مازالت ظاهرة تصدر حركات الإسلام السياسي للمشهد في عددٍ من دول الوطن العربي آخذة في التصاعد، فبعدما حازوا أكثرية برلمانية في ثلاث دول هي المغرب، وتونس ومصر، ها هم على أعتاب استحقاقات نيابية في الجزائر وليبيا والأردن واليمن وسط توقعات بأن تكون الغلبة فيها لهم. وفي سوريا، لم يتفق معارضو بشار الأسد مع الموالين له على شيء منذ بدء الثورة السورية، إلا على ارتفاع فرص الإخوان المسلمين إذا ما سقط النظام، الذي لجأ لاستخدام هذه الورقة لإطالة أمد بقائه مستغلا مخاوفَ غربية منهم. هذا المد الإخواني – الأصولي، الذي أصبح السمة المميزة لربيع الثورات العربية، يثير تساؤلاتٍ تبدأ من البحث عن الأسباب الحقيقية لصعود حركات الإسلام السياسي لتصل إلى ما هو أبعد، كيف ستصوغ علاقاتها مع المخالفين لها سياسيا؟ وهل ستقبل بقواعد تداول السلطة أم ستتمسك بها للأبد؟ هل لديها القدرة على إصلاح مؤسسات الدولة وتحييدها أم ستحاول اختطافها؟ وكيف ستبني هذه التيارات بما تحمله من تنوعٍ في الأفكار العلاقة بينها مستقبلا؟ أسباب الصعود.. ما هو أبعد من تنظيم الصفوف إذا كان الإخوان المسلمون في مصر يتسمون بتنظيمٍ شديد ساهم في نيلهم أكثرية برلمانية، فكيف تمكنت حركة النهضة في تونس من نفس الأمر رغم منع زين العابدين بن علي ومن قبله الحبيب بورقيبة لنشاطها والزج بقياداتها وناشطيها في السجون بعد تقديمهم للمحاكم العسكرية؟ بمقارنةٍ بين شعارات منافسي «النهضة» في انتخابات المجلس التأسيسي التونسي من الليبراليين والتقدميين، والتي لم تخرج عن مثلث «حرية المرأة وحرية التعبير وعلمانية الدولة»، وبين تلك التي كان يرفعها نظام بن علي منذ عام 87 وحتى سقوطه، يمكن التوصل إلى أن الفارق لم يكن كبيراً، هذا ما وعت له «النهضة» مبكرا فلم تركن إلى شعار تحقيق الحرية فقط وإنما ربطته بمفهومي «العدالة» و»التنمية»، لذا أحس الناخب التونسي أن في برنامج الحركة الإسلامية ما يختلف جذريا عن عصر وشعارات «بن علي»، والتي دار في فلكها المنافسون فارتبطوا في الأذهان بالنظام القديم وإن كان من بينهم من عارضوه. وعلى نفس المنوال تسير حركات الإسلام السياسي في العالم العربي، تجافي في شعاراتها كل ما يرتبط بالأنظمة السابقة وإن بدا إيجابيا، وهو عنصر تُضاف إليه عناصر أخرى أهمها المرونة في التعامل مع الأوضاع السياسية، فهي تركز على إدارة المجتمعات مستغلة أي إصلاحات سياسية توافق عليها الأنظمة وإن كانت ضئيلة. فيما يصر غير الإسلاميين، وخاصةً الحركات التي كونها شباب الربيع العربي، على إعادة تشكيل المجتمع وفقا لرؤيتهم، ففي المغرب – كمثال- قاطع شباب حركة «20 فبراير»، الذين بدأوا الحراك السياسي، الانتخابات التشريعية، وأمام فشل حكومات القوى المدنية في إدارة الدولة خلال السنوات الماضية، تمكن حزب إسلامي، هو «العدالة والتنمية»، من اكتساح الاستحقاق النيابي وشكل حكومة مستفيدا من هامش الحرية الذي أتاحه النظام الملكي.وتتسم حركات الإسلام السياسي بالتركيز على أعمال النفع العام كأداة لربط المجتمع بمشروعها السياسي، فيما يبني الكثير من منافسيهم برامجهم على نقض أفكار التيار الإسلامي والهجوم عليها، عمار علي حسن ويقول الباحث في شؤون الإسلام السياسي في مصر، د. عمار علي حسن، إن التيار المدني يعاني غياب الرؤية القائمة على ظروف المجتمعات العربية والإسلامية ويقتبس مفاهيم سياسية كما هي من الغرب دون تعريبها، إلا قلة يصفها «حسن» بأنها تقف على أرضية حضارية شرقية. وينتقد «حسن»، في حديثه ل «الشرق»، تشرذم المدنيين ويضرب المثل ب «ليبراليي مصر» قائلا «تشرذمهم الذي يُسأل النظام السابق عن جزء منه أدى الى إتاحة مساحة أكبر للإسلاميين»، معتبراً أن حركات الإسلام السياسي تهيأت لها عوامل النجاح في هذه الجولة فاستغلوها. ولكن هل تستمر أسباب تفوق هذه التيارات؟ يرى عمار علي حسن أن أسهم تيارات الإسلام السياسي في تصاعد، وأن الحل لمجابهتهم هو تشكيل تيارات سياسية جديدة على مستوى الدول العربية تقوم على أساسين، الأول طرح أفكار غير متصادمة مع قيم المجتمعات الدينية والثاني التركيز على مشكلات المواطنين وليس على هموم النخب والمثقفين. الإخوان والأصوليون.. تباعد فكري وتقارب سياسي وصدام «مرتقب» عمرو هاشم ربيع على عكس العلاقة بين حركات الإسلام السياسي ومعارضيها، تتسم العلاقة بين مكونات التيار الإسلامي المهتم بالسياسة، وتحديدا الرافدين الأكبر وهما الإخوان والأصوليين المشتغلين بالسياسة، تتسم بالوضوح، فهي، كما يصفها الباحث في شؤون الإسلام السياسي، د. عمرو هاشم ربيع، علاقة خلاف فكري قديم وتقارب سياسي حديث يستهدف إيصال المشروع السياسي ذي الطبيعة الإسلامية إلى سدة الحكم في مواجهة مشروعات أخرى تؤمن ب «مدنية الدولة». لكن «ربيع»، في حديثه مع «الشرق»، يتوقع ألا يستمر التناغم بين التيار الإخواني والسلفي طويلا وأن تطفو الخلافات بينهما في السطح مع أول تباين سياسي، «فالسلفيون يعتبرون أنفسهم أكثر التيارات تعبيرا عن فكرة الدولة التي يحكمها مشروع إسلامي، ويأخذون على الإخوان عقدهم تحالفات مع تيارات تعادي الدعوة لتطبيق الشريعة، فيما يرى الإخوان أنهم الأكثر خبرة وقدرة على تصدر المشهد وأن السلفيين قليلو الخبرة في الممارسة السياسية بما تفرضه من تعاملٍ مرن مع المخالفين». وتكمن خطورة تزايد الخلافات السلفية الإخوانية، كمال حبيب كما يقول الباحث السياسي المصري كمال حبيب ل «الشرق»، في أنها تشق الصف الإسلامي وتتيح الفرصة أمام من يعتقدون بفصل الدين عن الدولة للتدليل على صحة أطروحاتهم، وينتقد «حبيب» عدم اتفاق الإخوان والسلفيين على هيئة وسطية تقرِّب وجهات النظر بينهما وتدفع الأصوليين إلى التخلي عن نظرتهم العقائدية للإخوان ولبقية الفصائل السياسية. ويربط «حبيب» بين استمرار حركات الإسلام السياسي في صدارة المشهد أطول فترة ممكنة ونجاحهم في توحيد صفوفهم، واصفا الخلافات بين الإخوان والفصيل المسيَّس من السلفيين، والتي ظهرت بوادرها في الاستحقاق النيابي الأخير في مصر، ب»الخطيرة»، متوقعا -حال استمرارها- حدوث فجوة على المدى الطويل بين الشارع العربي و»المشروع الإسلامي». وتتخذ مظاهر الخلاف «الإخواني- الأصولي» وتيرة أكثر تصاعداً في تونس والمغرب قياساً بمصر، ففي تونس تسعى حكومة «النهضة» للسيطرة على تحركات سلفية تتسم بالعنف تجاه التيارات العلمانية في دولةٍ عاشت سنوات على مبدأ تحييد الدين، وفي المغرب قالها رئيس الحكومة «الإسلامية» عبد الإله بنكيران صراحةً «على جماعة العدل والإحسان الأصولية عدم اللعب بالنار.. عليهم تقديم العون أو ليركنوا للهدوء».تصريحات الحكومتين الإسلاميتين في تونس والرباط تشي بأن الصدام بين الإخوان والأصوليين في الوطن العربي يبدو مرتقباً، خاصةً أن التباين في المواقف انتقل من الملفات الداخلية إلى صعيد السياسة الخارجية، ففي حين يرى الاتجاه الأصولي وجوب قطع العلاقات مع إيران ردا على محاولتها التمدد إقليمياً، يعتقد الإخوان أن العلاقة مع طهران ينبغي أن تحددها مواقفها من قضايا المنطقة رافضين القطيعة الاستراتيجية معها. تداول السلطة.. هدف أم وسيلة ناجح إبراهيم تبدو علاقة حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي بالمخالفين لها سياسيا علاقة غامضة لا تحكمها قواعد ثابتة وإنما يشوبها مد وجزر، وهو ما يرجعه الباحثون في ملف حركات الإسلام السياسي إلى ما يسمونه الاستعداد الإخواني – الأصولي للانتقال من مرحلة «الصبر» إلى مرحلة «التمكين»، وهو ما قد يتبعه تجاهلٌ لمطالب ورؤى الآخرين. هذا الانتقال المتدرج من سياسة التودد والمجاراة إلى خطاب صدامي يتسم بالزهو باللحظة التاريخية والتنافر مع الآخر يرى فيه كبير منظري الجماعات الإسلامية في مصر، د. ناجح إبراهيم، خطرا على الإسلاميين المشتغلين بالسياسة قبل غيرهم إذا تحقق بالفعل وتهديداً لفكرة المشروع السياسي الإسلامي. حسن نافعة البحث في علاقة الإسلاميين المنخرطين في العمل السياسي بفرقائهم يطرح سؤالا آخر، وهو هل يقبل الإخوان ومن بعدهم السلفيون بتداول السلطة وفق آليات الديمقراطية التي أتت بهم، أم سيتمسكون بالحكم متى أتيح لهم ذلك؟ يتوقع د. ناجح إبراهيم، أحد من راجعوا فكر الجماعات الإسلامية خلال الثلاثين سنة الماضية، ألا يتنازل الإسلاميون عن السلطة مجدداً ليس بالانقلاب وإنما لأن السلطة ستعطيهم قوة وستجعلهم الأقدر على الاستمرار سياسيا حتى تضعُف تنظيماتهم، ورغم رفض ناجح إبراهيم الجزم باحتمالية انقلاب الإخوان والأصوليين على آليات الديمقراطية، إلا أن أستاذ العلوم السياسية والناشط السياسي البارز في مصر، حسن نافعة، يبدو أكثر تشاؤماً، إذ يبدي تخوفه من أن تكون الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي هي الأولى والأخيرة في المنطقة العربية، مشيرا إلى ما أسماه عدم قناعة كثير من الفصائل الإسلامية التي وصلت إلى السلطة بآليات الديمقراطية وإن اعتمدوا عليها الآن لتعينهم على تصدر المشهد، وهو ما قد يدفعهم، حسب قوله، إلى تغييرها لاحقاً بما حازوه من قدرة على رسم التشريعات وكتابة الدساتير لحفظ مكانهم. ويتوقع «نافعة»، في حديثه مع «الشرق»، أن تقود ردة حركات الإسلام السياسي عن قواعد تداول السلطة – إن حدثت- إلى أحد طريقين، الأول انقلابات عسكرية في المنطقة مؤيَّدة من التيارات المدنية مثلما جرى في الجزائر مطلع التسعينات، والثاني اندلاع ثورات اجتماعية للإطاحة بالإخوان والأصوليين قد تتسم بطابع عنيف. استقلالية مؤسسات الدولة.. تجربة حماس تثير المخاوف حينما وصلت حركة حماس، المنتمية لتنظيم الإخوان المسلمين، إلى السلطة في فلسطين عام 2006 عبر آلية الانتخاب، تعهدت بإصلاح مؤسسات الدولة وتحييدها وعدم قصرها التعيين في المناصب على أبناء الحركة. محمد السعيد إدريس وبعد ست سنوات يعترف المستشار السياسي لرئيس الحكومة «المُقالة» في قطاع غزة، أحمد يوسف، في حوار سابق ل»الشرق»، بوقوع حماس في خطأ تكريس التوظيف على أساس حزبي جعل الولاء مقدَّماً كمعيار لشغل المناصب على الكفاءة. ويثير اعتراف حماس، الذي أتى متأخرا، المخاوف من تكرار التجربة في دول الربيع العربي، وهو ما يجعل عملية تحييد مؤسسات الدولة بمثابة تحد أكبر أمام حركات الإسلام السياسي، بحسب رئيس لجنة الشؤون العربية في البرلمان المصري، د. محمد السعيد إدريس، الذى يرى، في حديثه ل»الشرق»، أن هذه التيارات لن تصل إلى أفضل مما وصلت إليه الأنظمة التي أطاحت بها الثورات، إذا لم تلزم نفسها بعدم السيطرة على مؤسسات الدولة من قضاء وأمن وجهازين رقابي وإداري، ويتوقف إصلاح مؤسسات الدولة، بحسب «إدريس»، على إبعادها عن سطوة الأغلبية السياسية. نيفين عبد الخالق لكن تشاؤماً واضحاً يبدو في نبرة حديث أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة، د. نيفين عبدالخالق، ل»الشرق» حيث تقول «لا سبيل لحماية مؤسسات الدولة من الإسلام السياسي، لقد وصلوا للسلطة وستمضي تجربتهم لنهايتها، الشعوب في الدول التي حكمتها أنظمة سقطت بالثورة تتوق لهذه التجربة، وضعف المؤسسات في عهد الأنظمة السابقة سيحول دون تحييدها وبالتالي سيسهل تلونها بلون التيارات الإسلامية». وتتوقع «عبدالخالق» أن يؤدي إشراف الأغلبيات البرلمانية ذات الطابع الإسلامي على عمليات كتابة الدستور إلى الحيلولة دون وضع مواد تفصل بين النظام السياسي والمؤسسات، معتبرةً أن مكونات المجتمع المدني في الوطن العربي ليست بالقوة التي يمكن بها مواجهة تسييس أجهزة الدولة، وتكمل «تجربة الإسلاميين المشتغلين بالسياسة تسير في طريقها، وبدأت تحظى بدعم من أطراف دولية كانت تعارضها سابقاً، ولا أعتقد أن هناك مشروعا سياسيا يمكنه مجابهتها في الوقت الحالي». الإسلاميون صعدوا في أربع دول ويسعون للصعود في أربع دول أخرى قريبا (الشرق)