لسامح مهران مؤلفاً ومخرجاً مسرحياً، على رغم ما سبقها من نصوص تجاوزت 10 مسرحيات قام هو بإخراج اثنتين منها، ولم يكتف بتقديم رؤية فكرية ودرامية عميقة في النص المسرحي "دوديتللو" وهو قدم اخيراً على مسرح الهناجر في القاهرة، بل قدّم ايضاً رؤية اخراجية متمايزة، خصوصاً في توظيف "الغروتسك" على المسرح. قدم العرض سخريته الحادة على مستوى اللغة المكتوبة وعلى مستوى اللغة الإخراجية: حركة واداء تمثيلي وديكور. ففي فضاء المسرح علق ابراهيم الفوي مصمم السينوغرافيا 3 إطارات ضخمة لصوَر فارغة، وضع الاطار المتوسط بينها في صورة منحرفة عن وضعها المستقيم في بداية دالة على تفكك العوالم، وتشوه الاشكال المألوفة، واختلال النسب وزعزعة السائد والراسخ... هكذا يبدأ العرض حكاياته أو رؤيته الانقلابية الساخرة. استند سامح مهران على قصة الحب الشهيرة بين الأميرة ديانا ورجل الأعمال المصري عماد الفايد وهي انتهت بمصرعهما المأسوي في آب اغسطس 1997 ليصوغ عرضاً كوميدياً عن صراع الثقافات وأشكال التطرف الاصولي شرقاً وغرباً، والتضاد القائم بين "العقل العربي" و"العقل الغربي". وإذا كان "التضاد" عنصراً رئيسياً في الغروتسك من خلال فضح التناقض وإظهاره في صورة كاريكاتيرية ساخرة، فالعرض اضاف من خلال "التماثل" بين المتضادين رؤية غروتسكية جديدة، حين ابرز تلاقي العقليتين العربية والغربية في التطرف والتعصب والعنصرية ساخراً من الجميع، من البلاط الملكي البريطاني والارستقراطية، والفخامة الكلاسيكية في اشكالها الزائفة والعنصرية مستخدماً لغة سوقية فجة ولا سيما في حوارات الملكة وفي حركاتها. وسخر ايضاً من البنية المسرحية الكلاسيكية الشكسبيرية في تنويعاتها العنصرية وقيمها التقليدية. وسخر العرض من التطرف العربي متمثلاً في الاصوليين المتطرفين بوجههم الاسلامي والمسيحي وبمنهجهم الغيبي القائم على الخرافة واستخدام السحر والجن. بل سخر ايضاً من علاقة الحب ذاتها بين ديانا ودودي كونها علاقة استهلاكية تستند الى المصالح والصفقات والصراع الذي يحكم العلاقة بين الثقافتين والعقليتين. تتلاقى العقلية العربية والغربية في المؤامرة والعنف والتطرف. كلتاهما تبحث عن اسلوب للتخلص من فضيحة ديانا / دودي وتلتقيان ايضاً في العودة الى الماضي والسكن في جلباب الاصولية كمصدر وحيد للهوية. تبدأ المسرحية بانفجار ازمة علاقة الحب بين الأميرة والشاب المصري وتأثير ذلك على البلاط البريطاني كأن يخلو المسرح تماماً من اي ديكورات سوى اطارات الصور المهتزة في الفراغ، وكرسي خشب ضخم ومتواضع تجلس عليه الملكة الأم. هنا تطل السخرية لاذعة حين يلعب الممثل حمادة شوشة دور الملكة الأم في واحد من افضل ادواره، وإن كانت امكاناته الحركية ومقدرته على التمثيل والإيماء وفهم الشخصية اعلى كثيراً من نطقه الحروف وإلقائه الذي في حاجة الى تمارين خاصة في لحظات الانفعال. ولعل قيام ممثل رجل في دور الملكة، هو استمرار ل"الشفرة" المزدوجة التي تحكم بنية العرض بأكمله حيث الانقسام والتداخل هما سمة الشخصيات جميعاً. شكسبير الذي تم استنساخه تلقيحاً من النعجة دوللي هو نصف حيوان ونصف انسان، الملكة البريطانية هي رجل - امرأة، حتى علاقة الحب الاستهلاكية بين ديانا ودودي هي نتاج تداخل وتبادل للأدوار تلعب فيها ديانا الدور الذكوري بينما يلعب دودي الدور الأنثوي! تبحث الملكة وكبير الأمناء كمال عطية عن طريقة للتخلص من الفضيحة، فينتهيان باستدعاء شكسبير شريف صبحي لحل الأزمة. ويستخدم المؤلف التناص مع المسرحيات الشكسبيرية، فالبشر الذين يشكلون الميدان العام هم استلهام للروح الشكسبيرية في حلم ليلة صيف والاشجار المتحركة والعناية السوداء هي استدعاء لغاية "ماكبث". ويستعيد العرض مشهد الفرقة المسرحية في "هاملت" عندما تقدم عرضها المسرحي امام الملكة جرتروود فيقدم المشهد نفسه امام الملكة اليزابيث بينما يلعب دودي الفايد دور "عطيل" بوجهه المطلي بالأسود وتقوم امامه رحاب الغراوي بدور "ديانا" في المسرحية وفي المشهد المسرحي داخل المسرحية ايضاً. وتستدعي نهاية العرض مشهد "الشبح" الشهير في "هاملت" ولكن في صورة معكوسة، حين يترأى لوالد دودي شبح ابنه مطالباً بالانتقام، ومؤكداً رؤية العرض في تبعية العقل العربي لكل ما هو عربي في صيحة المطالبة بالجنسية البريطانية، وهو اقسى اشكال الإدانة يقدمها العرض للثقافة العربية في صورتها التابعة. يكشف العرض عن انخفاض الوعي الثقافي العربي بل عن غيبته وتغيبه في ظل الارتكان الى الماضي والارتماء في السحر والخرافة من خلال اسلوب معالجة مشكلة الحب بالمسرحية واستدعاء حكاية "التمر المسحور" من "ألف ليلة وليلة". يقسو المؤلف على العقل العربي حتى داخل علاقة الحب ذاتها بين ديانا ودودي وهي تجسد صراع القوى حيث "ديانا" متسلطة متعجرفة عنصرية بينما "دودي" تابع ذليل ومستسلم خاضع. بالغَ سامح مهران في الادانة والسخرية السوداء من كل شيء حوله. ورؤيته مغلقة مسدودة تصبغ العرض بسوداوية مضاعفة. وبالغَ المؤلف ايضاً - كعادته - في طرح الكثير من القضايا والافكار مما اثقل العرض وخصوصاً في مشاهد الجماعات العربية المتطرفة التي وقعت في كثير من الثرثرة والاستطرادات وخصوصاً ان المخرج يعمل طوال الوقت برأس المؤلف الذي هو نفسه، كأن تشغله الفكرة ودلالاتها ومعانيها من دون ان تشغله المشهدية والجماليات البصرية والخيال وكلها تحقق متعة الفرجة.