نفى المستشار الألماني غيرهارد شرودر ان تؤثر استقالة نده القوي أوسكار لافونتين من منصب وزير المال ومن رئاسة الحزب الاشتراكي الديموقراطي سلباً على القمة الأوروبية التي ستعقد بعد ثلاثة أيام في برلين وعلى جدول أعمالها أيضاً تحديد مواعيد ضم بولندا وتشيخيا وهنغاريا الى الاتحاد بعد ان انضمت رسمياً الى الناتو الاسبوع الماضي. مما لا شك فيه ان استقالة اوسكار لافونتين، الرجل القوي الذي كان ينعت من قبل وسائل الاعلام الالمانية والأوروبية بأنه "المستشار السري" للحكومة، من كل مناصبه بما في ذلك عضويته في البرلمان الاتحادي أدت الى هزة سياسية في البلاد شبهها البعض بالهزة التي احدثتها استقالة المستشار الاشتراكي الديموقراطي الأسبق فيلي براندت إثر الكشف عن ان مستشاره الخاص كان عميلاً للاستخبارات الالمانية الشرقية. لكن براندت لم يسقل وقتها من الحزب الذي بقي يترأسه حتى وفاته كما لم يتخل عن الحياة السياسية كما فعل لافونتين. وأبعد من الأسباب التي ذكرها لافونتين عن تخليه المفاجئ عن الحكم وعن السياسة فإن الطريقة التي استقال فيها جعلت الكثيرين من أنصاره يوجهون اليه انتقادات قاسية. كما ان استقالته هذه واصراره على الغياب الكامل عن الساحة السياسية شكل ضربة موجعة لحزب اتحاد التسعين - الخضر، خاصة للجناح اليساري منه، الذي فقد فيه حليفاً مبدئياً ساهم منذ الأساس في هندسة تركيبة الحكومة الائتلافية الحالية بينما كان المستشار شرودر ولا يزال يعتبر ان تحالفه مع الخضر هو تحالف تكتيكي تاركاً كل احتمالات الائتلافات الممكنة للمستقبل. كما فقد الخضر سنداً حاسماً لتمرير مواقف وقرارات يسارية الاتجاه في الحكومة وفي البرلمان وعليهم الآن سوياً مع ممثلي التيار اليساري داخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي ترتيب أوضاعهم لتقديم المزيد من التنازلات السياسية على الأرجح امام تيار "الوسط الجديد" الذي يمثله شرودر والذي سيصبح نهجاً رسمياً، خاصة عندما سيتم انتخاب الأخير رئيساً للحزب محل لافونتين في المؤتمر الحزبي الطارئ الذي سيعقد في بون في 12 نيسان ابريل القادم. والمفاجأة التي حصلت لم تتمثل في انفجار الخلافات بين الرجلين القويين شرودر ولافونتين، اذ ان المتتبعين للأوضاع كانوا يرون انها ستأتي آجلاً أم عاجلاً، كما ان وسائل الاعلام نشرت في الأسابيع الأخيرة على صفحاتها الأولى أكثر من "تقرير مسرب" عن الخلافات التي تركزت على السياستين المالية والاقتصادية. لكن المفاجأة تمثلت في جذرية الموقف الذي اتخذه لافونتين بالانسحاب نهائياً من الحياة السياسية من دون ان يعطي مبرراً واضحاً ومقنعاً لخطوته هذه حتى الآن. وبعد ان أفاق الحزب من صدمته بدأت الأصوات ترتفع لتنتقد لافونتين بشدة على أسلوبه هذا الذي لا ينسجم مع حجم المسؤوليات التي كان يتحملها وحجم الآمال التي كانت معقودة عليه المانياً واوروبياً من جانب التيار الاشتراكي اليساري. ولا ننسى هنا الحملة الكبيرة التي شنتها عليه جريدة "صن" البريطانية اليمينية قبل أشهر حيث كتبت على صورة ضخمة له نشرتها على الصفحة الأولى: "احذروا هذا الرجل الخطر على أوروبا". وما صرح به لافونتين بعد ثلاثة أيام من الصمت والتواري عن الأنظار في منزله الخاص لا يشبع فضول أحد رغم انه أشار الى أن الدافع كان "أسلوب العمل السيء داخل الفريق الحكومي" و"نقص التضامن" في ما بين الوزراء والطعن علناً بما يجري الاتفاق عليه داخل الحكومة. وبرر عدم اتصاله بقيادة الحزب لوضعها في الصورة بأنه لم يكن يرغب في وضع العصي لعرقلة عمل الحزب. والمرة الوحيدة التي ذكر فيها شرودر كانت عندما تمنى له ولحكومته النجاح مشيراً الى حقيقة ان مكان القلب ليس في البورصات وانما على اليسار. ونفى المستشار ان يكون على علم بدوافع لافونتين الذي يدين له بالكثير كما قال لتمكنه من توحيد كلمة الحزب وضمان النجاح في الانتخابات العامة الأخيرة مشيراً الى أنه حاول كثيراً الاتصال به هاتفياً في منزله دون جدوى. ولذلك فإن رفض لافونتين القاطع الحديث مع شرودر شخصياً أو مع أحد آخر من قيادة حزبه دليل على أن وراء خطوته الجذرية هذه التي أنهت حياته السياسية أبكر مما كان يحلم به اعداؤه السياسيون عملية احباط نفسي كبير وشعور ب "خيانة" شخصية له ليس فقط من المستشار وفريقه، وانما من قيادة حزبه التي لاحظ عليها على ما يبدو أنها لم تعد تقف وراءه كما من قبل. وكان من الواضح ان الاتجاه السياسي الذي يعمل له شرودر والهادف الى استقطاب الوسط في البلاد وعدم ازعاج رجال الاقتصاد يخالف اتجاه لافونتين اليساري القريب من مواقف النقابات العمالية. ويمكن تشبيه الخلافات بينهما على هذا الصعيد بالخلافات الموجودة بين مفهومي ليونيل جوسبان وطوني بلير للاشتراكية الديموقراطية. ولذلك ففي الوقت الذي صدمت فيه باريس من استقالة لافونتين عمت الفرحة لندن التي رأت في ذلك انتصاراً لوجهة نظر بلير الليبرالية التي يتبناها شرودر، خاصة وأنه من أنصار توسيع المحور الألماني - الفرنسي ليصبح محوراً ثلاثياً مع بريطانيا، الأمر الذي لا تنظر اليه فرنسا بعين الرضى. وعلى ما يبدو فإن قيادة الحزب وقفت في المعركة بين الرجلين القويين الى جانب شرودر باعتباره القطب الثابت وخذلت لافونتين الذي جوبه أيضاً بحملة قوية وعنيفة من جانب رجال الأعمال الألمان والأوروبيين والأميركيين. وانتقم هؤلاء منه بأن رفعوا أسعار أسهم البورصة بشكل قياسي في اليوم الذي تلا استقالته. وتتزايد الأصوات التي ترى الآن ان لافونتين ارتكب خطأ كبيراً منذ البداية عندما أصر على المشاركة في الحكومة وفي وزارة المال بالذات لضمان نهج يساري فيها، الأمر الذي أدى الى وجود رأسين في الحكومة بينما كان عليه البقاء رئيساً للحزب ومتابعة عمل الحكومة والمستشار عن بعد وبعين ناقدة كما فعل براندت مع المستشار السابق هلموت شميدت حيث كانت العلاقات بينهما ايضاً متشنجة. ولا شك ان المسؤولية ستتضاعف على شرودر الذي لن يستطيع بعد الآن التلطي خلف أحد. ولذلك يلهث الآن في جولته الأوروبية التي قام بها هذا الاسبوع في 14 دولة وراء هدف انجاح القمة الأوروبية في برلين نافياً ان تكون استقالة لافونتين ستؤثر سلباً عليها أو على عمل الحكومة. لكن استقالة المفوضية الأوروبية ورئيسها جاك سانتير بسبب تهم الفساد غير المتوقعة جاءت لتضغط على بون التي ترأس الاتحاد الأوروبي. ويرى المعلقون هنا ان المستشار أصبح الآن أكثر استعداداً لتقديم تنازلات في مختلف القضايا التي جرت خلافات حولها بسبب مطالب الاصلاحات المالية والزراعية والبنيوية التي قدمتها المانيا في "رزنامة 2000"، خصوصاً وأنه لمح الى ذلك في بدء جولته الأوروبية وحتى قبل استقالة المفوضية. ومن الخلافات الهامة داخل الاتحاد الأوروبي الموقف من تحديد موعد توسيع الاتحاد نحو شرق أوروبا وجنوبها وموعد ضم بولندا وتشيخيا وهنغاريا حيث ان بون ربطت هذه المسألة بإعادة توزيع الاشتراكات المالية للاعضاء بصورة أكثر عدلا وادخال اصلاحات هيكلية على بنية الاتحاد نفسه. وكانت الدول الثلاث، وهي عضو سابق في حلف "وارسو" السوفياتي الذي حل، قد انضمت رسمياً الى حلف شمال الأطلسي الاسبوع الماضي على الرغم من اعتراضات روسيا وتخوفاتها الأمنية. وخضعت جيوش الدول الثلاث منذ سنوات ولا تزال الى تدريبات وعمليات تحويل بنيوية لكي تصبح في مستوى الجيوش الأعضاء في الحلف. لكن مشكلة الانضمام موجودة بشكل اكبر واعمق على المستوى الاقتصادي والتكنولوجي، اذ ان الدول المذكورة لا تزال تعتبر "متخلفة" اقتصادياً ومالياً وعلمياً وبنيوياً وبحاجة الى عملية تأهيل طويلة الأمد. ورغم ذلك فإن دولاً عدة في الاتحاد مدعومة من واشنطن تريد ارسال اشارة سياسية ومعنوية مشجعة الى دول أوروبا الشرقية الطامحة الى الانضمام من خلال تحديد موعد محدد للانتساب الى الاتحاد الأوروبي. ولكن المانيا التي لا تعارض ذلك من حيث المبدأ تعرف ان التوسيع سيعني اضافة اعباء مالية ضخمة ستتحمل هي لوحدها ثلثها على أساس النسب المعتمدة داخل الاتحاد. وتبقى نقطة الخلاف هذه غير معروفة النتائج حتى الآن. أما موضوع الخلاف الآخر فيتمثل في رفض بون وباريس محاولات واشنطن الحثيثة لاقناع الناتو بتوسيع استراتيجيته الأمنية لتتجاوز حدود أوروبا والتدخل في مناطق اخرى من العالم، وهو أمر قد لا تعارضه لندن بسبب علاقاتها العسكرية الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة. إلا أن وزير الدفاع الالماني رودولف شاربينغ الذي زار واشنطن قبل أيام أكد هناك ان بلاده تعارض قيام نشاط عسكري للناتو في العالم، وان الحلف سيواصل تركيز عمله في المستقبل أيضاً داخل الفضاء الأوروبي - الأطلسي وعلى قاعدة ميثاق الأممالمتحدة. وفي كل الأحوال فإن القمة الأوروبية في برلين ستظهر ما إذا كانت الاصلاحات التي طرحتها المانيا وأدت الى خلافات مع أكثر من طرف هي أفكار لافونتين لوحده أم أفكار شرودر ايضاً، وما هو حجم التنازلات الذي سيسمح لنفسه به بعدما أصبح الآن ربان السفينة الوحيد.