فشل «الربيع العربي» في تغيير أفكارنا وتصوراتنا وأطروحاتنا عن أنفسنا ومجتمعاتنا وظواهرنا السياسية والاجتماعية. ولا يزال كثير من المعلقين والكتاب والمثقفين العرب أسرى للنماذج التفسيرية التقليدية التي تشكلت إبان الفترة السلطوية والتي كان يُفترض أنها سقطت مع سقوط أنظمة القمع والاستبداد. وقد وصل الأمر أخيراً إلى التعاطي مع هذه النماذج التفسيرية وكأنها حقائق مطلقة غير قابلة للنقاش، ما جعلها أشبه بأساطير تحجب أي حوار علمي ومنهجي حول مقولاتها وفرضياتها الأساسية. وإذا استبعدنا من هذه الأساطير كل ما هو أيديولوجي وأحياناً شخصي، فإنها تفقد قوتها التأثيرية وحجتها الإقناعية. أقول هذا تعليقاً على الكتابات والتعليقات التي خرجت تعقيباً على فوز حركة «النهضة» التونسية بنسبة معقولة في انتخابات المجلس التأسيسي التونسي المنوط به كتابة دستور جديد للبلاد خلال فترة لا تزيد على عام. والتي لم تخرج جميعاً إما عن التبشير والتهليل للصعود الثاني للإسلاميين (هذا إذا ما اعتبرنا أن الصعود الأول حدث أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات فيما سُمّي وقتها بالصحوة الإسلامية) أو التخويف وشيطنة هذا الصعود واعتباره فألاً سيئاً على مستقبل الربيع العربي. وإذا كان موضوع هذا المقال يتجاوز ما حدث في تونس للتدقيق في كيفية فهم النخبة العربية لموضوع الإسلاميين بوجه عام، إلا أن من الضروري الإشارة إلي نقطتين مهمتين متعلقتين بالحالة التونسية، أولهما أنه لو قِيس فوز حزب «النهضة» كمياً لوجدناه فوزاً عادياً إن لم يكن أقل مما كان متوقعاً مقارنة بحجم التهويل الإعلامي الذي سبق إجراء الانتخابات. فقد فاز الحزب بحوالى 40 في المئة فقط من إجمالي مقاعد المجلس التأسيسي وهي نسبة لا تخوّل «النهضة» وضع الدستور الجديد للبلاد أو تشكيل الحكومة في شكل منفرد، في حين أن الوجه الآخر لهذه النسبة هو أن هناك حوالي 60 في المئة من التونسيين (أي الغالبية) إن لم يكونوا قد صوتوا ضد «النهضة» فعلى الأقل ليسوا معه. وهي نسبة تكشف مدى تهافت حجج كلا الطرفين المهللين والناقمين لفوز «النهضة». والنقطة الثانية هي أن اختزال المشهد السياسي في تونس في مجرد فوز حزب «النهضة» من دون النظر إلى بقية جوانب هذا المشهد من حيث نسبة المشاركة السياسية ونزاهة العملية الانتخابية من أولها وحتى نهايتها، وسلمية وحضارية الصراع المدني بين القوى السياسية، يظلم التجربة التونسية الوليدة ويطمس الكثير من جوانبها المشرقة التي قد تعطينا الأمل في إقامة ديموقراطيات راسخة في هذه المنطقة. وعليه فإن التجربة التونسية بقدر ما كانت اختباراً أولياً لقدرة التونسيين على بناء دولتهم الديموقراطية، فإنها أيضاً كانت محكاً واختباراً مهماً لتصورات النخبة العربية وأطروحاتها حول المسألة الإسلامية. وهنا أطرح مجموعة من الأساطير التي تهيمن على وعينا النخبوي وتحجب عقولنا عن التعامل الموضوعي مع هذه الظاهرة المعقدة، والتي تتجاوز مجرد صكّ مواقف إيديولوجية للتعبير عن الاختلاف معها. الأسطورة الأولى تتعلق بالمفاهيم وما يبنى عليها من تصورات وأنساق إدراكية وأولها هو مفهوم الإسلاميين ذاته، فقد اعتدنا قبل «الربيع العربي» أن نطوي تحت ظلال هذا المصطلح كل من يتبنى مشروعاً سياسياً وإيديولوجياً انطلاقاً من تصورات دينية. وهو مصطلح استخدمناه جميعاً سواء عمداً أو سهواً (لا أعفي نفسي من الوقوع في خطأ استخدام هذا المصطلح ولو في شكل إجرائي) ولكنه طمس أعيننا عن الاختلافات الجوهرية التي تقع بين الكتل المكوّنة لهذا المصطلح والتي قد تصل أحياناً إلى حد التضاد الفكري والإيديولوجي إن لم يكن العقائدي كما هو الحال بين الجهاديين و «الإخوان المسلمين» أو بين السلفيين والصوفية أو بين الشيعة والسلفية ... إلخ. بل الأدهى أن وظيفة المصطلح وما ارتبط به من دلالات قد انتقلت من المجال التحليلي- التفسيري إلى نظيره الإيديولوجي- العقائدي، ما خلق صراعاً مزمناً بين أهل المصطلح وغيرهم من المنتمين إلى التيارات الفكرية والسياسية الأخرى. وفي اعتقادي أن هذا التعميم لم يعد مقبولاً في مرحلة الثورات العربية ليس فقط منهجياً وموضوعياً وإنما أيضا أخلاقياً. فمنهجياً وموضوعياً لا يمكن بحال وضع الخطاب السياسي والفكري والحركي لحزب «النهضة» أو جماعة «الإخوان المسلمين» أو حزب «العدالة والتنمية» المغربي في نفس القالب التفسيري الذي توضع فيه الأحزاب السلفية أو الصوفية أو الشيعية. صحيح أن هؤلاء جميعاً ينطلقون من مرجعية دينية واحدة، بيد أن البون بينهم شاسع في الأدوات التأويلية والرؤى التفسيرية لفهم هذه المرجعية. وأخلاقياً، لا يمكن بحال تفسير هذه الاختلافات الفكرية باعتبارها إما أموراً «تكتيكية» أو مواقف موقتة تخفي وراءها انتهازية سياسية (ثمة ازدواجية هنا حين يتم استخدام هذه الحجج مع الأحزاب الإسلامية من دون غيرها من التيارات السياسية) وذلك من دون مدّ النظر أبعد من ذلك وبذل الجهد لمعرفة جوهر وحقيقة هذه الاختلافات والتي وصلت أخيراً إلى مستوى لا يمكن تخيّله (الخلافات بين «الإخوان» والسلفيين في مصر، والصوفية والسلفيين، والشيعة والسلفيين ... إلخ). الأسطورة الثانية هي هيمنة الإسلاميين على المجال العام. وهي أسطورة إيديولوجية بامتياز وتعكس صراعاً سياسياً واجتماعياً أكثر منه عقائدياً أو دينياً. فالفضاء العام الذي صنعته الأنظمة المخلوعة في تونس ومصر وليبيا كان علمانياً بامتياز (كان يصفه البعض أحياناً باللاديني كما كانت الحال في تونس). ولم يحدث تمدد للإسلاميين في هذا المجال إلا بعدما قررت هذه الأنظمة ذاتها «تديين» هذا الفضاء واستخدام الدين كأداة إما للمزايدة على «إسلاميّة» الإسلاميين لتعزيز شرعيتها (إبراهيم غرايبة، جريدة «الحياة» 29/10)، أو لضربهم ببعضهم البعض (استخدام مبارك للسلفيين لمحاصرة «الإخوان»). والأكثر من ذلك أنه لم يكن كلا الطرفين (الدولة والإسلاميين) ليلجأ لتوظيف الدين في الفضاء العام لولا قناعتهما الشديدة بقبول المجتمع لهذا الدور، وهو ما يعيدنا لطرح التساؤل الرئيس: لماذا يحتل الدين هذه الأهمية القصوى لدى المواطن العربي؟ وهو سؤال أنطولوجي بامتياز تتجاوز إجابته حدود هذه المساحة. أما ما يدحض هذه الأسطورة فهي أن المجال العام الذي صنع الثورات العربية لم يكن إسلامياً بأي حال من الأحوال، وإنما كان مجالاً مدنياً ليبرالياً متحرراً من العبء الإيديولوجي لأي مرجعية فكرية. وهو ما يعني أن فرصة بقاء هذا المجال على مدنيته وليبراليته ليست مستحيلة ولكنها ترتبط بمدى إصرار وثبات أصحابه من دون استسلام لمنافسيهم من الإسلاميين. الأسطورة الثالثة تتعلق بالعلاقة بين الغرب والإسلاميين. وهي أسطورة انقلبت من النقيض إلى النقيض، ما يعكس تهافتها وعدم رجاحتها الإقناعية. فبعدما كان قسط معتبر من النخبة العربية يرى أنه لا مجال للالتقاء بين الطرفين لأسباب إيديولوجية وسياسية ... إلخ، فقد انقلبوا بعد «الربيع العربي» كي يتحدثوا ليس فقط عن حوار أو تفاهم وإنما «هوس» من الغرب بالتعاون مع الإسلاميين والتحالف معهم (راغدة درغام، «الحياة» 28/10). ولا أعتقد أن ثمة مشكلة في تبني هذا الموقف أو ذاك، وإنما المشكلة الحقيقية أن مثل هذه الأسطورة تقفز بنا إلى نتائج جاهزة يريد أصحابها التسليم بها من دون تمحيص أو تدقيق، بخاصة أنها ليست مبنية على معلومات أو شهادات موثقة من أي من طرفي الأسطورة. الأسطورة الرابعة، هي التعاطي مع الإسلاميين كتيارات دينية وإيديولوجية جامدة من دون النظر إليهم كحركات اجتماعية أو قوى سياسية تؤثر وتتأثر بما يدور حولها. ومكمن الخطر في هذه الأسطورة ليس أنها تهمل الجانب الواقعي في التعاطي مع الظاهرة الإسلامية ما يؤثر سلباً في صلاحية وموضوعية أي نموذج تفسيري يسعى لتحليلها، وإنما أيضاً يحرمنا من إمكانية استشراف مستقبل هذه الظاهرة وقراءة تحولاتها المستمرة. فهل كان يتصور أحد أن ينخرط سلفيو مصر في العمل السياسي في مرحلة بعد الثورة بعدما كان يحرموّنها في ما قبل؟ وهل تخيّلنا يوماً أن يؤسس الجهاديون أحزاباً سياسية تمارس العمل العام علناً؟ وهل توقع أحد أن يخرج من «بطن» جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، والمعروفة بمركزيتها وتماسكها الشديد، أربعة أحزاب خلال أقل من ستة أشهر؟ أما الأسطورة الخامسة والأخيرة فتتعلق بالحتمية التاريخية سواء لهيمنة الإسلاميين أو فشلهم. فالمنافحون عن الإسلاميين يعتقدون أن نجاحهم أمر لا مفرّ منه ليس فقط لأنهم يحملون الحقيقة المطلقة ولكن لأنهم الأقرب إلى الناس والشارع فضلاً عن ضعف منافسيهم. أما الرافضون فيعتقدون أن فشل الإسلاميين أمر حتمي حتى وإن حققوا فوزاً انتخابياً هنا أو هناك (هنا يتم استحضار تجارب إيران والسودان وأفغانستان و «حماس»). وهي أسطورة قاصرة ومضلّلة في الوقت ذاته كونها تتعاطى مع الجمهور (الطرف الغائب دوماً عن التحليل) باعتباره كتلة ساذجة لا تملك قرارها. وغاب عن الطرفين أن هذه الكتلة أزاحت أنظمة سلطوية عتيقة من دون توجيه من هذا الطرف أو ذاك. ولعل من المحزن أن تظل النخبة العربية حبيسة هذه الأساطير والأوهام، في وقت بدأ كثير من الباحثين الغربيين التخلّي عنها لمصلحة قراءة أكثر واقعية وموضوعية لفهم الظاهرة الإسلامية. * كاتب وأكاديمي مصري - جامعة دورهام - بريطانيا. [email protected]