من أول سطر في مقال عبدالحميد البكوش "لماذا نستنكر ظاهرة الأقليات وحقوقها في العالم العربي؟" صفحة أفكار 15/10/1998 يصدم الكاتب القارئ إذ يجزم "ان الجزائر بعد ثلاثين عاماً من الاستقلال تقدم على إصدار قانون يفرض استعمال اللغة العربية دون غيرها في جميع المعاملات"، وهذا كلام خاطئ في اساسه لان للجزائر سوابق كثيرة في عملية التعريب شملت العديد من مجالات الحياة الادارية والاقتصادية والثقافية والعلمية. وتبعاً للخطأ السابق فإن البكوش يواصل تحليله مرتكباً خطأ آخر أكثر خطورة، إذ يقر أن البربر في الجزائر يمثلون اقلية بين السكان، ولو أن كلامه اقتصر على البربر المعروفين في الجزائر باسم "القبائل" لكان كلامه صائباً من جهة واحدة هي كونهم يمثلون جماعة داخل المجتمع ككل، أما وانه يقر بامتدادهم الذي يصل الى تونس والمغرب وليبيا، فهو بذلك ينفي ضمنياً ان مجموعهم اقلية، بل هم يشكلون الاغلبية وإن اختلفوا في لهجاتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ويبدو انه ينطلق من تلك المقدمة ليصل الى نتيجة جاءت في الجزء ما قبل الاخير من مقاله هو ان الحكومات في الوطن العربي وبالذات في الجزائر تخطط لإذابة الاقلية في الاغلبية، مضيفاً - وهو يقصد البربر تحديداً - ان تلك الحكومات تبحث عن نظريات وهمية كتلك التي تعيد اصل البربر الى قحطان اليمن، ولا ادري على اي نظريات يتحدث عبدالحميد البكوش؟ فحقائق التاريخ - ومن كتب عربية وغير عربية - اثبتت ان اصولهم من اليمن بالفعل، ولا اعتقد ان هذا مهم كثيراً في الوقت الراهن. على ان هناك اختلاطاً يتعذر معه الفرز بين من هو عربي، ومن هو غير ذلك، لكن اذا اخذنا المسألة من جانب آخر، وهو البعد الانتروبولوجي، بما في ذلك تقسيمات المجتمع الجزائري في الوقت الراهن فإن البربر هم الاغلبية، وهم أيضاً الذين يدافعون عن عروبة الجزائر واسلامها. من ناحية اخرى فان تركيز الكاتب على مسألة الاقليات في الجزائر والسودان، والتحدث عنها على استحياء في دول اخرى يجافي الحقيقة، أولاً: لكون الجزائر يشكل فيها البربر الاغلبية، وإن ارادوا ان يكونوا مجرد اقلية، طبقاً لمصالح سياسية ضيقة اثبتت ان هناك خلافا داخل الاغلبية حول النظرة الى ثوابت الدولة، وثانياً: ان ذكره السودان كدولة انشأها الاستعمار البريطاني، يتجاوز ان معظم الدول العربية انشئت طبقاً لحدود وضعها الاستعمار، ما يعني ان المسألة في السودان لا تتعلق بمصالح الاقليات فقط وإنما بصراع دولي في افريقيا يتخذ اوجهاً متعددة من بينها الصراع من اجل المياه، وثالثاً: اننا نلمح في مقاله غض البصر عن مشاكل تعانيها الاقليات في مناطق اخرى من الوطن العربي اكثر من الجزائر والسودان. لا شك ان هناك خلطاً واضحاً بين النموذجين الجزائري والسوداني، حتى لو سلمنا جدلاً بمشكلة الاقليات التي هي بالنسبة الى الجزائر قائمة في ذهن عبدالحميد البكوش، فالجزائر في بداية ازمتها لم تكن تعاني من مشكلة الاقليات، وإنما واجهت ازمة سياسية طغت فيها مسألة الاقلية بدافع خارجي، كظاهرة تختفي وراءها المطامع السياسية وضعف الدولة من جهة، وللانقسامات السياسية من جهة ثانية، والصراعات بين المثقفين من هذا التيار او ذاك بلغ فيها العجز ذروته، فوظفت فيها قضايا الثقافة واللغة لمصلحة الفعل السياسي، والتي غالباً ما انتهت الى التلقائية في الدفاع عن وحدة الوطن، اما في السودان فقد يكون الامر يتعلق بقضية اقليات ادت الى ازمة سياسية. يبدو ان البكوش لا يدرك خطورة طرح الفكرة المتعلقة بوجود اقليات في الوطن العربي، ذلك لأن الطوفان إذا عم فهو جارف لا محالة، ولن ينجو عند ذلك الذين يتوارون وراء حقوق الانسان، ولا الذين يدفعهم الطموح السياسي الى تحقيق ذلك الطموح من خلال الانقسام داخل المجتمع، فخطورة الامر تتجلى في ان تلك الحقوق ستتحول الى مطالب تتعلق بالحكم الذاتي اولا ثم اقامة دويلات والانفصال، وبالطبع فان البكوش لا يمانع في ذلك عبر اشاراته الايحائية والظاهرة، وبذلك يمكن ان تتحول الدولة القطرية الى مجرد جماعات متنافسة، ولا يمكن عندها اللجوء الى اي مبررات لبقاء الوحدة، بما في ذلك في ظل الدين الاسلامي، ما دام هذا الاخير قد يوظف بين الحين والآخر لخلق نوع من النزاعات الداخلية، حتى ان البكوش نفسه يرى ان الدين الاسلامي دعا الى معالجة امر الاقلية بقدر من التسامح والمواساة، وهو ما لا يمكن نفيه، لكن عليه الا ينسى او يتناسى ان مفهوم الامة الواحدة يقتضي بالضرورة التنوع شريطة ان تظل الاقلية مدمجة في كيان تلك الامة، وبالتالي استجابتها اللامشروطة للثقافة العامة للمجتمع التي هي أصلاً ثقافة الاغلبية. ان قضية اللغة الآمازيغية مفتعلة في الوقت الراهن ويحركها بعض الاطراف الداخلية والخارجية لتحقيق اهداف سياسية بحتة، ومسألة التشكيك في اصول البربر هي دعوة غربية، بل فكرة غربية ايضاً، لذا فإن اغلبية البربر هم الذين يتحكمون في كل مقاليد الجزائر، والعرب هناك - بمقاييس الكاتب البكوش - هم الاقلية، لكن دفاع القيادات الفاعلة من البربر "الشاوية" الاباضية - الطوارق، عن عروبة الجزائر يدحض مقولات الكاتب البكوش، وأعتقد ان الجزائر ترى في عروبتها ثابتاً من الثوابت الاساسية للدولة، للحفاظ على كيانها سليماً من اي تمزق، وليس في مقدور البكوش ان يحل بديلاً عن اغلبية البربر الذين اختاروا هذا الطريق. من ناحية اخرى فإن التجربة التي خاضتها الجزائر بعد أحداث اكتوبر وولوجها في التجربة الديموقراطية من دون التحضير لها مسبقاً، كلفها الكثير من الخسائر والازمات التي تتطلب مجهوداً جبارآً لإزالة آثارها، ورفع فكرة حقوق الاقليات في هذا الاطار يُعد - في نظري - دعوة لانسلاخ فئة من الناس وجزء من الارض يؤدي الى استمرارية الازمة ودخول البلاد في دوامة لا يمكن الخروج منها ابداً، وما ينطبق في هذه الحال على الجزائر ينطبق على غيرها من الدول العربية الاخرى، وأظن ان البكوش في دعوته لحقوق الاقلية لا يقبل بتفكك الدولة القطرية ما دام لا يدخر جهداً، كما رأينا في مقاله - في الدفاع عن حقوق الاقليات والافراد. تبقى نقطة اخيرة، انه في الجزائر - وتنقصني هنا المعلومات عن الدول الاخرى - لا توجد اقلية بالمعنى الذي تعنيه كلمة اقلية، ذلك لان حق المواطنة مكفول للجميع، والانتماء للجهة اكثر من الانتماء الى القبيلة، وحتى هذه غير مسجلة في بطاقات التعريف الوطنية، ولا يمكن لاحد ان يميز القبائلي، او الشاوي او الصحراوي او غيرهم، الا اذا تحدث لهجة منطقته، إذ ان التميز والمساواة التي ينفيهما البكوش عن الاقليات، ويذكر الجزائر مثالاً لذلك، لا وجود لهما على ارض الواقع، والانتماء للجهة ظاهرة يعيشها كل الجزائريين وليست مجرد تجربة قد تنجح او تفشل ولذلك لا يمكن القياس عليها. ليس هناك إذن استنكار لحقوق الاقليات، وإنما هناك توظيف - وفي اطار انفتاح المجتمعات العربية على العالم - لتلك الاقليات حقاً او باطلاً علماً او جهلا، لتحقيق النموذج الذي يريده العالم لدول هي في الاصل مزعزعة وعديمة الاستقرار. والخوف - وبدعم دولي - ان تتحول تلك الاقليات الى خطر يؤدي الى ابتلاع الاكثرية، والى تفكك الدولة القطرية، وليس كما يرى الكاتب البكوش الى اضطهاد للاقلية وتسليم الامر لطغاة العسكريين، او تعميم للقهر، وانما كما ذكرت الخوف مما هو أكبر. قد لا تكون مبررات هذا الخوف مقبولة لدى البكوش ولدى غيره من الكتاب والباحثين، لكن القبول او الرفض بالنسبة الينا جميعاً لا يحدد مسار الحركة، بقدر ما تحددها تلك القيم التي تراكمت في علاقاتنا ببعضنا بعضاً افراداً وجماعات وشعوباً ودولاً، وعلينا البحث في تطويرها بدءاً من الفرد وليس قفزاً الى حقوق الجماعة، والتي هي في الاصل حقوق للآخر عندنا، وأحسب ان اتخاذ الجزائر كمقياس او مختبر تجارب او كموضوع للكتابة، او كاستنجاد للتنظير، او كحلم بما يمكن تحقيقه، لا يفيدها كما لا يفيد الأمة خصوصاً عندما تكون الرؤية من الخارج لكتّاب ومفكرين لا يعرفون اصول المجتمع الجزائري، ومن هي الاغلبية والاقلية فيه، بقدر عدم ادراكهم فحوى دعواهم، ولا غرو في ذلك لأن المقدمات الخاطئة تؤدي الى نتائج خاطئة. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر.