الى أين يسير الاتحاد الأوروبي، ما هو الاتجاه الأصح الذي يمكن ان يسلكه وما الذي ينتظره مستقبلاً اذا لم يتم الاكتفاء بالوضع الذي هو عليه الآن، واذا ما جرى طرح الوحدة السياسية كتتمة طبيعية للوحدة الاقتصادية والمالية؟ اسئلة يتداولها قادة أوروبيون علناً أو في مجالسهم الخاصة من دون ان يقدموا أجوبة شافية عنها الى حد الشك بأنهم لا يرغبون في ذلك بسبب محاذير ذاتية أو موضوعية. والمثال الأكبر على ذلك هو بريطانيا ربما. من هنا لم يتجرأ أحد بعد على اتخاذ المبادرة، وبصورة خاصة فرنسا الأوروبية حتى الصميم. لكن المبادرة جاءت أخيراً من حيث لم يكن احد حتى سنوات خلت يتوقعه: من المانيا التي كانت طوال العقود الماضية تلعب دور العازف الثاني أو الثالث، بل حتى الرابع في الاوركسترا الأوروبية. لكن مع مجيء الحزب الاشتراكي الديموقراطي الى الحكم قبل سنتين وبرئيسه المستشار الاتحادي غيرهارد شرودر القادم بروحية استعادة الثقة بالنفس وبموقع بلاده الاساسي في القارة بعد توحد المانيا، وبسعيه الى منافسته فرنسا على دور العازف الأول، تم انتزاع المبادرة من باريس المترددة حالياً، وطرح مشروع سياسي - اصلاحي جديد للاتحاد اطلق عليه البعض تسمية "الثورة الصغيرة". فلأول مرة يدل قائد أوروبي الى الطريق التي يجب على أوروبا سلوكها محدداً الهدف المطلوب قبل كل شيء. فشرودر يطالب في مشروعه الذي اقرته قيادة حزبه قبل اجتماع قمة الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية الحاكمة وغير الحاكمة في برلين، وبصورة لا غموض فيها، بانشاء حكومة تنفيذية خاصة بالاتحاد. كذلك يدعو الى تقوية البرلمان الأوروبي من خلال اعطائه صلاحية كاملة في التصرف بموازنته وتحويل المجلس الوزاري الأوروبي الى مجلس يضم ممثلين عن الدول الاعضاء في الاتحاد كبرلمان تشريعي ثان على مثال ما هو موجود في المانيا. كما يطالب المشروع بوضع دستور للاتحاد حتى عام 2004 على أبعد تحديد، أي قبل انعقاد المؤتمر الحكومي الأوروبي من اجل اقرار كل هذه الاقتراحات كما هي أو معدلة. ويرى معلقون هنا أن شرودر يسعى من خلال مشروعه الاصلاحي الى إزالة الاخطاء التي ارتكبت، مع قيام الاتحاد الأوروبي ومع تطوره اللاحق، خاصة وان الاتحاد لم يتجاوز كونه وحدة نقدية مسيّرة بمصالح اقتصادية، لا وحدة سياسية تؤمن مشاركة المواطنين فيه. ويرى البعض هنا ان المستشار الالماني اختار الوقت المناسب لطرح أفكاره وأفكار حزبه، اذ بعد اشهر قليلة سيصبح بإمكان كل مواطن في أوروبا لمس العملة الأوروبية لمس اليد، وستصبح أوروبا أكثر تحديداً وملموسية بكل ما في ذلك من معنى. وعند ذلك، وفي الوقت الذي سيرتفع فيه اهتمام كل مواطن بوضع اليورو في البورصة سيشعر الأوروبي بمسؤوليته الأوروبية. وكان متوقعاً بالطبع انقسام الدول الأوروبية حول مشروع شرودر الاصلاحي. واحتلت فرنساوبريطانيا بصورة خاصة رأس لائحة الذين رفضوا كلياً أو جزئياً وابدوا شكهم فيه وحذرهم منه، بينما اظهرت ايطاليا وبلجيكا موقفاً ايجابياً. وخلال قمة الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية في برلين مطلع الشهر الجاري جدد شرودر في كلمته الافتتاحية عرض الملامح الرئيسية لمشروعه، لكن رئيس الحكومة الفرنسية ليونيل جوسبان تحاشى الدخول في جدل علني، مكتفياً بالقول ان الوقت لا يزال طويلاً حتى عام 2004 للاتفاق مع المانيا حول الاصلاح المطلوب. وهو أقر هنا بوجود خلاف في معرض النفي. ومع ذلك أقر بضرورة بدء النقاش حول الاقتراحات منذ اليوم، انما من دون ان يقدم تصورات بديلة، ما يؤكد نقطة الضعف في الموقف الفرنسي. وفيما شرودر مطمئن الآن الى عودته المظفرة الى الحكم في الانتخابات العامة المقبلة في خريف العام المقبل - هذا اذا لم تحدث مفاجآت غير متوقعة - يبدو جوسبان على العكس متخوفاً من فشله في الانتخابات المقبلة في بلاده. وهو يعرف ان موضوع الاصلاحات في الاتحاد الأوروبي لن يجلب له الا المزيد من الاعباء المالية والمتاعب التي قد تنعكس سلباً على مواقف الناخبين منه. وفي كل الاحوال تمكنت المانيا هذه المرة ايضاً من سرقة الاضواء من فرنسا واظهرت للمرة الثانية أو الثالثة، من هو العازف الأول في الاتحاد الأوروبي، ليس فقط اقتصادياً وسكانياً، بل سياسياً ايضاً. اما رئيس حكومة بريطانيا توني بلير الذي لم يحضر قمة برلين بحجة انشغاله بالانتخابات في بلاده وأرسل مكانه وزير خارجيته روبن كوك، فكان أكثر تحفظاً تجاه مشروع شرودر الاصلاحي، خاصة وانه يعرف ان اغلب البريطانيين حساسون جداً تجاه الاتحاد، الأمر الذي اضطره الى التخلي عن طرح فكرة دخول النظام النقدي قبل الانتخابات التي من شبه المؤكد نجاحه فيها. وقد ترك كوك الذي انتخب في برلين رئيساً جديداً لمؤتمر الاحزاب الاشتراكية الديموقراطية يعلن ان حكومته غير موافقة على كل ما هو مطروح في هذه الاقتراحات، الا انه لم يحدد ما هو مرفوض وما هو مقبول منها كما لم يسع ابداً الى مناقشتها. اضافة الى ذلك فرحت بعض الصحف البريطانية مثل "الغارديان" لاكتشافها فروقات بين شرودر ووزير خارجيته الأخضر يوشكا فيشر حيث رأت ان الأخير غير موافق على قيام اتحاد سياسي في أوروبا وانه قدم بذلك مساعدة قيمة لبلير من خلال تفهمه قلق لندن من التخلي عن السيادة البرلمانية، ما دعم موقف بريطانيا للعب دور أساسي داخل الاتحاد الأوروبي. من هنا كانت الاصلاحات التي اقترحها شرودر الحاضر - الغائب الأكبر في قمة الاشتراكية الديموقراطية التي اجتمعت عملياً لتحديد استراتيجيتها السياسية المستقبلية في القارة التي تحكم أحزابها معظم بلدانها. وكان الهم الأساسي لأحد عشر رئيس حكومة أوروبية ولرؤساء الاحزاب والسياسيين المجتمعين اظهار وحدة اليسار في القارة، ولذلك اكتفى "بيان برلين" ب"الالتزام بمواصلة بحث عملية الاصلاح المطلوبة" مشدداً على ما يجمع هذه الاحزاب لا على ما يفرقها، وهو كثير.