ليس للاستبداد سمة عقائدية، فهو تسلط من دون لون دأبه التوسع الى ان يصطدم بعائق. وأسلم ما يعوقه ثوابت حضارية متجذرة في المجتمع من أعلى مستويات سراته الى أبسط أبنائه. أما في غياب مثل ذلك الاجماع الراقي تتحمل النخبة السياسية والفكرية المسؤولية الأعظم في مواجهة الظلم الناتج من طبائع الاستبداد. وأخطر ما يُصاب به المجتمع السياسي ان تكون النخبة متخاذلة، أو خنوعة، أو وصولية في الدرجة الأولى، أو واقعة تحت تصور خاطئ بأن بعض السياسات التعسفية محصورة وعقلانية، وترد من باب الردع والتأديب فقط. ولعل ما شاهدناه في العشرين سنة الأخيرة على الساحة المصرية يعاني من المخاطر المذكورة جمعاء، وخصوصاً منها الاعتقاد الشائع ان سياسة الرئيس حسني مبارك رشيدة في انتهاجها مسالك العنف الرسمي. ذلك انها وجهت ضرباتها القاسية الى الخطرين من أصحاب العنف الإسلامي، ومَن وقف وراءهم علناً أو في الخفاء. وقد تقبّل كُثُر من المفكرين المصريين الدعوى الرسمية بأن الإخوان المسلمين هم في عداد المساندين للعنف في الخفاء، ما استوجب ملاحقتهم وضربهم حيثما اتفق ذلك مع رأي الأجهزة الأمنية. وقد اتفق فعلاً ذلك في حالات كثيرة جعلت تحرك الاخوان السياسي والفكري في شلل مستديم. ولم يخف على السراة عامة ان سياسة الحكومة تلك تعسفية ظالمة، الا ان كثيرين منهم كانوا يشاركون وجهة النظر الرسمية في ان الاخوان يضمرون غير ما يصرحون به، وهم لا يؤتمنون على المصلحة العامة. ولا تزال هذه الأطروحة موضع تجاذب وأخذ ورد بين المثقفين المصريين حتى يومنا هذا. والحق يقال ان الحكم على الناس بالنوايا المزعومة لا يجوز في معظم الحضارات، وبصورة خاصة في العقيدة الإسلامية. من الذين وقفوا حيارى أو في موقف تردد من هذه الأطروحة سعد الدين ابراهيم، الأستاذ الجامعي المصري والناشط السياسي الذي يعاني منذ أشهر من وقيعة بلهاء مع الحكومة المصرية. على رغم موقفه المحايد لسياسة الحكومة المخالفة لحقوق الإنسان تجاه الإخوان فإن ابراهيم تميّز عن غيره من المثقفين بأنه لم يدن الإخوان شخصياً. كما انه تميّز عن الموقف الرسمي بأن اختط طريقاً، من وحي فكر رجل علم الاجتماع، وجهتها العمل على استئصال أصول العنف. فهو الرجل الذي آمن بمعالجة المندفعين في طريق العنف من الإسلاميين بواسطة تفهم أوضاعهم الاجتماعية البائسة، والعمل على تسويتها. ومن وسائل التسوية التي اتبعها انه حاول ان يوفر، بقدر طاقته، للفرد منهم، وبواسطة الامكانات المتوافرة لمركز ابن خلدون، أسباب العمل المستقل، مثل تقديم للواحد منهم سلفة أو منحة صغيرة تمكنه من انشاء عمل ما. وكانت الحكومة المصرية، كما ظهر لي، راضية عن تلك المبادرة ان لم نقل مشجعة لها. فسعد الدين ابراهيم رائد في الدعوة الى "تجسير" الهوة بين المثقف العربي وانظمة الحكم التي قد تكون سلطوية الطابع والتعبير من ابتكار ابراهيم نفسه. كيف لنا ان نفهم الآن ما حلّ بصاحب سياسة التعاون البنّاء بين رجال الفكر والسلطان حتى أصبح هدف أسهم الحكومة السامة؟ وهل هذه هي النتيجة التي على المثقف العربي ان يتوقعها من اتباع فلسفة ابراهيم القائلة بالتعامل مع الحكومات القائمة بغض النظر عن سماتها؟ فسعد الدين ابراهيم رجل مميز بكل معنى الكلمة. فهو من تلك النخبة الثمينة القليلة العدد العاملة بموجب ما تقول، وتعاون مع عهد الرئيس مبارك حتى ان كانت له لقاءات مع الرئيس، واستشارات مع حكوماته السابقة. على رغم ذلك لم تكن علاقته مع الحكومات المتتالية في عهد الرئيس مبارك جميعها وئاماً وسلاماً. فهو تحدى تلك الحكومات عندما شاءت ان تمنع مركز ابن خلدون، في التسعينات، من عقد مؤتمر علمي حول الأقليات في العالم العربي، ايماناً منه بأن المشروع، وان كان يثير حساسية عند البعض، هو أمر لا غبار عليه من أية ناحية، بل يندرج بحثه ضمن المصلحة العربية عموماً والمصرية خصوصاً. الا ان المواجهة تلك مع الحكومة كان سبقها، ان لم نقل كان سببها أفرقاء من المثقفين المصريين أنفسهم، حرضوا الحكومة على القيام بالتصدي لمشروع المؤتمر المذكور، أو احرجوها. والمؤسف ان تحريض المثقفين المصريين للحكومة، على بعضهم بعضاً، لم يقتصر على تلك الحادثة وحدها. وهنا يقف سعد الدين ابراهيم مرة أخرى وجهاً لوجه أمام حقيقة مرة وهي ان المجتمع المدني الذي طالما نظر اليه بعين الرجاء والأمل، على ان يكون شفيع الديموقراطية عند الأنظمة الحاكمة،. ليس هو بالشفيع المرجو، ولا هو حل معافى لقضايا الحكم السليم في هذه الربوع أو غيرها. ففي احوال كثيرة يتخلف المجتمع المدني عن السلطان في سنّ سياسات تقدمية. وهذه مشكلة مقلقة لمن يسعون منا، عن ايمان في تحقيق الديموقراطية، وهو أمر في حاجة الى العلاج، ولو ان هذه العجالة ليست المجال المناسب للغرض. سؤالنا إذاً هو: ماذا تعني، بعد كل هذه الاخفاقات، أطروحة "تجسير" الهوة بين المثقف والحكومة؟ وما العمل عندما تختلف رؤيا الفريق الواحد عن رؤيا الفريق الآخر؟ يبدو من تجربة ابراهيم الثرية ان حيّز الخلاف المسموح به ضيق، ويقتصر على هوامش القضايا فإذا أصر المثقف على موقفه كان مصيره الاضطهاد والمعاناة القاسية. وقد مرّ سعد الدين فعلاً بتجربة سابقة من هذا النوع وان لم تكن معروفة بين الكثيرين. كان سعد الدين ابراهيم في مطلع حياته من قادة الطلبة، وناصرياً متحمساً. وكعادته كان يؤمن أيضاً بحرية الرأي، وكرامة الفرد، وسرعان ما اصطدم في الرأي مع الرئيس عبدالناصر الذي عاقبه بحرمانه من العودة الى مصر، بعد تخرجه من الجامعة في الولاياتالمتحدة الأميركية. وعلى رغم ذلك الاضطهاد الأليم من ذوي القربى ظلّ ابراهيم ناصري الاتجاه لأمد طويل، ولربما الى يومنا هذا. هل يعني كل هذا اننا، هنا، في معرض تخطئة أفكار سعد الدين ابراهيم في العمل السياسي وبعض تصوراته الأساسية لنهضة المجتمعات العربية؟ التخطئة نهج يعقد الأمور ولا يحلها. الخيارات التي نصطفيها انما هي، في معظم الأحيان، تقديرية وتفضيلية، ويجب الا يُنظر اليها وكأنها قواعد مطلقة. فلو نحن نظرنا الى الخيارات التي اصطفاها سعد الدين ابراهيم، وحكمنا عليها بمقاييس الصواب والخطأ بصورة مطلقة، لكنا نحاسبه من دون وجه حق. ان نهج "تجسير" الهوة بين الحاكم والمثقف نهج اشكالي، بما يعني انه ليس حلاً سحرياً يكفي ان نقترحه فيستجيب سائر الأنام ويعملون بموجبه. علينا ان نفهمه على انه خيار واعد ان رافقه تأييد وتعاضد نضالي. والأمر ذاته يصح في موقفه من نصرة المجتمع المدني. الإشكال يعني ان من شأن الخيار المقترح ان يؤدي الى النتيجة المرجوة كما يؤدي الى خلاف تلك النتيجة، وذلك وقف على فاعلية النشاط المبذول من أجله. والامكانات المفتوحة بين بدائل الخيار السياسي في شكل تعارضي تشير الى ما فيه من طاقة نضالية. اي ان تحقيق الغرض المطلوب لا يتم من دون جهد وصراع مع الغير. وبالمنطق ذاته نجد ان النهج المضاد لفكرة تجسير الفجوة هو بدوره إشكالي. اي ان النهج القائل بمقاومة الأنظمة الحاكمة، واستبدالها بأنظمة تتفق مع اتجاهاتنا الفكرية والعقائدية من شأنه كذلك ان يؤدي الى ما نقصده أو الى خلاف ذلك. إذاً نحن أمام اشكالية نضالية تماماً، كما نكون عندما نأخذ بالنهج الذي اقترحه سعد الدين ابراهيم. لقد اختار سعد الدين طريقه، وناضل من أجل نصرتها ولا يزال. أما المعاناة التي مر بها، ولا يزال، فهي الأمر الأساسي الذي يجب ان يعنينا نحن المثقفون العرب الواقفون على الرصيف نرصد ما يصيب واحداً منا. القضية لا تقتصر على صفة الخيار المعين الذي اتبعه الرجل، بل هي من صميم حقه في ان يختار النهج الذي يؤمن به، فإن ضنّ عليه السلطان بذلك الحق، وحرمه منه، فهو يحرم كل واحد منا الحقوق ذاتها، على مختلف مشاربنا السياسية والعقائدية. لقد أفسد النظام السياسي المصري وغيره مقولة الاستبداد الانتقائي الرشيد، وأثبت ان النزعة السلطوية لا تقف عند حد من تلقاء ذاتها، وما لم يكن هناك حاجز يعترض سبيلها. لقد كان من الضار إذاً الوقوف موقف المتفرج من سياسة الحكومة المصرية التي انتهكت حقوق الاخوان المسلمين السياسية والانسانية ولا تزال. فقد أصبح من الثابت انه ان كان هدفنا تحقيق الديموقراطية علينا ان لا نقبل بسياسة الاستبداد الانتقائي. فالحكومة التي حاولت ان توهم العالم بأنها تعمل بحكمة من أجل حصر مفاعيل العنف، امتدت يدها حالاً الى من هم من العاملين في اطار الشرعية والسلم الأهلي البنّاء عندما وقف احدهم موقف المحاسب والمواطن المراقب لها. ان الالتفاف حول ثوابت حضارية، ولو كانت محصورة في اطار نخبوي، تقينا من مثل هذا الموقف المؤسف الذي يقفه الآن سعد الدين ابراهيم وهو يعاني من الكيد الرسمي والتحامل والظلم. ان مستقبل المواطن العربي الحر يكمن في نصرة سعد الدين ابراهيم والمضطهدين من الاخوان المسلمين، وكل مضطهد رأي في هذا العالم العربي الذي تضيق فيه آفاق الحرية يوماً بعد يوم بينما هي تتسع في سائر بلدان العالم. * كاتب لبناني. أستاذ جامعي في الولاياتالمتحدة الأميركية.