جرت في الآونة الأخيرة أحداث دامية في منطقة القبائل الجزائرية ذهب ضحيتها عشرات من المواطنين، ونحن نعرف أنها لم تكن أحداثاً طارئة، بل ان لها جذوراً تعود إلى فترة غير قصيرة من الزمان، فالأقلية الكبرى التي ترى نفسها أمازيغية هي في الواقع فئة مختلفة عن بقية السكان الذين ينتمون إلى اصول عربية. ودعونا أولاً، وقبل الاسترسال في الحديث ننأى بأنفسنا عن التسليم لأي طرف بما يصر عليه، فالمرء لا يرى فائدة في التعليق على أدلة العرب على أنهم عرب، ولا في دلالات الأمازيغ على أنهم جنس مختلف، فالمسألة لا يحلها تكديس البراهين على عروبة العرب ولا تسخير التاريخ لإثبات عدم تميز الأمازيغ. إن في الجزائر كما في بلاد المغرب العربي الأخرى أقليات، تكثر أو تقل، ترى أنها أمازيغية وتعتقد أنها سلالة من سكان المنطقة الافريقية الشمالية قبل الفتح الإسلامي، وهو الحادث الذي أنجز التعريب. والحق أن لتلك الأقليات ما يميزها عن بقية السكان لغة وعادات ومشاعر انتماء، وأهم من كل ذلك أنها تعيش الاختلاف متمسكة بأنها ذات هوية تميزها عن باقي السكان، وقد يكون صحيحاً ان الاستعمار الفرنسي، خصوصاً في الجزائر، حاول تعميق الفواصل بين العرب والأمازيغ رغبة في كسب فئة من الشعب قد تجد في ما لدى الحكومة الأجنبية من المزايا ما يحفزها على محالفتها والتمسك بحكمها. لكن هذا الأمر لا يلغي حقيقة أن تلك الأقلية الأمازيغية هي فئة مختلفة عن بقية فئات الشعب الجزائري، كما هي مختلفة عن بقية فئات شعوب المغرب العربي الكبير. والمؤسف أن ما حدث من اضطراب واسالة الدم في الجزائر ليس إلا مثالاً على الأسلوب الموروث الذي يتعامل به معظم سلطاتنا مع قضايا الأقليات في مختلف أنحاء بلادنا العربية، ألا وهو الطمس والعداوة. فعلى رغم علم السلطات الجزائرية المتعاقبة بوجود مسألة الأمازيغية، إلا أنها تعاملت معها، كما تعوّدنا عربياً، بمحاولات الطمس التي تتطور عادة إلى التهميش ثم القهر. إننا نقرأ في أدبيات وسياسات الجزائر منذ استقلالها عن انكار للأمازيغية واستخدام للتاريخ لاثبات أن الأمازيغ عرب قادمون من الجزيرة، وان كان قدومهم قد حدث قبل الإسلام. ونحن تعودنا القراءة عن اتهام كل صوت أمازيغي يدعو إلى التميّز بالخيانة والعمالة للاستعمار، وكنا نلاحظ في الجملة موقفاً جزائرياً رسمياً وشعبياً ينكر على الأمازيغ أمازيغيتهم كامل الإنكار. ولا يستطيع المرء أن ينسب إلى الجزائر وحدها تبني هذا الأسلوب الساذج في التعامل مع مسألة الأقليات، فهو تقليد جرت الدول العربية على اتباعه منذ أن تواتر حصولها على الاستقلال خلال القرن الذي مضى. ففي العراق مثلاً يجري انكار التميز على الأكراد وفئات مختلفة أخرى، وينكر السودان على جنوبه حق التميز عرقاً أو ديانة، ولا تخلو الأحوال في سورية من شيء من هذا القبيل. إن عملية طمس الأقليات وإلغاء تميّزها عادة عربية متواصلة ولذلك تبقى مشاكلها خامدة تحت الرماد حتى تتاح لها الفرصة للاندلاع، إما لأسباب عربية أو استجابة لمصالح أجنبية تجد في استغلالها فرصة لتحقيق مصالحها، وما العلاج إلا في الاعتراف بواقع الأقليات أياً كانت عرقية أو دينية أو حتى سياسية فمثل ذلك الاعتراف هو الأقدر على حماية وحدة الوطن من محاولات الطمس والقهر وانقاذ الشعب من التفكك والانهيار. إن الأقليات واقع حيّ في معظم دول العالم، ونحن واجدون ان الدول الديموقراطية هي الأقدر على حل هذه المعضلة، ففيها لا يتم التعامل مع الأقلية بالطمس والقهر والانكار، بل يجري اخضاعها للدراسة والحوار مع الاستعداد للقبول بحلول وسط قد تقود حتى إلى نوع من الانفصال. إن على الدولة العصرية أن لا تحتمل بقاء فئة من مواطنيها في داخلها بالقوة، ولذلك عليها أن تقبل وإن بالانفصال عند استحالة أي شكل آخر من أشكال العلاج، ومن الأجدر بنا كعرب أن نعتمد سلوكاً حضارياً ازاء ما لدينا من اقليات، خصوصاً أن ليس منها من وصل بعد إلى حد المطالبة بالانفصال، ولعلّ السلوك الحضاري لا يتمثل في غير القبول بواقع تميز أية أقلية والإقرار لها بالقدر المعقول من الاستقلال ليس عن الوطن، وإنما عن طغيان الغالبية. أما محاولات إذابة الأقليات كما يفعل بعض العرب، فلن تؤدي إلا إلى مزيد من القهر والتفكك ولكم تبدو ساذجة محاولات التدليل على أن الأمازيغ والأكراد هم من أصول عربية، وان لغتهم ليست سوى لهجات عربية محورة، ولكم تبدو ظالمة الاتهامات التي توجه إلى كل من يرى في الأقلية مشكلة وطنية جديرة بالاعتراف بوجودها والعمل على معالجتها بعقل مفتوح وواقعية لا تنقصها الجرأة على ابتكار الحلول. إن السلوك السياسي الناضج والعصري مدعو إلى الكف عن التنقيب في حفر التاريخ وتضاريس الجغرافيا من أجل العثور على أدلة تساعد على طمس واقع قائم لفئة من الشعب، فماذا يفيد الجزائر مثلاً أن يثبت مفكروها، ومعهم عرب آخرون، ان الأمازيغ من أصول عربية، وأن لغتهم أو لغاتهم ليست إلا لهجات عربية تحورت عبر الزمان والمكان، وما الذي نجنيه عندما نسلم بكل ذلك ونحن أمام واقع حي معاش تشعر فيه أقلية من أعماقها بأنها مختلفة. إن المسألة ليست في الأصول أو المآلات وإنما هي في حقيقة وجود فئة من شعبك مختلفة ومتميزة عن الآخرين تميزاً ظاهراً تحس به وتكن له مشاعر هوية لها لون غير ألوان الآخرين، أو ليس من الأفضل التعامل مع هذا الواقع والإقرار للأقلية بالاختلاف ومساعدتها على تحقيق أية مطالبة مشروعة لا تضر بالدولة في جملتها، أو ليس القبول بالتعدد والتنوع في داخل الدولة مصدراً لإثراء الشعب وإنماء الهوية؟ إن النظر إلى شعوبنا بعين واحدة هو ما يجعلنا نرى مشاكلنا بحول شديد وهو ما يدفعنا إلى جانب موروثات ثقافية أخرى إلى أن نرى في الاختلاف والتنوّع عيباً يجب طمسه والخلاص منه بأي ثمن من الاثمان. إن علينا أن نتعود على القبول بالتعدد والاختلاف على رغم ان هذا الأمر لا يزال عسيراً، علينا بحكم ثقافتنا السياسية التي ترى في المختلف عدواً من الأعداء. وبالطبع فإن بلوغ درجة من النضج تؤهلنا بالقبول بحق الأقليات في التميز داخل الوطن أمر يحتاج إلى قدر من ديموقراطية القرار، إلا أن غيبة ذلك القدر يجب أن لا تبرر نشاط الطمس والقهر والاستبعاد. فلدى بعض حكامنا قدر من الحصافة يجب أن يلفت أنظارهم إلى أن القبول بتميز الأقلية والإقرار لها بالقدر الممكن من الاختلاف والسعي إلى حل مشاكلها الخاصة حين تكون لها مشكلات هو أفضل السياسات لانجاز التجانس والانسجام بين جميع السكان. أما محاولات الطمس والدمج والإلغاء، بل حتى التلفيق والتهميش، فلن تفعل أكثر من زيادة الاحتقان، وقد تؤدي في ظروف معينة إلى كارثة الانفصال. ترى ما الذي يضير شعباً أو حكومة عند الاعتراف للأقلية بأنها مختلفة، وما الذي يعيب وطناً يتمتع بتنوع الأديان والأجناس؟ إن المرء لا يملك إلا أن يشد على يد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لخروجه في خطابه الذي وجهه إلى الجزائريين عقب الأحداث الأمازيغية الأخيرة عن النص العربي المعتاد واعترافه بحق الأقلية في مطالب لها ودعوته إلى التحقيق في الأمر كله ومفارقته للاسلوب التقليدي الذي ألفناه من نفي لوجود الأقلية وانكار لأمازيغية الأمازيغ. إن علينا كعرب أن نحمد الله أن ليس بيننا من أقلية بلغت بها الحال حد المطالبة بالانفصال، فحتى في العراق، حيث يشتد الخلاف بين السلطة والأكراد، أو في السودان حيث تحتدم حرب بين الجنوب والشمال، لا تزال الأمور قابلة للعلاج ولا يزال بعض الحرص يمنع أولئك الذين يحاربون من المجاهرة بالرغبة في الانفصال. علينا أن نوسع صدورنا لأية أقلية أياً كانت، وأن نستمع إلى مطالبها ونساعدها على أن تبلغ منها ما لا يفتت وحدة الأوطان. كما علينا أن نعلّم انفسنا القبول بالمواطن المختلف والمواطن الذي يرى لنفسه هوية مختلفة، أما محاولات طمس الأقليات واذابتها فهي محاولات لا تجدي في تحقيق التجانس، بل انها عامل مساعد على تعميق الاختلافات وإشعال الشعور بالظلم والمهانة، فضلاً عن أنها تفقد الشعب مزايا التنوع الذي هو شرط من شروط الازدهار. لقد حان الوقت لكي نتوقف عن انكار وجود الأقلية وعن محاولات طمسها بالتنقيب في جذور التاريخ وعروقه. فلا أهمية، كما قلنا، لاثبات أن اصول أمازيغ الجزائر اصول عربية وان في لغتهم لمحات عربية العبرة بما يرونه هم في أنفسهم لا بما نراه نحن فيهم أو نزيفه عليهم. فأنت تصبح أمام أقلية واقعية حقيقية عندما ترى نفسك أمام فئة من شعبك ترى أنها كذلك ومن الخطأ استمرارك في معالجة المسألة بالطمس والتهميش، لأنك بذلك تذكي مشاعر الفرقة وترسخ معالم الهوية الفرعية المختلفة وتدفعها إلى الانقطاع عن الهوية الأم، وقد يصل الأمر إلى زرع بذور المطالبة بالانفصال. إن الاعتراف بالأقلية الواقعية حتى ولو كانت لك معها أصول مشتركة يجب أن لا يكون دافعاً إلى تجاهلها ولا إنكارها ولا محاربتها، بل يصح أن يكون حافزاً لدراسة مشاكلها وتلبية مطالبها المشروعة، فذلك ادعى إلى ضمها إلى شمل شعب يشاركها وتشاركه وما الضرر في أن يكون للشعب اعضاء لهم ما يميزهم ما داموا يشتركون جميعاً في جسد سليم. إن بعض العرب يحاول وبعضهم الآخر يتمنى أن يضع كل مواطن في قالب سابق الإعداد، فيخرج منه الجميع على لون واحد وحجم واحد متماثلين حتى في الملامح والمزاج ووجهات النظر، وهذه، وإن كانت محاولات أو أماني بالغة السذاجة مستحيلة التحقيق، إلا أنها من أهم أسباب المآسي الإنسانية التي تدور في بلاد عربية، ولعلها ستكون أهم أسباب ما ينكشف عنه المستقبل من كارثات. * كاتب ورئيس وزراء ليبيا سابقاً.