كانت المملكة المتحدة، كأمة، تشعر بالتعب والضجر من حملة الانتخابات العامة حتى بدأ الجمهور يلعب دوراً لم يُرسم سلفاً في الاحداث التي يبذل السياسيون كل ما بوسعهم للتحكم بها. ولم يكن يوم 16 أيار مايو يوماً جيداً لسياسيي حزب العمال الذين يأملون في ان يُعاد انتخابهم. فقد وجّه جون برسكوت نائب رئىس الوزراء لكمة الى أحد المتظاهرين في الشارع امام كاميرات التلفزيون. واُجبر رئيس الوزراء طوني بلير على ان ينصت، مرة اخرى امام كاميرات التلفزيون، لامرأة غاضبة كانت تشكو بحق من حال نظام الرعاية الصحية. وتعرض وزير الداخلية، وهو الوزير المسؤول عن الشرطة في بريطانيا، الى اسئلة محرجة وجهها اليه جمهور مستمعين من رجال شرطة كانوا يشكون من طريقة تعامل الحكومة مع قضايا القانون والنظام. هكذا، بشكل مفاجيء، يبدو ان انتخابات باهتة نوعاً ما اصبحت اكثر إثارة للاهتمام، لا بسبب القضايا ذاتها بل بسبب الطريقة التي اُثيرت بها. وكان بلير أكد العام الماضي بانه يريد اجراء انتخابات عامة في ايار 2001. والقرار بشأن موعد اجراء الانتخابات هو كلياً في أيدي رئىس الوزراء. وفاز حزب العمال في الانتخابات الاخيرة في ايار 1997، ويمكنه بموجب النظام السياسي في المملكة المتحدة ان يبقى في الحكم لمدة خمس سنوات. وكان بامكان بلير ان يؤجل الانتخابات الى ايار 2002. لكن من الواضح ان أي حكومة ترغب في تجديد ولايتها والحصول على خمس سنوات اضافية اذا بدا انها تحظى بشعبية. وبغض النظر عن حقيقة اداء الحكومة فما يزال حزب العمال وطوني بلير يتمتعان بشعبية، وكشفت نتائج استطلاعات الرأي لرئىس الوزراء انه سيفوز بسهولة اذا اجريت الانتخابات في مطلع الصيف. ويتطور علم الانتخابات والتنبؤ بنتائجها باستمرار. وتتزايد اكثر فاكثر اهمية استطلاعات الرأي التي لا تمد وسائل الاعلام بتوقعات لنتائج الانتخابات فحسب بل تستخدمها الاحزاب السياسية ايضاً لقياس مدى تجاوب الجمهور مع ما تصرح به والسياسات التي تتبناها. ويلجأ حزب العمال وحزب المحافظين وبعض الاحزاب السياسية الاخرى الى استخدام جماعات تمثيلية. والجماعة التمثيلية هي مجموعة صغيرة من الاشخاص الذين يعتبر انهم يمثلون المجتمع ككل. ويُطلب من الجماعة ان تبدي رأيها وردها على اقتراحات متنوعة تريد الاحزاب السياسية ان تختبرها قبل التصريح بها علناً. ويبدو ان اهتمام الاحزاب السياسية بمبادئ السياسات التي تسعى الى طرحها اقل من اهتمامها بالطريقة التي يمكن ان تسوّق بها هذه السياسات وتحوّرها لتلائم رغبات الناس. كان يتوقع اجراء الانتخابات في 3 ايار الجاري. لكنها أوجّلت بسبب تفشي مرض الحمى القلاعية الذي ادى الى عمليات ذبح جماعي للابقار والاغنام في المملكة المتحدة. ثم اعلنت الحكومة انها نجحت في السيطرة على المرض في وقت مناسب يسمح باجراء الانتخابات في 7 حزيران يونيو على رغم ان هذا الرأى لا يحظى بقبول كل المزارعين. وإحدى المشاكل التي واجهها السياسيون والسكان في بريطانيا نتيجة تأخير الانتخابات هي ان ذلك ادى الى نشوء فراغ سياسي. فقد افترضت كل الاحزاب السياسية انها ستتحرك بجد في آذار مارس ونيسان ابريل ومطلع ايار استعداداً للانتخابات، وفجأةً وجدت انها لا تملك ما تصرح به او تعلنه لمدة شهر. ولم تتمكن من سد هذه الفجوة الاّ بمجادلة بعضها بعضاً والتباري بتسجيل النقاط سياسياً، وهو ما اشاع السأم والضجر وسط الغالبية الساحقة من السكان. ويتوقع الاّ تزيد نسبة المشاركة في الانتخابات في 7 حزيران المقبل عن 66 في المئة من الناخبين بسبب حال الضجر هذه وعدم الاكتراث. ومن بين القضايا الأخرى التي تُفاقم اللامبالاة حقيقة ان الانتخابات الاميركية التي امتدت لفترة طويلة لم تنته الاّ قبل وقت قصير. ولا تبدي الغالبية العظمى من البريطانيين اهتماماً بالانتخابات الرئاسية الاميركية وهو موقف خاطيء لان هوية الرئيس الاميركي تحدد، حسب ما يبدو، السياسة الخارجية للمملكة المتحدة. لكن الفوضى والشكوك التي احاطت بانتخاب الرئيس بوش لا تشجع احداً يعيش في بلد ديموقراطي على احترام النظام الانتخابي. ويكتسب اسلوب الانتخابات في المملكة المتحدة نمطاً رئاسياً على نحو متزايد. فقد كان عضو البرلمان في الماضي يُنتخب من قبل سكان منطقة معينة بالاستناد الى شخصيته وما قدمه من عمل جيد لمنطقته. وكان يتوجه الى لندن كي يعكس وجهات نظر السكان المحليين. لكن اعضاء البرلمان اصبحوا الآن يخضعون لسيطرة قادة حزبهم الذين يملون عليهم ما ينبغي قوله بدلاً من الناخبين في بلداتهم. ويصوت الناس تبعاً للحزب السياسي الذي يدعمونه بدلاً من مراعاة شخصية عضو البرلمان او سجاياه الفردية. وواضح ان الكثير من النواب يملكون شخصية جذابة ويستطيعون ان يشجعوا الناس على ان يصوتوا لهم ولحزبهم بسبب مكانتهم في المنطقة. لكن مع تزايد دور التلفزيون باعتباره الوسيلة الاكثر اهمية للدعاية الانتخابية السياسية، اصبحت الحملات الانتخابية تُدار على المستوى الوطني بدلاً من المستوى المحلي. واتهم كثيرون طوني بلير وحكومته العمالية بالسعي الى التحكم المفرط بوسائل الاعلام واجندة الاخبار. وحقق حزب العمال نجاحاً كبيراً في استخدام درايته بالعلاقات العامة والطريقة التي تعمل بها الصحافة للتحكم بالاجندة السياسية. وستسعى كل الاحزاب السياسية خلال الفترة المتبقية قبل الانتخابات الى السيطرة على اجندة الاخبار. فهي تريد ان تكون القضايا التي تشعر فيها بمتانة موقعها هي القضايا التي تتناولها نشرات الاخبار التلفزيونية والصحف. لكن هذا كله ارتد على حزب العمال الاربعاء الماضي 16/5 عندما بدأ بضعة افراد من الجمهور يتحكمون بالاجندة، وكانت الصور التلفزيونية التي بُثّت اكثر واقعية بكثير مما يريد السياسيون. ويواجه بلير مهمة صعبة. فقد انتخب قبل اربع سنوات بعد 18 سنة من حكم المحافظين واطلق وعوداً كثيرة. وتُعد اربع سنوات فترة قصيرة ولا يمكن ان تحقق خلالها تغييرات كبيرة في البنية التحتية. لكن تركيز الاهتمام على طريقة العرض والعلاقات العامة يعطي الانطباع بان الحكومة مهتمة بما تقوله وبالانطباع الذي تعطيه اكثر من اهتمامها بما تقوم به فعلاً. ومن بين الامثلة على ذلك القرار الذي حظي بتغطية اعلامية واسعة بزيادة الاستثمار في تحسين نظافة مستشفياتنا، اذ كان قراراً جيداً ولقي ترحيب الجميع. لكن التعليمات غير المعلنة التي أصدرتها الحكومة بهذا الشأن اوضحت انه يجب انفاق الاموال على تنظيف المناطق المفتوحة للجمهور العام. وعلّقت الممرضات على ذلك بقولهن ان الاهم هو ان تكون غرف العمليات الجراحية نظيفة وليس المناطق المخصصة للاستقبال. وينبغي ان تكون كلا المنطقتين نظيفة، لكن الانطباع هو ان الحكومة كانت تريد ان تبدو المستشفيات في وضع جيد ظاهرياً وانها لم تكن مهتمة بشأن الأوضاع وراء الستار. كما ينبغي ان نتذكر ان رئىس الوزراء ووزير المال غوردن براون تعاملا مع الاقتصاد بصورة جيدة. وعلى رغم ان الحظ حالفهما فانهما اظهرا ايضاً حصافةً وحذراً. ما هي الاحزاب السياسية التي تخوض هذه الانتخابات؟ حزب العمال: طرأ على الحزب تحول جذري، الى درجة تغيير اسمه من حزب العمال الى "العمال الجديد". ويحاول طوني بلير، كرئيس وزراء وزعيم لحزب العمال، ان يملي سياساته، ولو انه يتعرض الى ضغوط من الاعضاء الاقدم في الحزب الذين يتذكرون ايام كان حزباً اشتراكياً يسارياً يناصر حقوق الطبقة العاملة ومصالحها في مواجهة المصالح الاخرى. لكن عدد الاشتراكيين القدامى في الحزب يتضاءل باستمرار. كما يتعين على بلير، مثل أي زعيم سياسي، ان يضمن الاحتفاظ بالسيطرة ويحمي موقعه الشخصي داخل الحزب على امتداد الحملة الانتخابية. ويتمتع غوردن براون وزير المال بتأييد كبير في الحزب، وليس سراً انه يأمل في ان يصبح يوماً ما رئيساً للوزراء. بل كان هناك حديث عن صفقة بين بلير وبراون ترجع الى الفترة التي انتخب فيها بلير زعيماً للحزب. ويتكهن بعضهم بأن طوني بلير سيستقيل كزعيم ورئيس وزراء كي يستطيع غوردن براون ان يصبح رئيساً للوزراء لبعض الوقت قبل الانتخابات التالية في 2006. حزب المحافظين: يتزعمه ويليام هيغ. وكان خلف جون ميجور اثر هزيمة المحافظين الكارثية في ايار 1997. ويقف المحافظون على اليمين على رغم انهم يسعون ايضاً الى اجتذاب "اصوات الوسط"، وهو ما تنبّههم اليه جماعاتهم التمثيلية. ويجعل هذا الوضع من الصعب جداً على الناخب ان يقرر ما اذا كان سيصوّت للمحافظين او العمال لأن سياساتهما في الواقع متشابهة. فكلاهما يحاول ان يحتل "الموقع الوسط" بين اليسار واليمين في الطيف السياسي. ويتصف هيغ بالذكاء، لكنه لا يملك جاذبية الشخصية مثل بلير. ويتفق معظم المعلقين على أنه من الصعب تخيل وضع يكون فيه رئىس الوزراء المقبل. الديموقراطيون الأحرار: هذا حزب سياسي صغير ذو تاريخ عريق. لكنه لم يصل الى السلطة منذ عقود. ويتزعمه تشارلز كنيدي الذي يتعين عليه ان ينتزع موقعاً سياسياً للديموقراطيين الاحرار من كعكة سياسية صغيرة جداً. وفي حين يحاول حزبا العمال والمحافظين ان يضمنا وجودهما في مركز الطيف السياسي ضمن مساعيهما إلى اجتذاب أكبر عدد من الناخبين، يحاول الديموقراطيون الاحرار ايضاً ان يفعلوا الشيء ذاته. وهناك عدد كبير من الاحزاب السياسية الاخرى التي يوجد لديها مرشحون يأملون في الفوز بمقعد في مجلس العموم. ومن بينها حزب "استقلال المملكة المتحدة" الذي يدعو الى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الاوروبي. ومن المستبعد ان يفوز هذا الحزب بأية مقاعد في مجلس العموم، لكن لديه 400 مرشح يحاولون ان يصبحوا اعضاء برلمان، وقد فازوا بمقاعد في البرلمان الاوروبي في السابق. كما توجد أحزاب تؤيد مصالح اسكوتلندية وويلزية. الحملة الانتخابية لقد بدأت الحملة الانتخابية. وكان الحزبان الرئىسيان، المحافظون وحزب العمال، استعدا لها بحجز فضاء الاعلانات واصدرا دعايتهما الانتخابية. وهما يعملان الآن بجد، وينظمان مؤتمرات صحافية يومية، ويحاولان كل صباح ان يحددا اجندة النقاش السياسي لذلك اليوم. وينهمر على الناخبين سيل من التصريحات والبلاغات الصحافية والمقابلات. وكلما تعرض الجمهور البريطاني الى المزيد من هذا السيل الانتخابي كلما تزايد احتمال ان يصاب بالضجر ويفتر حماسه للمشاركة في التصويت. لكن أية حملة انتخابية ستصبح اكثر إثارة عندما تحل مكان الاجتماعات الجماهيرية المهيأة سلفاً، التي يخاطب فيها السياسي مؤيديه، مناقشات وحوارات مع اشخاص لا يخشون توجيه الانتقادات. والاحداث التي شهدتها الايام القليلة الماضية وادراك ان السياسيين اشخاص عاديون يردون عندما يُضايقون بالاكثار من الاسئلة، ويوجهون لكمة عندما تُرمى عليهم بيضة، ويُضطرون الى الانصات الى نواقصهم، كل ذلك جعل الحملة اكثر اثارة للاهتمام، وقد يعني ان بضعة اشخاص آخرين ربما كلفوا انفسهم عناء التصويت في 7 حزيران المقبل. سأعد تقارير موجزة عن الحملات الانتخابية التي تنظمها الاحزاب في اطار القضايا التي ستكون موضع اهتمام قراء "الحياة" خلال الاسابيع الثلاثة المقبلة. وستعطي هذه التقارير لقطة عن القضايا التي يبدو انها موضع اهتمام بالنسبة الى الشعب البريطاني، وهي بالتالي القضايا التي يجب ان يتناولها السياسيون. وللأسف نادراً ما تكون السياسة الخارجية قضية سياسية كبيرة. لكن عندما وصل حزب العمال الى السلطة قبل اربع سنوات، اعلن وزير الخارجية الجديد روبن كوك ان الحزب "سيتبع سياسة خارجية اخلاقية". ولم يكن هذا التصريح "عرضة للاهواء" فحسب، لانه يكاد يكون من المستحيل لأي بلد ان يتبع سياسة خارجية اخلاقية كلياً، بل تبين انه تصريح محرج للغاية. فالمعايير المزدوجة في السياسة الخارجية الاميركية ازاء الشرق الاوسط التي تؤدي الى معايير مزدوجة في السياسة الخارجية للمملكة المتحدة هي ابعد ما تكون عن كونها اخلاقية، وهو أمر يبدو للأسف ان معظم الصحافة البريطانية تناسته. ويبقى ان نرى ما اذا كانت هذه القضايا ستناقش اطلاقاً في الانتخابات. * محام في لندن يعلق على الحملة الانتخابية في المملكة المتحدة.